-
ع
+

عزّت عمر: قراءة في كتاب القطيعة بين المثقف والفقيه

 الباحث يحيى محمّد، في كتابه الجديد « القطيعة بين المثقف والفقيه» سوف يناقش موضوع «المثقف الديني» في إطار بحثيّ جديد يرتكز بشكل حاسم على الجانب المنهجي والبنيوي للمعرفة لدى العقل المثقّف، وبغضّ النظر عن الاعتبارات الأيديولوجية والمذهبية. وهو كما نرى توجّه جديد في الدراسات الدينية، حيث يعمد الباحث إلى تبيان جوانب القطيعة المعرفية بين المثقف والفقيه، وذلك ضمن محورين أساسيين

أولهما: من حيث اختلافهما في التوجّهات المعرفية كما هو قائم ومجسّد في الواقع.
وثانيهما: المقارنة بينهما ككائنين صوريين مجردين عن الواقع الموضوعي. أي باعتبارهما عقلين منتجين للمعرفة، سعياً لتبيان هويتيهما البنيويتين, من حيث «إنهما ماهيتان صوريتان محددتان تبعاً للوظيفة المعرفية التي يقومان بإنجازها»، كما وضّح في مقدّمته.تنقسم الدراسة إلى قسمين رئيسين: أسماهما: «القطيعة التشخيصية» و«القطيعة البنيوية».
حيث تناول في القسم الأول المثقف كمفهوم حديث شهد الكثير من الاختلاف والتباين في تعريفه، وهو لذلك سيسعى لتبيان وجهة نظره في هذا الكائن بوصفه إفرازا مجتمعيا ساهم الواقع في تطوّره من حيث الدراسة الأكاديمية، ليتميّز فيما بعد بقدرته الواسعة على الإطلاع والاستفادة من المعارف العلمية المتنوّعة، بما يؤهّله لأن يمتلك القدرة على الإدراك النظري فهماً وتأسيساً. وعلى اعتبار أن هذه المعارف مستمدة من الواقع وممارسة التحليل العقلي، فإنه ستتكون لديه المقدرة العالية على النقد والتفكير والتمييز بين الآراء التي لها علاقة بالواقع ومجرى الأحداث العامة.
وبالتالي فإن اهتماماته سوف تنصّب على قضايا المجتمع، باعتباره كائناً معرفياً فاعلاً يمكنه أن يؤثّر على حركة الوسط الذي يتفاعل معه بما يبتكره من أفكار وما يقدّمه من معارف، ومن ثمّ بما يساهم به في صنع الرأي العام.
وإلى ذلك فإن الباحث سوف يميّز بين فئتين من المثقفين: فئة المنظّرين والمبتكرين، والفئة التي ليس لديها القدرة على التنظير والابتكار، وإنما لها القدرة على التمييز وتبني ما تطرحه الفئة الأولى من أفكار ومبادئ، وسيسمّيها بفئة المثقفين العاديين.
ولمّا كان المثقف الديني إطار بحثه الرئيس، فإنه سوف يسعى لتحديد طبيعة هذا المثقف الملتزم وصاحب الإيمان الصادق بالإسلام كمبدأ عقائديّ وحضاريّ ليس في ذلك اختلاف بينه وبين الفقيه من جهة المرجعية، وإنما في الفارق بالفهم والأسلوب، ليخلص ثلاث عقليات منتجة تتشكّل ضمن ثلاث دوائر بنيوية للمعرفة، وهي: دائرة الفقيه ومن على شاكلته من النصوصيين، ودائرة المثقف العلماني، وأخيراً دائرة المثقف الديني.
وسيعمل على تبيان حالات التفارق والتشابه بين هذه الدوائر الثلاث، حيث يلاحظ التضاد الحاد بين الدائرتين الأوليتين، (الفقيه والعلماني) بينما تقع دائرة المثقف الديني في الوسط منهما تشترك مع كلّ منهما في جوانب معينة، وتختلف معهما في جوانب أخرى،
وإلى ذلك فإن المثقف الديني يتمسك بحبلين، بتعبيره، أحدهما هو ذات ما ينتمي إليه الفقيه، وإن اختلف معه بالكيفية، والآخر يعود إلى ما ينتمي إليه العلماني وإن اختلف معه الآخر بالكيفية والتفسير، وسيفصّل الباحث كلّ دائرة من هذه الدوائر من خلال أبرز أعلامها في الفكر النهضوي العربي الذين يمكن تصنيفهم في تيارات شتّى تعرّض إليها وناقش توجّهاتها.
أما ما يخصّ القطيعة بين المثقف الديني والفقيه، فإنه سوف يوضّح أن ظاهرة المثقف الديني، هي ظاهرة جديدة لم تعرف من قبل، وهو إلى ذلك مدين بمرجعيته المعرفية إلى الواقع لكونه لم يولد في أحضان الفقهاء، ولم يكن في ميدانه الجديد من أهل الصنعة التي هم عليها،
فإنه لذلك شكّل ظاهرة جديدة هي التي أفضت إلى القطيعة بينه وبين الفقيه، حيث من جهة وعلى صعيد الواقع الاجتماعي والسياسي، سوف يثير هذا الواقع المثقف الديني، وخصوصاً ما يتعلّق بالمصالح والحقوق العامة، في حين أن ما يثير الفقيه هو القضايا الدينية من الشعائر والحدود والعبادات، ولذا: «تجد هذا الأخير لا يمانع عادة من مداهنة السلطان المسلم الظالم، ويمتنع أن يفعل نفس الشيء مع السلطان الكافر العادل.
وعلى خلافه يلجأ المثقف الديني إلى مداهنة السلطان العادل وإن كان كافراً ويفضّله على السلطان الظالم وإن كان مسلماً.» والدليل على ذلك أن الكواكبي كثيراً ما مجد الحكومات الغربية وفضّلها على الحكومات المسلمة تبعاً لاعتبارات العدالة وخدمة المجتمع، وتبعاً للحساسية الواقعية فقد رجّح الوفاق الوطني والقومي على الديني والمذهبي، حيث دعا إلى المساواة والإخاء والوطنية مع غير المسلمين.. وإلى ذلك، أيضاً،
وبتعبير المؤلّف، فإن المثقف أكثر مرونة وانفتاحاً على الآخر من الفقيه، حيث يخالف نزعة الفقيه التي تمرّست على الفرقة والتمذهب والتضليل تبعاً لمقولة الفرقة الناجية، بينما المثقف الديني يتوق إلى جمع الشمل ويؤمن بالأخوة الصادقة بين الطوائف الإسلامية، بل وينحاز إلى الأخوة العالمية الشاملة، فمثلاً إن الكواكبي بفعل المرونة والتطلّع إلى تجارب الأمم، له أحاسيس تسع لعالم الإنسانية كلّها،
بحيث يصبح الناس جميعاً هم قومه وليس قبيلته، والأرض هي وطنه وليس بلده الذي ولد فيه وترعرع معتبراً ذلك من جملة الكمالات بالخصال كما جاء في كتابه «طبائع الاستبداد»، والتفضيل لديه بحسب التقوى التي فهمها فهماً يختلف عما لدى الفقيه، وهو أنها تعمّ غير المسلمين بإطلاق. وأكثر من هذا أنه لا يتحفّظ من ثنائه ووثوقه بالغرب، وذلك لما قدّمه من تشريعات وتنظيمات عدّها نفسها التي يقصدها الدين ويرضى بها الله تعالى.
ومن هنا فإنه سوف يرى أن المفكر كان يعي تمايزه عن الفقيه والقطيعة معه، حيث يرى نفسه رسول الإصلاح سواء على الصعيد المعرفي، وذلك بإعادة فهم الدين فهماً حضارياً مؤدلجاً لا يتصادم فيه مع الانفتاح الحضاري ومتطلّبات العصر، أو على الصعيد الاجتماعي عبر العمل على توعية الأمة ودفعها بالطريق التي يكون لها شيء من الحقّ الخيار، وسيورد شواهد عديدة لمواقف كلّ من عبد الرحمن الكواكبي، والشيخ محمد عبده، والأفغاني وغيرهم.
القسم الثاني: «القطيعة المعرفية» يتألف من فصلين رئيسين جاء أوّلهما بعنوان، «المرتكزات المعرفية» ناقش من خلاله المرتكزات المعرفية لكل من المثقف والفقيه، أي جملة المصادر والمناهج والأصول التي يعتمد عليها في توليد الرؤى والمضامين المعرفية، وسيبين كلّ ذلك بالتفصيل، وفق ما أسماه بـ «تساؤلات وشبهات» تتعلّق بالمصدر المعرفي، بعضها يخصّ المثقف أو المفكّر، والبعض الآخر يخصّ الفقيه، وذلك وفق النقاط التالية:
آ ـ المصدر المعرفي: ناقش من خلاله موضوعات عديدة الواقع للعقل المثقف، نفي مرجعية الواقع للعقل الفقيه، مبادئ الاجتهاد ومرجعية الواقع، مرتبة النصّ في العقل المثقف.
ب ـ الآلية المعرفية: ويحددها بالمصدر المعرفي الذي سيتحكّم في الرؤية والاجتهاد، ومثاله إنه إذا كان المصدر المعرفيّ لدى الفقيه يتمثّل بالنصّ، فإن آليته الاجتهادية بيانية تتّخذ من اللغة أداة للفهم والتوليد. بمعنى أن الحصيلة المعرفية لدى الفقيه لا تتمّ إلاّ من خلال النظر في النصّ عبر الآلية البيانية،
وبالتالي فإن الإشكالية التي تقع في طريق هذه العملية لا تتجاوز في الغالب إشكالية البحث عن السند والدلالة. بينما مع المفكّر الذي تحددت مرجعيته المعرفية بالواقع من جهة، وارتباطه بتوجيه النصّ من جهة ثانية، فإن آليته الاجتهادية هي آلية عقلائية نقدية موجّهة، والعقلائية مصطلح بديل عن العقلانية يقترحه وما يقتضيه من الرجوع إلى العقل والواقع في فهم الأمور وكسب الحقائق، ينضاف إلى ذلك ممارسته النقدية والتنظيرية.
ج ـ المولّدات والموجّهات المعرفية: ومما تطرّق إليه: الموجّهات النصّية، الموجّهات العقلية، المولدات الواقعية.
الفصل الثاني من القسم الثاني سينضوي تحت مسمّى الخصائص المعرفية، حيث يتناول جملة من الخصائص العامة التي تترتب على طبيعة المرتكزات لدى كلّ من المثقف والفقيه ومن ذلك: الهدف المعرفيّ، وهو لدى الفقيه «تديين الواقع» ولدى المثقف «توقيع الدين» أي جعله يتّخذ صبغة واقعية تتحقق من خلاله المصلحة الإنسانية. ومن ذلك أيضاً «الوسيلة المعرفية» ويقصد بها مقدار المرونة في التعامل مع المعرفة، حيث يجد المثقف مرناً ومتطوّراً مع مستجدات الواقع، بينما الفقيه على عكسه، ومثاله منظور الرؤية إلى الجهاد لدى كلّ منهما.
وفي إطار «القيمة المعرفية» سيقارن بين مطلقية الرؤى لدى الفقيه ونسبيتها لدى المثقف، وكذلك الأمر بالنسبة لـ «الروح المعرفية» حيث يشير إلى أن الفقيه يعتمد في مرجعيته التكوينية على النصّ، وما يعوّل عليه في ذلك هو الأخبار والروايات، حيث يغلب الطابع الإعجازي في هذه المنقولات الظنية الصدور، وبذلك فإنه تشكّلت لديه بنية تجويزية سواء من حيث استناده الرئيس إلى نصّ الحديث، أو من حيث تعويله في الغالب على المذهب الأشعريّ.
في حين أن المثقف الديني المرتكز في مرجعيته التكوينية إلى الواقع يؤكّد الطابع السنني فلا يميل إلى ما يُنقل من تجاوز لحدود قوانين الواقع، ولا يقبل تفاسير القرآن القائمة على الخوارق غير الطبيعية، كما في مثال الشيخ محمد عبده ورشيد رضا وأحمد أمين وابن خلدون وغيرهم. أما من جهة الأيديولوجيا المعرفية، فهما أيضاً يختلفان تبعاً للحوافز التي تحرّك كلاً منهما في عملية التفاعل مع المجتمع.
وأخيراً فهما يختلفان أيضاً في «المحصلة المعرفية» حيث إن النتائج لدى الفقيه هي نتائج ظنّية بيانية عادة، بينما لدى المثقف عبارة عن نتائج ظنّية عقلائية مستمدة من الواقع في الغالب، وبالتالي فإن هاتين العقليتين ستقفان على طرفي نقيض دائماً ما لم يعترف الفقيه بمرجعيّة الواقع والوجدان العقليّ كمصدرين أساسيين في التكوين المعرفيّ. أما ما يحتاجه المثقف الديني فهو الوضوح المنهجيّ والتخصص.
عزّت عمر
عن موقع جسد الثقافة

http://www.aljsad.net/524543-post10.html

 

.

comments powered by Disqus