يحيى محمد
إن أول ما يصادفنا مع الشيخ شهاب الدين السهروردي (المقتول سنة 587هـ) هو المنهج الذي كشف عنه في الجمع بين الفلسفة والعرفان، أو العقل والكشف. فقد طمح إلى مزيد من التوحيد بين الوجوديين، وتجاوز بذلك محاولة كل من الفارابي وإبن باجة في التوحيد بين الفلاسفة. إذ التوحيد الذي سعى إليه السهروردي هو الجمع بين طريقتي الفلاسفة والعرفاء، فإحداهما تكمل الأخرى، وأن أياً منهما لا تستغني عن الثانية. وكانت ركيزته في هذا الجمع مستوحاة من دينامو التفكير الوجودي المتمثل بالسنخية، وهو الذي تأسست عليه رؤيته الإشراقية. فهو يرى أن عوالم الوجود بعضها يسانخ البعض الآخر، بدءاً من مبدأ الوجود الأول وحتى العالم الجسماني المادي. حيث جميع الموجودات تطلب الكمال والتشبه بالمبدأ الأول، تبعاً للعشق الذي لولاه «ما حدث حادث ولا تكّون كائن أصلاً»، وإن تفاوتت في تشبهها بالأول تبعاً لتباين مراتبها وأوضاعها الخاصة1.
وفي الرؤية الإشراقية للسهروردي نجد إمتثالاً وتنظيراً واعياً لمذهب افلاطون في المثل لحل مشكلة وجود الكثرة والتنوع في عالم الطبيعة، الأمر الذي جعله يصف هذا الفيلسوف رئيساً للإشراقيين في قبال أرسطو زعيم المشّائين. فهو يقيم الوجود على المبدأ الأول الذي يصفه بـ «نور الأنوار»، حيث منه تنشأ طبقات الأنوار المتباينة. فهناك أولاً العقول المتسلسلة والمترابطة في ما بينها بنظام العلة والمعلول، وهي المسماة بالعقول الطولية. كما أن هناك طبقة ثانية من العقول أدنى من الأولى، وهي لا ترتبط مثل سابقتها برباط التسلسل أو العلة والمعلول، بل وجودها وجود أفقي، ومهمتها تدبير الأنواع وحفظها، حيث لكل نوع؛ فرد عقلي مجرد في عالم الإبداع هو من حقيقة ذلك النوع2، وهي المسماة عنده بالعقول العرضية أو أرباب الأنواع، بإعتبارها عللاً لما تحتها من الأنواع. ويطلق عليها أحياناً الأسماء الإلهية أو أسماء الله الحسنى3، وهي المعنية – لدى صدر المتألهين - بقوله تعالى: ((انبئهم بأسمائهم)). كما يوظف لها أحياناً بعض الأحاديث، كالرواية المنقولة عن النبي (ص) وهي قوله: أتاني ملك الجبال وملك البحار وملك الامطار4.
وللعقول العرضية أهمية خاصة لدى السهروردي، إذ يناط بها تفسير الكثرة في عالم الطبيعة والتي تعجز عن تفسيرها نظرية العقل الفعال (الأخير) لدى الإتجاه المشائي. وهي عقول تتفق أو تتطابق مع المثل الرياضية المتوسطة عند افلاطون. كما أن العقول الطولية عنده تتفق بدورها مع مثل افلاطون العشرة.
ومع هذا فالسهروردي يضيف إلى ذلك عالماً جديداً يتموضع بحسب مبدأ السنخية بين العالمين العقلي والحسي، وهو العالم النفسي الخيالي، أو عالم المثل المعلقة الذي اعتبره جامعاً لكل من العقل والحس.
هكذا فهناك خمسة عوالم يجمعها رابط السنخية عند السهروردي، وهي نور الأنوار، ومن بعده العقول الطولية، ثم العرضية، ثم عالم البرزخ للمثل المعلقة، وأخيراً عالم الأنواع والأجسام المادية. فهو من جهة يقرّ بأن الإختلاف بين الأنوار المجردة العقلية لا يكون بالنوع وإنما بالنقص والكمال، طبقاً لنظرية الإمكان الأشرف التي عدها من القواعد الإشراقية5، ربما لكونه ينسبها إلى افلاطون وغيره من الحكماء القدماء، وسبق أن عرفنا كيف أن افلاطون كان يؤسس مذهبه عليها. وهو يفعل الشيء نفسه في ما يتعلق بالعوالم التي تحتها، فيرى أن أنواع العالم الطبيعي تمثل مربوبات للعقول، وهي من نفس حقيقتها، وكذا فإن عالم المثل المعلقة يتصف بكونه جامعاً بين العالمين العقلي والحسي معاً، مما يعني أنه من نفس السنخ والحقيقة.
على ان الطريقة التي اعتمدها السهروردي في المسانخة لم تستمد كيفيتها من العلم الصوري كما هو الحال مع الفلاسفة الذين سبقوه، إذ اعتبروا طبيعة الشبه بين العلة والمعلول تتخذ طابعاً صورياً طبقاً لما تحمله العلة من صورة كاملة للمعلول. بينما الحال عند السهروردي لم يتخذ هذا الشكل من المسانخة، بل اعتمد على العلم النوري الإشراقي، تبعاً لما يفيضه نور الأنوار من إضافات إشراقية تجعل جميع الموجودات منطوية في قهر نوره. فالأجرام منطوية في قهر النفوس، والنفوس منطوية في قهر نور العقول، وهكذا العقول في قهر نور المعلول الأول، وهو منطو في قهر المبدأ الحق أو نور الأنوار6.
وهو في طريقته الجديدة هذه يجسد طبيعة المسانخة والشبه بين ذوات الموجودات بعضها مع البعض الآخر، بل ويجعل من علاقات الوجود قائمة هي الأخرى على المسانخة حضوراً وثباتاً. فهو لا يفسر العلم الإلهي وفق نظرية الصور كما هو الحال عند المشّائين، فمبدأ الوجود الأول هو محض النور لديه، وأن علمه محض الإضافة الإشراقية، وبالتالي كان علمه وبصره واحداً وليس العكس. فعلمه بالأشياء هو القهر الإشراقي نفسه، وهو في حد ذاته يمثل ايجادها. فوجودها هو نفس حضورها لديه. ومع أنه يعترف بالتعدد في الإضافات «الإشراقية» للمبدأ الأول، إلا أن ذلك لا يوجب تكثراً في ذاته كما يرى، وكذا تجددها لا يوجب تغيراً فيها7.
وقد لقيت هذه الطريقة ترحيباً لدى صدر الحكماء الشيرازي، فمدحها وفضلها على طريقة إبن سينا، وإن كان ما لبث أن نقدها على قصورها، لأنه يعتقد بأن مناط العلم الإلهي بالأشياء لو كان نفس وجوداتها وظهوراتها فقط؛ فسوف لا يكون للذات أي علم كمالي للأشياء في حد ذاتها قبل وجود الأشياء8. لذا أقرّ بالعلمين معاً؛ كصورة توفيقية تجمع بين المشائية والإشراقية.
ووفقاً لمبدأ السنخية إن أهم ما في هذه الطريقة هو أنها جعلت للأشياء حضوراً ثابتاً وأزلياً، شأنها في ذلك شأن علتها الأولى، الأمر الذي تفسره الإضافة الإشراقية الثابتة. لكنها واجهت مشكلة حول علاقة العلم الإلهي بالحوادث المتغيرة. اذ تقتضي الأخيرة أن يكون العلم الشهودي لها متغيراً بالتبع، وهو ما جعل السهروردي وأتباعه من أمثال صدر المتألهين وصاحب (تحفه) يجيبون على ذلك بكون حضور الحوادث بالنسبة لعلم الله الشهودي ليس فيه غياب ولا عدم. فهي وإن كانت مقارنة ببعضها البعض تتجدد وتتعاقب وتحضر وتغيب، نظراً لضيق وعائها الوجودي، لكنها قياساً بمبدعها تكون صرف الحضور من غير تجدد ولا تعاقب ولا زمان ولا مكان، فالزمان والمكان قياساً بالله تعالى هما كالآن والنقطة، وهو محيط بشهوده على جميع الأشياء في كل مراتبها الوجودية، ومنها المرتبة الكونية الأخيرة التي هي مرتبة واحدة لا تقاس بالنسبة إليه بالماضي والمستقبل أو القبل والبعد9.
لكنها بهذا تواجه إشكالاً، كالذي ذكره المحقق الخفري، وهو أنه يلزم عنها قِدم الحوادث وأزليتها وإن لم تقع بعد. وقد ردّ عليه الفاضل الكيلاني فزعم أن الفلاسفة لا يثبتون الوجود للحوادث في الأزل، بل يعتبرونها حاضرة منذ الأزل، كل منها يوجد في وقته لا في الأزل، وبهذا لا يكون الأزل ظرفاً لوجودها وإنما لحضورها فحسب10.
والحقيقة هي أن حضور الحوادث لا يختلف عن وجودها. فهي لا تكون حاضرة إلا إذا كانت موجودة، وحضور ما هو معدوم ليس له معنى محصل، سيما أنه ليس القصد من الحضور هو ما يتعلق بالصور العلمية. إضافة إلى أن الطريقة الإشراقية لم تحدد العلم الشهودي إلا بمعنى الإيجاد، ولم تخف ما تريده من حضور الحوادث إلا بهذا الخصوص من المعنى، كما صرح بذلك صدر المتألهين في بعض المواقف، منها قوله: «علمه تعالى بالجزئيات المادية على وزان فاعليته لها، فإن جهة الإيجاد للأشياء والعالمية بها فيه واحدة، كما بُرهن عليه، فوجود الأشياء له عين علمه بها»11.
والواقع أن إعتبار الحوادث حاضرة وموجودة أزلاً وأبداً لدى جناب الحق ينسجم تماماً مع السنخية والحتمية في حضور لوازم العلم الإلهي الثابت من دون غياب ولا عدم ولا تغيير، فهذا العلم هو علة لكل ما وجد في الوجود، وانه يمثل عين الإرادة التي لا يجوز بنظر الفلاسفة أن تتأخر وتتخلف عن التعلق بالمرادات أزلاً ما دامت تنطوي تحت مشيئة العلم الإلهي الأزلي. وهي نظرية سبق أن صرح بها افلوطين الذي اعتبر الممكنات حاضرة كلها عند جناب الحق بدون زوال، وهو لا ينافي ما يحدث من زوال وغيبة في بعض أوعية الوجود12. وبالتالي فكل شيء ثابت أزلاً وأبداً، وأن التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل هو من الأوهام، شبيه بالذي لجأ إليه أينشتاين في نظريته النسبية، وأن الوجود الذي نواجهه هنا هو الوجود البارمنيدي – نسبة إلى بارمنيدس ـ.
1السهروردي: المشارعوالمطارحات،مصدرسابق،ص433.
2المبدأوالمعادلصدرالمتألهين،ص190ـ192.
3تتعلق فكرة أرباب الأنواع بكل من الإتجاه الصوفي والإشراقي مع شيء من الإختلاف. فالإتجاه الصوفي يعدها أسماء الله تعالى، بينما يعتبرها الإتجاه الإشراقي مربوبات لأسمائه تعالى. لكن المآل واحد كما هو واضح (انظر تعليقات الاستاذ حسن حسن زادة آملي على كتاب مصباح الأنس لإبن فناري، انتشارات فجر في طهران).
4شواكل الحور في شرح هياكل النور، ضمن ثلاث رسائل للمحقق الدواني، ص188. كما يوظف صدر المتألهين رواية أخرى للإشارة إلى العقول العرضية، وهي ما جاء عن الإمام علي قوله: السماوات والارض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله اربعة ملائكة يحملونه باذن الله، ملك منهم في صورة الادميين وهي اكرم الصور على الله، وهو يدعو الله ويتضرع اليه ويطلب الشفاعة والرزق لبني ادم، والملك الثاني في صورة الثور وهو سيد البهائم وهو يدعو الله ويتضرع اليه ويطلب الشفاعة والرزق للبهائم، والملك الثالث في صورة النسر، وهو سيد الطيور وهو يدعو الله ويتضرع اليه ويطلب الشفاعة والرزق للطيور، والملك الرابع في صورة الاسد، وهو سيد السباع وهو يدعو الله ويتضرع ويطلب الشفاعة والرزق لجميع السباع. ولم يكن في جميع الصور صورة احسن من الثور ولا اشد انتصاباً منه، حتى اتخذ الملأ من بني اسرائيل العجل وعبدوه، فخفض الملك الذي في صورة الثور رأسه استحياء من الله ان عبدوا من دون الله شيئاً يشبهه وتخوف ان ينزل به العذاب (تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج5، ص142).
5السهروردي: حكمةالإشراق،ضمنمجموعةمصنفاتالسهروردي،مقدمةوتصحيحهنريكربين،انجمنإسلاميحكمتوفلسفةايران،1397هـ،ص154.
6المشارعوالمطارحات،ص465.
7حكمةالإشراق،ص159ـ153. والمشارعوالمطارحات،ص465. كذلك: المبدأوالمعادلصدرالمتألهين،ص107 و110.
8المبدأوالمعادلصدرالمتألهين،ص115.
9المبدأ والمعاد لصدرالمتألهين، ص106ـ107 و128ـ129. وايقاظ النائمين، ص29. كذلك تحفه، ص262 ـ263.
10تحفه،ص264.
11ايقاظالنائمين،ص29. وتحفه،ص260.
12الأسفار،ج1،ص128 ـ129.