نقد
(نقد العقل العربي)
يحيى محمد انموذجاً
المقدمة:
ابتداءً لا ارى ضرورة لتقديم اعتذاري لقارئ هذا البحث عن عدم معرفتي بشخص الاستاذ "يحيى محمد"، وجهلي التام بظروف حياته، ان كان ميتاً او مازال حيا يرزق. على الرغم من اتفاقي الكامل مع استاذنا الجليل الدكتور حسام محي الدين الالوسي بضرورة تجنب التعامل مع الافكار وكأنها نتاج عقول خارجة عن الزمان والمكان، نتاج عبقريات فالتة من العلاقات السببية، تبدع من الفراغ وكيفما تريد. لكون هذا المنهج ينتج عنه ان الدارس يدرس فيلسوفا فلا يعرف القراء زمانه ومكانه، تاريخ حياته، طبقته، مجتمعه، والاسس المادية والجمالية التي تحيط به. يدرسون افكاره فقط، ويتجادلون حولها وكأنها مسالة رياضية بحتة، او كأنها لابد ان تكون معبرة عن شيء، صحيحة او كاذبة بذاتها دونما أي افتراض انها ستبقى طلسما لايعرف معناه او صحته من خطئه ان لم يتبين ظروف وجوده، وماذا تعكس. وهكذا تعيش الافكار في عالمها الخاص، عالم مجرد مقطوع الصلة بالواقع الذي انشأه او جاء هو ليعبر عنه او لينفيه، فتنفصل –نتيجة ذلك المنهج- المفاهيم والكلمات والجمل والافكار عن منشئها وواقعها وتصبح مجموعة من المجردات والمطلقات، فيصار الى الحديث عن العدل والحق والخير والجمال والحب وكأنها موجودات مجردة قائمة بذاتها، فيختلط الهوى الذاتي في الاحكام مع غموض الرؤية وعمومية الفكرة وانسلاخها عن المثال المحسوس المقاس، فيقول من شاء ماشاء من احكام، فلا تقبل احكامه لا الصواب ولا الخطأ لانه حديث عام مجرد مقطوع الصلة بالحياة. (1)
على اني الفت الانتباه الى ان امرين يشفعان لي في مايبدو من عدم تكامل منهجي ذاك، اولهما هو عدم حصولي على أي مصدر عن حياة الاستاذ "يحيى محمد" لاسيما وان جلَّ مفكرينا مازالوا يغفلون كتابة نبذة عن حياتهم ترفق بمؤلفاتهم. وثانيهما اني اكتب عن مفكر يرى ان التفكير في القراءات المنهجية يتنازعه اتجاهان رئيسان، احدهما يعتمد التحليل الجواني في تفسير التراث، وذلك باتباع المنطق الداخلي للمعرفة التراثية نفسها، والاخر يعتمد التحليل البراني عبر اتباع اثر الظروف الخارجية في تكوين التراث وتطوره (2) وهو يدعو الى القراءة الاولى (الجوانية) لانها –بحسب رايه- تنفذ الى صميم الظاهرة المعرفية -لاخارجها- حيث تفترض الظاهرة كقالب منطقي يحظى بدرجة معقولة من النظام الهندسي الاكسيمي طبقا لما يفرضه المنطق الخاص بالاصول المولدة للمعرفة والتي يطلق عليها (دينامو التفكير). الامر الذي يغني –في مثل هذه الصورة- عن بحث التطورات المفصلية للظاهرة المعرفية ومراحل ظهورها ومايمكن ان تتاثر به من عوامل خارجية مختلفة عبر التاريخ(3) ويمكن للمفكر ان يبدأ بالنص وينتهي اليه، ولا يمر بالواقع عادة الا مروراً عابراً.. طالما انه لم تُقنَّن بعد عمليات المصالحة في المصدر المعرفي بين الواقع والنص، وهو امر شبيه بما شهده تاريخ الفكر الاسلامي من وجود قطيعة ضخمة بين نظاميه المعرفيين: الوجودي والمعياري(4). وتلك القطيعة والمنافاة بينهما ليست تاريخية لها علاقة باللحظات الزمنية للفكر الاسلامي، بل هي منطقية ذاتية بغض النظر عن المجرى التاريخي لهذا الفكر(5).
يهدف هذا البحث بالدرجة الاساس الى فهم خطاب "يحيى محمد" عبر نقده للمناهج الاخرى الفاعلة في تكوين الفكر العربي المعاصر –وبالذات مشروع الجابري في نقد العقل العربي- فهو بعد ان يعيب على نصر حامد ابو زيد طريقته التجزيئية التي تفتقر الى المنهجية الكلية والشاملة، وعلى حسن حنفي دورانه على مادار عليه التراث من غير ضوابط للامساك به والسيطرة عليه روحا وطرقا(6) ليصل الى مشروع الجابري(7) فيصفه بانه أنضج المشاريع العلمية لمعالجة التراث على الصعيد المنهجي، وذلك لكونه قام فعلا بالمنهجة والامساك بالنظام الكلي للفكر الاسلامي كشاغل اساس يمكن من خلاله السيطرة على مفاصل الفكر وتحديد جهاته، مستعينا في ذلك بالنقد المعرفي الابستمولوجي (8).
قسمت هذا البحث على قسمين رئيسيين: الاول يعنى بالجانب التنظيري من مشروع الجابري، وشاغله الاساس هو الرؤى والمقدمات والاسس والمناهج لذلك المشروع، والثاني يعنى بقضايا محددة تناولها الجابري، مثل القطيعة بين الفكرين المشرقي والمغربي، والفلاسفة الذين تناولهم، واخذت ابن باجة نموذجا واخيرا خاتمة تجمل النتائج التي توصل اليها البحث.
القسم الاول: النقد التنظيري/ نقد الاطر العامة
لم يكن الجابري ينوي القيام بتقديم مشروع لنقد العقل العربي منذ بدء دراسته للتراث العربي، الا انه ومع التعمق في الدراسة شعر باهمية القيام بنقد شامل للعقل العربي. وهنا بدأ مشروعه في نقد العقل العربي، وقد سبق ذلك كتاب (نحن والتراث) اذ لاحظ حاجة القارئ العربي لقراءة تراثه قراءة نقدية، وتسليط الضوء على جوانب الضعف والقوة فيه(9).
بداية يحدد الجابري مفهوم العقل بانه ليس شيئا اخرا غير هذا "الفكر" الذي نتحدث عنه: الفكر بوصفه اداة للانتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم او تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر في الوقت نفسه عن عوائق تقدمهم واسباب تخلفهم (10). وان العقل العربي ليس مقولة فارغة، ولا مفهوما ميتافيزيقيا ولا شعاراً ايديولوجياً للمدح او الذم، وانما نقصد به جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم –بهذه الدرجة او تلك من القوة والصرامة- رؤية الانسان العربي الى الاشياء، وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، مجال انتاجها واعادة انتاجها.
"والثقافة العربية بوصفها الاطار المرجعي للعقل العربي، نعدها ذات زمن واحد منذ ان تشكلت الى اليوم، زمن راكد يعيشه الانسان العربي اليوم مثلما عاشه اجداده في القرون الماضية، يعيشه من دون ان يشعر بأي اغتراب او نفي في الماضي عندما يتعامل فكرياً مع شخصيات هذا الماضي، ادبائه ومفكريه، بل بالعكس هو لايجد تمام ذاته، ولا يشعر بالاستقرار ولا بحسن الجوار الا باستغراقه فيه وانقطاعه له"(11).
ترتكز مسالة نقد الاطر العامة عند "يحيى محمد" على سؤال: كيف نفهم التراث؟ ولا شك ان هذا السؤال يعود بنا مباشرة الى التفكير المنهجي، والتفكير في الاطر المنهجية يقود الباحث الى رفض الدخول في القراءة التي تعمل على الاخذ بالتفاصيل من غير روابط عامة تشدُّها وتتحكم فيها(12)، أي انه يرفض القراءة غير المنهجية، والغرض من ذلك هو ابداء المقدمات التي يلزم معرفتها قبل الدخول بأية ممارسة لآلية الفهم، ذلك ان هذه الآلية تتحكم فيها قواعد "منطقية" وشروط معرفية قبلية لاتتحقق من دونها، في حال البحث عن حل للازمة الحضارية التي يمر بها واقعنا المعاصر، من حيث ان أي نهضة حضارية نأملها لا تتحقق الا عبر حل للاشكالية الخاصة ب(الفهم) (13).
المنهج الجواني في قراءة التراث:
يؤكد الجابري على ضرورة ربط فكر صاحب النص الذي اعيد تنظيمه بمجاله التاريخي بكل ابعاده الثقافية والايديولوجية والسياسية والاجتماعية.. وهذا التحليل التاريخي سيظل ناقصا وصورياً مجرداً، مالم يسعفه الطرح الايديولوجي، أي الكشف عن الوظيفة الايديولوجية (الاجتماعية- السياسية) التي اداها الفكر (14)، وذلك يعني اننا مطالبون باعادة كتابة تاريخنا، باحياء الزمنية والتاريخية بين مفاصله وفي اصوله وفروعه(15). لان من شان تجاهل ذلك الربط والاحياء ان تنتزع افكار من سياقها وتعزل عن اطارها، فنحن اذن في حاجة الى قراءة جديدة تنظر الى الاجزاء عبر الكل وتعمل على ابراز الوحدة عبر التعدد وتعتمد في التصنيف البنية الداخلية وليس المظاهر الخارجية وحدها، وقيمة هذه القراءة انها تبرز جوانب الاتصال والارتباط، بل الوحدة العضوية بين قطاعات تعد في التصور السائد قطاعات مستقلة منفصلة بعضها عن بعض مثل عد الفقه والنحو والبلاغة علوم منفصلة بعضها عن بعض ومستقلة بموضوعاتها ومناهجها وكذلك اعتبار علم الكلام والفلسفة علمين متجاورين متكاملين(16).
هنا يرى "يحيى محمد" في مشروع الجابري ارادة قوية، همها السعي نحو اثبات وجود نوع من الاستمرارية والتطور المعرفي كسلسلة متصلة من الحلقات بعضها يفسر البعض الاخر ويوضحه، انطلاقا لامن النظر الى ذات النظام المعرفي والياته الجوانية الخاصة، بل من الظروف البرانية التي تحيط باجواء الفكر من هنا وهناك، وكأن هناك حتمية خارجية تعمل على ايجاد الدينامية والتنظيم في الفكر داخل الظاهرة المعرفية، وربما كان هاجس هذه الارادة نابعا عما راه صاحبه من الاوروبيين وهم يكتبون تاريخهم على صورة الوحدة والاستمرارية بشكل حقب بعضها يفسر البعض الاخر ويؤسسه، الامر الذي افضى بذلك التفكير الى ان يفبرك لنا تاريخا معرفيا لا نجده الا في عالم الخيال والاحلام، وان يفرض على نفسه انواعا من الاسقاط والتأويل والادلجة(17). وهكذا كان مركز ثقل مشروع (نقد العقل العربي) –بحسب راي "يحيى محمد"- هو تغليب التاريخ والبرانية الجغرافية على العقل والجوانية المعرفية، فهو مشروع يدافع عن تاريخيه العقل وعروبته المستمدة من البيئة الجغرافية ومفرزاتها اللغوية(18)، وهنا –وليس دفاعا عن الجابري- لابد لي ان اختلف مع "يحيى محمد" في وصف منهج الجابري بـ(البرانية)، فمنهج الجابري يتصف بالتكاملية وان غلبت عليه النزعة البنيوية، لكنه نقدي يرفض البحث عن انموذج من الخارج على سبيل التقليد(19). ثم انه منهج ثلاثي الخطوات: الخطوة الاولى، هي عزل الفكر عن الواقع (القطيعة الابستمولوجية) وهذا المفهوم يعني احد الامرين، اما الفصل بين العلم الجديد الناشئ وبين ماضيه ماقبل العلمي، أي ماضيه الايديولوجي والفلسفي. او تفصل بين مرحلتين ضمن العلم نفسه وقد بلغ مرحلة النضج. وتبين للناظر في توظيف الجابري له انه يخرجه من تربته الاصلية، أي تاريخ العلوم، ليقحمه في تربة مغايرة، هي تربة تاريخ الفلسفة والتراث، ويقتضي المقام هنا التاكيد على ان الانقطاع في تاريخ العلم ليس هو ذاته في تاريخ الافكار. انه في تاريخ العلم دليل على ان الافكار العلمية قد اقبلت على انتقال نوعي وتحول كيفي يتعرض فيه ماضيها الى الترك الكلي او تضييق مجال صلاحيته، اما في مجال الا فكار فلا يكون بالضرورة دليل تقدم او انتقالاً نوعياً، بل دليل مجرد تحول يصيب حقل المعرفة مما يمنع اطلاق احكام قيمة بخصوص السابق واللاحق. ثم ان العلماء الممارسين انفسهم ينازعون في كون القطيعة داخل العلم تتمخض عما هو افضل، فما بال من يريد فرض ذلك في حقل تاريخ بارد هو حقل التراث (20). والخطوة الثانية في منهج الجابري هي التحليل التاريخي أي ربط النص بعد تحليله داخليا ببعده التاريخي، وهو امر صوري هنا –بحسب راي الدكتور حسام الالوسي- لان الواقع الاجتماعي التاريخي للنص يبقى عاملا خارجيا بعيدا عن تاريخ المادة المعرفية المحمل بها النص، وذلك ان للفكر –عنده- قانونه الخاص وتطوره المعرفي الخاص (21). والجابري بتلك العمليتين- الفصل والوصل- يبغي جعل التراث موضوعا لنا بل ان يبقى موضوعا فينا، يقدم نفسه ذاتا لنا، أي بهاتين العمليتين نتحرر من سلطة التراث علينا ونمارس نحن سلطتنا عليه(22). واما الخطوة الثالثة فهي المعالجة الا يديولوجية للنص، أي الكشف عن الوظيفة الاجتماعية والسياسية التي أداها الفكر المعين او التي كان يطمح اداءها داخل الحقل المعرفي العام الذي ينتمي اليه ذلك الفكر، وهذا يحتمل واحدا من اثنين: ام ان الجابري يقصد كيف وظف النص بعد ان تم بناؤه بمعزل عن كل ادلجة وظروف اجتماعية من جانب فئات اجتماعية لم يكتب النص من اجلها، وهذا يعيدنا الى مسالة استحالة فصل المعرفي عن الاجتماعي. واما يقصد وجود ايديولوجية داخل النص تكشف عنها وارادها المؤلف للنص وذلك يناقض دعواه عن انفصال المعرفي عن الايديولوجي (23)، اخيرا هاهو الجابري نفسه يصرح: اذا كان الانسان يحمل معه تاريخه شاء ام كره –كما يقال- فكذلك الفكر يحمل معه –شاء ام كره- اثار مكوناته وبصمات الواقع الحضاري الذي تتشكل فيه ومن خلاله(24).
غير ان "يحيى محمد" يبقى على قناعته في ان قرائن تاثير البيئة على العقل العربي لم تكن كافية لاقناعنا بقبول تفسير تكوين وبناء بنية هذا العقل، ومن ثم فأن تطوافنا الطويل مع مشروع الجابري قد اكد لنا بان تاريخنا وتراثنا الفكري لا يصح قراءتهما بالطريقة التي يهيمن عليها العامل البراني. وهنا تكمن قيمة القول الفلسفي، فهو كالحجارة التي ترمى في الماء فتتكون دوائر تكبر باستمرار، لانه يستنفر العقول للنظر والتامل، لكن هيهات ان يجد اجابات مطلقة وقطعية متفق عليها، وهذا هو سر بقاءه وتجدده.
العقل: عربي ام اسلامي؟:
يرى الجابري ان تسمية العقل الاسلامي تنطوي على دلالة لاهوتية، فهي لايمكن ان تدل في حقل الثقافة العربية الا على مثل ماتدل عليه عبارة (العقل المسيحي) في الثقافة الاوربية، في حين انه اختار النقد الابستمولوجي الذي يتناول ادوات المعرفة وآلياتها لا منتجات هذه الآليات، ثم ان النقد العقيدي او التحرك في اطار (العقل الديني) لايدخل ضمن نطاق اهتماماته(25). كما ان من شان ذلك النقد العقائدي –بحسب رأيه- اذكاء الصراعات الطائفية الكلامية السابقة (26) فضلا عن ان اختياره لمفهوم (العقل العربي) اختيار استراتيجي، مبدئي، ومنهجي، وذلك لاعتبارين :اولهما يتعلق بحدود امكاناته الخاصة، اذ يتصور ان عبارة (العقل الاسلامي) من المفروض ان تضم كل ماكتبه المسلمون او فكروا فيه، سواء باللغة العربية او غيرها، مع انه –كما ذكر- لايتقن في هذا المجال الا اللغة العربية. وثانيهما: يتعلق بطموحاته، ذلك انه لايطمح الى احياء وانشاء علم كلام جديد. وعبارة (العقل الاسلامي) لا تتجرد من المضمون اللاهوتي، في حين ان مشروعه قائم على البحث الابستمولوجي في ادوات المعرفة وآلياتها، وهذا البحث متوفر في اللغة العربية نفسها، خاصة وان هذه اللغة وعلومها لها الدور الكبير والحاسم في تشكيل الية المعرفة ورسم صورة العالم، بعيدا عن مجال الدراسات اللاهوتية الكلامية وغيرها (27). هنا لابد للباحث من وقفة يعود من خلالها الى حيث بدأ من تبيان اهمية الاخذ بالمنهج التكاملي الذي نادى وينادي به استاذنا الدكتور الالوسي فقراءة اولية لدعوى الجابري وتبريراته في تثبيت مفهوم (العقل العربي) لا (الاسلامي) ستقودنا إلى (المسكوت عنه) في تلك الدعوى، وهذا (المسكوت عنه) ذو جذر بعيد في التكوين الثقافي للجابري، يعود إلى ايام النشاة والشباب، حيث تعرف اثناء اقامته في سوريا عام 1957- 1958 للدراسة والعمل مراسلا لجريدة (القلم) المغربية على فكرة القومية العربية عن كثب، فعاصر مرحلة ازدهار الفكرة العربية وجملة الاحداث التي اعقبت الوحدة بين مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة، وهو يعد اليوم من دعاة القومية العربية(28). والا فنحن لانجد حدودا فاصلة بين النقد الابستمولوجي والنقد اللاهوتي، اذ يؤثر احدهما في الاخر، وطرح احدهما لابد –بالتالي- يقودنا إلى الحديث في الاخر (29). وقد توجه كثير من الباحثين بالنقد لاعتماد الجابري مفهوم (العقل العربي) بدلا من العقل الاسلامي(30). غير اننا سنلتزم حدود البحث في القاء الضوء على نقد "يحيى محمد" لذلك المفهوم وآليات معالجته ومن ثم موقفه منه سواء كان معه ام بالضد منه.
يرفض "يحيى محمد" قضية الامكانات الخاصة المتعلقة باتقان الجابري اللغة العربية فقط، اذ اننا لو آمنا بهذا الاعتبار لكان من الصعب ان نجد شخصا يحق له التحدث باسم (العقل الاسلامي) و (الثقافة الاسلامية) بما هي ثقافة علمية، مادام ليس بقدرته معرفة جميع اللغات التي تتناول الفكر الاسلامي، وهو الامر الذي يفضي إلى تضييع الثقافة الاسلامية والخصوصية التي تحملها. والحقيقة انه لما كانت اللغة العربية تمثل العمود الفقري للثقافة الاسلامية بما هي ثقافة علمية، اذ ان اغلب ماكتب عن الفكر الاسلامي علوما ومناهجا واتجاهات انما كان بتلك اللغة، وعليه فان أية كتابة اخرى عن الثقافة الاسلامية او (العقل الاسلامي) لايمكنها ان تستغني عن اللغة العربية وثقافتها ولو بصورة غير مباشرة، وذلك لان أي دراسة علمية حين تريد التعرف على (العقل الاسلامي) انما تتعرف عليه عبر روح النص المقدس، او عبر ثقافة الاجتهادات الفكرية التي تتحرك في دائرة النص او على قرب منه، وجميع ذلك قد انجز من خلال اللغة العربية نفسها(31). ثم يعارض "يحيى محمد" الجابري في ان البحث في اطار (العقل الاسلامي) يتضمن بالضرورة الطابع اللاهوتي، مثلما لايصح ان يقال ان البحث في اطار (العقل العربي) يتضمن ضرورة الطابع العرقي، فلا مانع من ان يكون اساس البحث في (العقل الاسلامي) هو البحث الابستمولوجي بعيدا عن اللاهوت، وعليه ان الفارق بينهما وتمييز احدهما عن الاخر يتحدد بملاحظة مقومات البحث ان كانت تدخل في الطرح القومي ام الديني، فان من اهم مقومات الطرح القومي هي اللغة وبحثها من جهة اللفظ والمعنى، والجغرافية من جهة تأثر الانسان بمحيطه الخاص، والجنس من جهة العرقية، في حين ان من اهم مقومات الطرح الديني هو العقيدة والشريعة. بما تحملان من طابع معياري تحدده اساسا نظرية التكليف باعتبارها قطب التفكير الديني(32).
يقترح "يحيى محمد" بديلا عن مفهوم (العقل العربي) مفهوم (العقل العربي الاسلامي) الذي يستمد روح موضوعه الاساس من النص المقدس كمادة خام، فأداته تنهج نحو توظيف النص في تشكيل الثقافة العلمية وانتاجها، وحيث ان النص المقدس يمتلك في حد ذاته إعتبارين أساسين فهو من جهة يمثل اللغة العربية نفسها، ومن جهة اخرى له قدسية خاصة هي القدسية الشرعية التي اضفاها الشارع الاسلامي عليه، ومن ثم فهو ليس كأية لغة ولا كأي نص كان، بل هو نص لغوي محمل ومشحون بالقدسية الدينية، لذا فان العقل العربي الاسلامي ذاته يصبح حاملا لمادة ذات طبيعة مزدوجة، فهي من جهة مادة لغوية قد تساهم بدرجة مافي حمل صورة الواقع العربي وعكسه على صعيد العقل، ومن جهة اخرى هو عبارة عن مادة دينية ذات صبغة معيارية قائمة في الاساس على نظرية التكليف بما تعبر عن علاقة المكلِّف بالمكلَّف(33).
ويرى الباحث هنا ان مفهوم (العقل العربي الاسلامي) الذي يقترحه "يحيى محمد" اكثر توفيقا من مفهومي (العقل العربي) العائد للجابري و(الموروث) العائد لحسن حنفي بحكم تكامليته وعدم اصطباغه بأية مسحه دينية فحسب او قومية فحسب، وهكذا بقدر نجاح مفهوم (العقل العربي) في اثبات قوة تحكم التأثير اللغوي والجغرافي على مادة العقل وتوجهاته، بقدر مايثبت قوة انشداد تلك المادة إلى المفاهيم المعيارية، وبقدر مايكون الوصف والتسمية لصالح (العقل المعياري) متمثلا بالاتجاه الاسلامي للخصوصية الزائدة التي يضفيها واقع الفكر الاسلامي على المعيار الديني عامة(34).
هكذا انتهت محاولة الجابري الخاصة بطي تاريخ الفكر العربي ضمن الوحدة المعرفية المتمثلة بالعقل العربي إلى تاسيسها على وحدة التاريخ والجغرافية مما اضطره إلى ان يمارس حالة التهديم والتفتيت لها، لاسيما وقد كان للعامل الايديولوجي دوره في هذا المجال (35).
التصنيف الثلاثي للعقل العربي:
انتهى الجابري إلى وجود ثلاثة نظم معرفية متكاملة هي: النظام البياني الذي يعتمد على قياس الشاهد على الغائب كمنهج في انتاج المعرفة (المعقول الديني) ونظام العرفان المؤلف من تصوف وباطنية وكيمياء وتطبب وفلاحة نجومية وسحر وطلسمات وعلم نتجيم، اذ يؤسسها النظام العرفاني القائم على "الكشف والوصال" و"التجاذب والتدافع" (اللامعقول العقلي) في حين هناك نظام ثالث هو النظام البرهاني الذي يؤسس كلا من المنطق والرياضيات والطبيعيات والالهيات او الميتافيزيقا، والذي يقوم على مبدأ الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج (المعقول العقلي)(36).
يرجع الجابري هذا التصنيف الثلاثي إلى عبد الكريم بن هوازن القشيري في كتابه (لطائف الاشارات) الذي ميز فيه بين ثلاث طرق او مناهج في المعرفة، العرفان الذي شرح الله به قلوب اوليائه، والبرهان الذي اوضح الله به نهج الحق لمن اراد طريقه، والبيان الذي انزل الله به القران هدى للناس ومعجزة الرسول(37)، يرى "يحيى محمد" ان مقاصد القشيري وتقسيمه لهذه الطرق تختلف كثيرا عما رمى اليه الجابري، فالبرهان عند القشيري هو من خاصة علم الكلام بالدرجة الرئيسية، بخلاف ماعند الجابري من انه خاصة الفلاسفة الارسطيين، يضاف إلى ان القشيري يعد هذه الطرق عبارة عن انوار بعضها اكمل من البعض الاخر بغير تضاد ومعارضة، وان الترتيب والكمال فيما بينها يسير باتجاه معاكس لما هو مرتب عند الجابري، فالقشيري يرى ان ابلغها كمالا يتمثل بالعرفان ثم البيان واخيرا البرهان. ثم ان تقسيم القشيري هذا –بحسب "يحيى محمد"- لايعبر عن تقسيم معرفي فحسب، بل كذلك فيه جنبة لاهوتية او معيارية غير معرفية، حيث يتفاوت بالقيمة الايمائية، أي انه عبارة عن معرفة ومعيار معا(38).
اعتبارات خلل تصنيف الجابري من وجهة نظر "يحيى محمد" :
نعم يعد تصنيف الجابري لعلوم التراث ثورة منهجية كبيرة، وهو يستحق التقدير، اذ فيه اعاد ترتيب العلاقات بين العلوم والمعارف التراثية بطريقة جديدة تتجاوز الاختلافات المظهرية لتنظر إلى ماتكنه من توافقات او اختلافات بنيوية داخلية تتمثل باليات المعرفة ووسائلها ومفاهيمها الاساسية(39)، الا ان ذلك لايمنع من تاشير ماانتاب ذلك التصنيف من خلل وقصور لاعتبارات عدة:
اولا: ان الجابري ضمَّن تصنيفه شكلا صوريا افتعل التضاد بين الانظمة، وهي محاولة تجعل من العلوم انظمة فكرية بعضها يضاد البعض الاخر، كما هو الحال في افتعاله للتضاد بين النحو والمنطق مع انهما في الا ساس صوريان وليسا نظامين فكريين كسائر الانظمة المعرفية التي ميزتها انها تمتلك رؤية كلية عن العالم او الوجود (40)، مما يجعل محاولة الجابري بهذا الخصوص غير موفقة لأن صورية المنطق –ومنه القياس البرهاني- تقتضي ان لايكون بينه وبين البيان أي تضاد ومعارضة، بالرغم من ان علمي النحو والمنطق يعالجان موضوعين مختلفين وان تداخلا في بعض القضايا المشتركة. والجابري طبقا لذلك الادعاء حاول ان يفسر بعض القضايا الميتافيزيقية استنادا إلى صورية هذين العلمين، حيث ربط بين انطلاق لائحة المنطق الارسطي من مقولة "الجوهر" وبين قول الفلاسفة بقدم العالم. وايضا على نفس الشاكلة في الطرف المضاد ربط بين انطلاق لائحة النحو العربي من مقولة "الفعل" وبين قول الكلاميين بحدوث العالم، او خلقه من لاشيء(41) والواقع ان مناقضة اهل البيان للمنطق لايقصد منها –في الغالب- مناقضة المنطق من حيث ذاته، فهو في حد ذاته لايعد مضادا للبيان او المعيار، بل لان الفلاسفة وضعوه واستخدموه لاغراضهم "الوجودية" حتى اصبح ملاصقا لاعمالهم الفلسفية(42). هذا مع ان افتعال التضاد بين المنطق والنحو قد سبق وان رد عليه (الفارابي) الذي اعاد العلاقة الحقيقية بينهما في مايختلفان وما يشتركان فيه من بحث، موضحا انه حتى في مجال ما يشتركان فيه تختلف الغاية بينهما، فغاية مايريده المنطق من بحث هو عموم اللغة، في حين ان غاية مايريده النحو منه هو خصوصية اللغة لاعمومها، فالمنطق يشارك النحو بعض المشاركة بما يعطي قوانين تخص الفاظ امة ما، وعلم المنطق انما يعطي قوانين مشتركة تعم الفاظ الامم كلها(43).
ثانيا: ان "البيان" الذي عده الجابري نظاما بحاله قد جرده من الفعالية العقلية المستقلة على الرغم من احتوائه على علم الكلام، كما مر مع المعتزلة التي جردها من الممارسة العقلية المستقلة. وكذا الحال مع الامامية الاثني عشرية التي وضعها في مصاف الباطنية ضمن النظام العرفاني واتهمها بعدة تهم باطلة، ولاشك ان نظريته هذه تفضي إلى نفي ان يكون الفكر العربي الا سلامي حاملا لأية دلالة عقلية مستقلة، وذلك باعتبار ان البيان هو النظام الوحيد الذي يمثل اصالة الفكر العربي، اما النظامان الاخران فهما من الانظمة الدخيلة عليه(44). وهكذا يجعل الجابري من الفكر العربي الاسلامي فكرا يغيب فيه العقل كليا الا ماطرأ عليه من الخارج، وبالتحديد من ارض اليونان عبر الفلسفة، فهو عبارة عن فكر لايقوم على أية فعالية عقلية مستقلة، مع انه –في الوقت نفسه- يعمل على توليد وتاسيس قضايا لها خصائص عقلية صرفة، كما في توليد النحو لقضايا علم الكلام(45)، ثم ان من المسلمات الاساسية للفكر الحديث اعتباره ان تاريخ البشرية –ككل- لايحتضن سوى ثلاث حضارات ثقافية منظَّرة للعالم، هي الحضارة اليونانية القديمة، والحضارة الاسلامية الوسيطة، والحضارة الغربية الحديثة، والفكر الحديث لم يشكك في كون هذه الحضارات الثلاثة هي وحدها التي قدر لها ان تتمظهر بمظهر الثقافة المنظمة من التنظير والتفكير بعيد –نسبيا- عن الرؤى السحرية والاسطورية(46).
ثالثا: ان تصنيف الجابري الثلاثي يتضمن تضادا تاما –بين العرفان الكشفي والبرهان الفلسفي مع ان الروابط التي تربطهما تجعل من نتاج أي منهما يمكن ان يرد إلى الاخر (47). وان التدقيق في الامر يجعل المرء يذعن إلى الوحدة والاتفاق بينهما، وقديما كان افلوطين يعرض افكاره بحسب الطريقة العقلية، لكنه مع ذلك لا يتخلى احيانا عن نزعته العرفانية.. وابن باجة لم يعترض على العرفان اعتراضا جذريا من حيث الرؤية، بقدر ماكان يشترط ان يتقدم عليه النظر العقلي كشرط اساسي وطبيعي... وحال ابن رشد كحال سابقه ابن باجة، فهو ايضا لايؤاخذ العرفان الا بصدد كونه لم يتخذ السلوك الطبيعي للتدرج العلمي، اذ يرى هو الاخر ان العقل والتعليم شرط طبيعي للوصول إلى حالة الاتحاد كغاية قصوى.. ولو انتقلنا إلى الغزالي فسنرى انه جاء ليعزز الطريقة نفسها، واعترف انه لافرق بين علم الكشف وعلم العقل الكسبي في ادراكهما للحقيقة، رغم اختلاف طريقهما(48)، وهكذا تبدو الدراسات التي تعد العرفان عبارة عن (اللامعقول) او (العقل المستقيل)، والتي تصنع بينه وبين الفلسفة حاجزا اصما، هي دراسات موهومة. فاذا كان من الواضح ان ارسطو وابن باجة وابن رشد هم من الفلاسفة الصريحين، وكذلك ابن عربي والآملي والجيلاني هم من العرفاء الصريحين، فان امثال ابن سينا والغزالي والسهروردي وصدر المتالهين يمكن عدهم باعتبارات معينة فلاسفة وباعتبارات اخرى عرفاء ذوي نزعة باطنية (49). وسيظهر واضحا زيف دعوى الجابري في ثنايا القسم الثاني.
القسم الثاني : النقد التطبيقي /نقد القضايا:
طرح الجابري فواصل مكبرة بين ارسطو وابن باجة وابن رشد وحتى ابن طفيل من جهة، وبين الفارابي وابن سينا والغزالي والاسماعيلية والعرفاء الاشراقيين جميعا من جهة اخرى. كما وضع فواصل مضخمة بين مايسمى بالفلسفة المشرقية والمغربية وبدورنا –الحديث ليحيى محمد- سنكشف عن زيف مثل هذه المزاعم، وذلك بالبحث حول محورين اساسين: احدهما يتعلق بتزييف الزعم الخاص بوجود فواصل جذرية بين الفكر الارسطي وفكر المشرقيين ومنهم ابن سينا. والثاني فيتعلق بتزييف الزعم الخاص بوجود قطيعة بين الفكرين المشرقي والمغربي(50).
ارسطو والمشرقيون ..ابن سينا نموذجا:
يرجع الجابري اختلاف ابن سينا عن جميع المشرقيين ومنهم الفارابي، بفارق عام يتعلق بكيفية توظيف ارسطو. ذلك ان المشرقيين قد وظفوا كلا من المنطق والعلم والميتافيزيقا الارسطية عبر تاويل هذه الميتافيزيقا تأويلا يسمح بتمرير مفاهيمها المؤسسة للمنطق والعلم إلى الفكر الاسلامي حتى يتمكن هذا الفكر من ان يؤسس من داخله العلم والمنطق.. أي حتى يغدو منبعا للعقلانية لا مستوردا لها، وهذا ماتم تحقيقه من خلال الكندي والرازي الطبيب واخوان الصفا والاسماعيلية، ثم تصل قمتها على يد الفارابي. لكن الامر مع ابن سينا يختلف، حيث ان الحاجة عنده لم تكن عبارة عن توظيف ارسطو عقلانيا بقدر ماكانت عبارة عن التخلص منه، فكان بذلك المدشن الفعلي لمرحلة اخرى في تطور الفكر الفلسفي في الاسلام، مرحلة التراجع والانحطاط(51).
يرفض "يحيى محمد" ان يكون اختلاف ابن سينا عن ارسطو يصل إلى حد الجذرية والحسم من الناحية الابستمولوجية، وسيتضح ذلك من خلال التفصيلات التالية:
- ارسطو ونظرية الفيض:
اذا ماعلمنا ان ارسطو يعتقد بما اطلق عليه بقاعدة "الامكان الاشرف" من حيث اسبقية الكامل على الناقص في الوجود وانه وسائر الفلاسفة القدماء من المحال عندهم "ان يخلق الافضل من اجل الأنقص، لكن عن الافضل ولابد يلزم وجود الانقص: كالرئيس، مع المرؤوس، الذي كماله في غير الرئاسة، وانما الرئاسة ظل كماله –وكذلك العناية بماهاهنا هي شبيهة بعناية الرئيس بالمرؤوسين، الذين لانجاة لهم ولا وجود الا بالرئيس، وبخاصة الرئيس الذي يحتاج في وجوده الاتم الافضل إلى الرئاسة، فضلا عن وجوده (52) مما يعني ويدل على ان لنظرية الفيض جذورها الارسطية –حسب راي "يحيى محمد"- وارتباط الموجودات بمبدأ الوجود الاول ارتباطا قائما على نظام التسلسل بحسب الطبع والكمال(53). أي ان ابن سينا افاد من قاعدة الامكان الاشرف الارسطية كموجه عام لاثبات وحدة انضمام الكائنات بعضها للبعض الاخر على نحو الكمال(54). ذلك الكمال الذي ليس بممكن فيه، فاذن ليس بأزائه نقص(55). وهذا مايدعو إلى ازالة الحواجز المصطنعة في التمايز الحاد والحاسم بين ارسطو وابن سينا.
- ارسطو والتصورات الشوقية للاجرام:
من الجذور الارسطية للنزعات المشرقية، هو ان ارسطو يعد عالم السماوات لايتصف بالعقول الصورية المحصنة المفارقة فحسب، بل كذلك انه يمتاز بنفوس ذات قوى شوقية. فالاجرام انما تتحرك بعلة فاعلية عبارة عن العقول المحضة، والتي هي في الوقت نفسه تمثل غايات هذه الحركة الدورية، اذ الحركة تتولد من جهة الشوق في نفوس هذه الاجرام، فـ"الذي يتحرك إلى الحركة بماهي حركة هو متشوق لها ضرورة، والذي يتشوق الحركة فهو متصور لها ضرورة"(56)، وبذلك فان الاجرام السماوية هي ذوات عقول وشوق، اذ "ان المحرك لها هو عقل برئ من المادة، لزم ان لايحرك الا من جهة ماهو معقول ومتصور، واذا كان ذلك كذلك، فالمتحرك عنه عاقل ومتصور ضرورة"(57).
اول مايلاحظ "يحيى محمد" في التصوير الارسطي الانف الذكر هو انه لايختلف كثيرا عما تقوله مشرقية ابن سينا. فالتعبير عن الاجرام السماوية بان لها نفوسا شوقية تجعل غايتها من الحركة هي العقول المحركة، يجعلها تقع في مقام النفس المتخيلة التي يقوله بها المشارقة. ذلك انهما يتفقان على عدة امور بهذا الصدد، فمن جهة انهما يتفقان على ان عالم السماوات هو عالم حي بسيط كامل وثابت وبرئ من المادة السيولانية، كما ويتفقان على ضرورة وجود امر مايتوسط بين الجسم والمفارق في عالم السماء. وهنا موضع الخلاف الجزئي بينهما، حيث ان هذا الامر المتوسط والذي هو عبارة عن النفس الجرمية، يكون عند التصور الارسطي عبارة عن العقل، اما عند التصور المشرقي فهو عبارة عن النفس المتخيلة.(58)
اما السبب الذي يجعل الطريقة الارسطية تخشى من قبول وجود النفس المتخيلة والحساسة كرتبة وسيطة بين العقل المفارق وبين الجسم السماوي ماصرح به الاسنكدر من "ان هذه الاجرام ليست متخيلة لان الخيال انما كان في الحيوان من اجل السلامة، وهذه الاجرام لاتخاف الفسادة فالخيالات في حقها باطل، وكذلك الحواس، ولو كان لها خيالات لكان لها حواس، لان الحواس شرط في الخيالات فكل متخيل حساس ضرورة، ولو ينعكس"(59).
وقد رد ابن سينا –على لسان المشرقيين- بقياس الشاهد على الغائب اذ ذكر ابن سينا قول المشرقيين من ان ما اعتمده الارسطيون في ان الاجرام السماوية لاينبغي ان يكون لها حس وخيال باعتبارها لاتحتاج إلى غذاء، ولا لها طلب شيء ولا هرب من شيء، فكل ذلك بنظر المشرقيين ليس بواجب، لان "الحس والادراك بنفسه معنى مطلوب لذاته، فليس بمنكر ان يكون للاجرام السماوية ضرب من الحس لايحتاج فيه إلى انفعال واستحالة، بل يكون كحال القمر في استضاءته من الشمس ولعل لها حاجة من وجه ما إلى امر حسي وادراك زماني كما يذكره المشرقيون" (60) بل ان ابن سينا نفسه قد عجب من موقف ارسطو فيما يتعلق بالتصورات العقلية للاجرام السماوية، وذلك بقوله "ان التصور العقلي غير ممكن: لجسم ولا لقوة جسم فهو غير ممكن: لما يتحرك بذاته" (61)
اخيرا يؤكد "يحيى محمد" على ان للفلاسفة انتماءهم الخاص الذي يجعلهم يقفون على خشبة مسرح واحدة، فآراءهم وان بدت مختلفة من هنا وهناك الا انها غالبا ماتكون متفقة على النحو الكلي، ذلك لان المبررات والاسس التي تقوم عليها تظل تحت هيمنة "القوانين الحكمية" ولو من بعض الوجوه، والاهم من ذلك كله هو ان هناك وحدة ابستمولوجية تجمعهم، فهي تجمع بين ارسطو وابن سينا، وبين الفلسفة المشرقية والمغربية، وكذلك بين الفلسفة عموماً والعرفان، فكل هذه الثنايا والمجاميع لها وحدة تجمعها هي عبارة عن دينامو التفكير الوجودي، او الاصل الفعال المتمثل بالسنخية(62).
القطيعة بين الفكر المغربي والفكر المشرقي:
كان ابن سينا اول من ميز بين فلسفتين مشرقية ومغربية. فقد جاء في مقدمته لكتاب (المدخل من منطق الشفاء) "ولي كتاب غير هذين الكتابين –أي الشفاء واللواحق- اوردت فيه الفلسفة على ماهي بالطبع، وعلى مايوجبه الراي الصريح الذي لا يراعى فيه جانب الشركاء في الصناعة، ولا يتقى فيه شق عصاهم مايتقى في غيره، وهو كتابي في الفلسفة المشرقية، واما هذا الكتاب –الشفاء- فاكثر بسطا، واشد مع الشركاء من المشائين مساعدة، ومن أراد الحق الذي لامجمجة فيه فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن اراد الحق على طريق فيه ترضَّي ما إلى الشركاء، وبسط كثير، وتلويح بما لو فطن له استغنى عن الكتاب الاخر فعليه، بهذا الكتاب –أي الشفاء- (63)، كما ذكر في تصديره لكتاب المباحثات: اني كنت صنفت كتابا سميته "كتاب الانصاف" وقسمت العلماء قسمين: مغربيين ومشرقيين، وجعلت المشرقيين يعارضون المغربيين، حتى اذا حق اللدد، تقدمت بالانصاف. (64)
يذهب عبد الرحمن بدوي في معرض تفسيره لكلام ابن سينا إلى انه يقصد بالمشرقيين المشائين من اهل بغداد، والمغربيين هم الشراح الارسطيون مثل الاسكندر وثامسطيوس ويحيى النحوي (65)، الا ان الجابري يخطئ بدوي في تفسيره ذاهبا إلى ان المقصود بالمشرقيين عند ابن سينا هم اهل خراسان والمقصود بالمغربيين هم اهل بغداد من معاصريهم باعتبارهم مشائين، فلا يعقل ان يناصر ابن سينا "المغربيين" كما يقول بدوي، ويسمى فلسفته "فلسفة مشرقية"(66) معتمدا في هذا الراي على بعض الاشارات، والتي منها مانقل عن ابي الحسن العامري: اصح مايتفق للانسان، ان تكون طينته مشرقية وصورته عراقية، فانه يصير بهذا جامعا بين متانة خراسان وظرف العراق، مفارقا لبلادة خراسان، ورعونة العراق(76).
والاشارة الثانية من ابن سينا حين قال "والذي ذكره من اختلاف الناس في امر النفس والعقل، وتبلدهم وترددهم فيه، لاسيما البله النصارى من اهل مدينة السلام(68) وقد قال ابن رشد على لسان اصحاب ابن سينا انهم قالوا: وانما سماها فلسفة مشرقية لانها مذهب اهل المشرق، فانهم يرون ان الالهة عندهم هي الاجرام السماوية، على ماكان يذهب اليه(69).
اما في الوقت الحاضر فان محمد عابد الجابري يعد فلسفة ابن سينا "المشرقية" بانها احدى تجليات الوعي القومي الفارسي المهزوم(70) وانها الايديولوجيا الاسماعيلية، كما نشرتها رسائل اخوان الصفا(71) وابن سينا يقدم نفسه لنا –بحسب الجابري- نموذجاً فريداً للفيلسوف الذي يفتقد الحد الادنى من الوعي الايديولوجي(72) ومن ثم لم تكن عملية "التخريب الذاتي" التي مارسها عقل ابن سينا نتيجة لغياب الوعي الفلسفي والوعي العلمي لديه وحسب، بل كانت ايضا –وربما كان هذا هو السبب في ذاك- نتيجة لغياب الوعي الايديولوجي(73) واننا حيال ابن سينا ازاء عملية نموذجية من عمليات القلب الايديولوجي التي يختفي وراءها كثير من الفلسفات العظمى(74).
يرى الباحث هنا قدرا من التخبط يثير السؤال التالي: كيف يمكن لمن افتقد الحد الادنى من الوعي الايديولوجي ان يقوم بعملية قلب ايديولوجي تختفي وراءها كثير من الفلسفات العظمى ثم كيف ان الكشف عن المضمون الايديولوجي للفلسفة المشرقية السينوية هو وحده الذي يمكنه ان يجعل هذه الفلسفة مفهومة (75) اذ كيف يتاتى لمن يفتقد الحد الادنى من الوعي الايديولوجي ان يكون لفلسفته مضمون ايديولوجي؟
باسقاط مفهوم "القطيعة المعرفية" على التاريخ الفكري بين المشرق والمغرب يكون الجابري –على راي "يحيى محمد"- قد عمل على تفكيك وتهشيم العلاقة الوحدوية التي تربط بعض الاتجاهات بالبعض الاخر، حيث حولها إلى علاقة تضاد ومنافاة، كما هو الحال في فصله المطلق بين الفلسفة والعرفان، اذ جعلهما ينتميان إلى نظامين متنافيين لا يلتقيان، مع انهما –اذا مااستعرنا لسان ابن رشد- عبارة عن توأمين متآخيين بالجوهر والغريزة، وهما يرضعان من ثدي واحد(76) هكذا يضع الجابري فوارق حاسمة حددها بكون الفلسفة في المشرق العربي محكومة باشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة، أي اشكالية علم الكلام، اما في المغرب والاندلس فلم يكن هناك علم الكلام ولا فرق ولا تعدد.. وهذا ماجعل فلاسفة المشرق يأخذون الميتافيزيقا لانهم كانوا يحتاجون اليها في التوفيق بين الدين والفلسفة في علم الكلام. اما في المغرب، والا ندلس فقد اخذوا الرياضيات والطبيعيات والفلك والطب والمنطق، واصبح ارسطو هو الاصل واصبح الفكر الفلسفي ارسطيا محضاً خاليا من الافلاطونية المحدثة والتأثيرات المشرقية من فارسية وغنوصية وهرمسية وغيرها(77) فهذا التحديد الاجمالي للفارق العام بين الفكرين المشرقي والمغربي هو الحد الفاصل لما اطلق عليه بالقطيعة المعرفية. فهي تبدأ بدايتها العميقة مع ابن باجة كاول فيلسوف محترف في المغرب والاندلس، اذ كانت فلسفته علمية الابيستمي، علمانية الاتجاه بفعل تحررها، من اشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة التي اتخمت المشرق، اذ ان فلسفته ظلت دائما لاهوتية الابيستمي والاتجاه(78) .
ابن باجة نموذجا للقطيعة بين المشرق والمغرب:
تبدأ القطيعة المعرفية بين فلاسفة المغرب والاندلس من جهة، وفلاسفة المشرق من جهة اخرى، ومن النقاط التي افترق فيها ابن باجة مع اهل المشرق واشكاليتهم الدينية التي اغرقوا عقولهم بها - بحسب الجابري- وهي باختصار كالاتي (75):
التحرر التام من هاجس التوفيق بين الفلسفة والدين.
رفض الطرق غير العقلية لبلوغ الحقيقة وتحقيق السعادة، كالمشاهدات الصوفية.
اعتبار النبوة موهبة الهية نادرة من دون تفسيرها فلسفيا كما حصل في المشرق عند الفارابي واتباعه.
السعادة القصوى هي السعادة العقلية وذلك بالاتصال بالعقل الفعال عن طريق العقل المستفاد، بحيث يصبح هذا هو ذاك .
ان فكرة الفيض غائبة عن مجال تفكير ابن باجة تماما، ففي عدم معالجته لمسألة العقول الفلكية وابعادها عن اهتمامه يجعل من طريق الاتصال بالعقل الفعال صاعدا لا نازلا، وذلك بارتقاء الانسان في مدارج الكمال العقلي وليس بفيض الهي.
للفلاسفة وحدة عقلية خالدة يتم فيها اللقاء العقلي والالهي، وهي تتجاوز حدود الزمان والمكان.
يبدأ "يحيى محمد" حواره مع الجابري بهذا الشأن بقضية اشكالية الفلسفة والدين، فيؤكد على ان ابن باجة نعم لم ينشغل بها، سوى اشارات خاطفة يثبت فيها ما للغيب او الوحي من دور في اكمال المعرفة الفلسفية، لكن حتى مع افتراض عزوفه كليا عن الانشغال بهذه الاشكالية، فان ذلك لايعني القطيعة من الناحية الابستمولوجية فابن باجة هو كأي فيلسوف يفكر بروح لاتختلف عن الروح التي يفكر فيها غيره ومن ضمنهم فلاسفة المشرق العربي الاسلامي مادام هناك جامع يجمعهم لذلك كان كثير الاعتماد في طرحه على كل من ارسطو وافلاطون والفارابي، الامر الذي جعل اثر ذلك واضحا في صياغته لعلاقات الوجود، حيث انها مستمدة من هذا المزيج الثلاثي المركب، مع ما اضاف اليه من طابع صوفي(80) اما بشان نظرية الفيض، فان ابن باجة وان كان لايتحدث عنها في رسائله القليلة، التي وصلتنا، الا ان ذلك لايعني انه لايلتزم بها بشكل من الاشكال، فعلى الاقل اننا لو افترضناه ارسطيا خالصا في هذا المضمار، مثله في ذلك مثل ابن رشد، لكان يكفي انه يعترف بها ضمنيا، خاصة وان النظرية الارسطية تقر بقاعدة (الامكان الاشرف) التي تتضمنها كليا، بل وان نظريته في العقل الفعال لها دلالة خاصة على طبيعة هذا الفيض الذي يخرجها عن الصيغة الارسطية، بل وعن الطريقة الفارابية والسينية الشائعة، ليدخلها في الدائرة الصوفية الخالصة(81) اما مسالة رفض الطرق غير العقلية لبلوغ الحقيقة، ومنها المشاهدات الصوفية، فان ابن باجة مارام سوى التصوف العقلي، فهو الجديد الذي تفرد به، والذي فيه اقام "الحبل السري" المتصل مع العرفان الامر الذي يعني ان الجديد عنده هو رفع البساط عن العقل بالعقل اذ ليس لديه مؤاخذة يؤاخذ بها الصوفية سوى عدم التزامهم النظر العقلي الذي يراه شرطا للمعرفة الاتحادية او الصوفية، وهو مايطلق عليه اللامعقول العقلي، او الفلسفي في الوحدة العقلية(82).
اما قضية تنظير ابن باجة للوحدة بين الفلاسفة من خلال اللقاء العقلي الالهي، وذلك بتحليله للعقل، فان ذلك يجعله يكرر –حسب راي "يحيى محمد" ماسبق ان سعى اليه الفارابي بطريقة مختلفة ومن ثم فان ابن باجة لا ينظر إلى فلاسفة المشرق نظرة خارجة عن هذه الوحدة وذلك اللقاء الخالد غير الخاضع للزمان والمكان، فهو لا يرى بين الفلاسفة قاطبة من فرق الا في المظهر وبهذا يكون اللقاء عند ابن باجة قائما على الاتحاد الصوفي، بينما يقوم عند الفارابي على الاتصال الفلسفي(83)، يفهم من ذلك كله ان ابن باجة لم يكن ذا قطيعة ابستمولوجية مع فلاسفة اهل المشرق، بل ولا انه ارسطي خالص. ولو اننا طبقنا عليه بعض احكام الجابري التي حكم بها على فلاسفة المشرق، لكان فيلسوفنا في دائرة خارجة عن دائرة البرهان الارسطي، وهي دائرة العرفان كثمرة لهذا البرهان، ذلك ان قوله بنظرية الاتحاد مع العقل الفعال تجعله اسوأ حالا من حال الفارابي الذي صوره الجابري بانه يرى العرفان ثمرة ونتيجة للبرهان، لكونه جعل المعرفة البرهانية تنتهي في اسمى درجاتها إلى الاتصال بالعقل الفعال(84) بل قد لا يكون اقل حالا من المعلم الثاني الذي اتهمه بانه توج نظريته في المعرفة بفكرة (السعادة) العرفانية الهرمسية الاصل (85) مع ان ابن باجة يقول بهذه الفكرة على نحو أشد امعانا في العرفان والتصوف، بل مامن فيلسوف الا ويقول بفكرة السعادة عبر الكمال العقلي، بمن فيهم ارسطو (86) .
الخاتمة:
ان ماقدمه الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي- على الرغم من تلاعبه الواضح في الاحضار والتغييب، احضار نصوص بعينها وتغييب نصوص اخرى بقصدية يوجهها الهدف الايديولوجي، ورغم التحامل في كتاباته على من حمَّله مسؤولية التخلف وتكريس اللامعقول كما هو موقفه من فلاسفة المشرق العربي والاسلامي وعلى رأسهم ابن سينا، الذي يتهمه بالعنصرية الفارسية من غير دليل يقدمه- هو مشروع في غاية الجدة والاهمية، وذلك لانه –كما قال جورج طرابيشي في كتابه (نظرية العقل) اطروحة تغير، وليس مجرد اطروحة تثقيف، لكونه يفتح امامنا افاقا من التفكير لم يكن بالامكان فتحها مالم تنطلق من موقع الجذور الخاصة، ينقد العقل الذي نفكر به.. وقد تميز نقد "يحيى محمد" لمشروع الجابري بالمنهجية الابستمية البعيدة كل البعد عن الادلجة والجدل وصيغ الاتهامات غير القاطعة لان ماطرحه الجابري اصلا يبعث على التفسير والمساءلة والنقد، سواء بالنسبة للموضوع الذي اخضعه للنقد وهو العقل العربي، او حتى بخصوص الاطروحة التي قدمها في نقده لهذا العقل.
ويمكن صياغة نتائج البحث على شكل نقاط كالاتي:
1- يمارس "يحيى محمد" في حواره مع الجابري –كما هو في عموم مشروعه- القراءة الجوانية التي لاتعنى بالعوامل الخارجية، بقدر ماتفترض الظاهرة كقالب منطقي يحظى بدرجة معقولة من النظام الهندسي الاكسيمي طبقا لما يفرضه المنطق الخاص بالاصول المولدة للمعرفة، والني يطلق عليها (دينامو التفكير) .
2- ان نقد مشروع الجابري عند "يحيى محمد" يقوم على سؤال كيف نفهم التراث، وهذا السؤال يرتبط بالتفكير المنهجي، لانه يرفض القراءة غير المنهجية لان من شانها عدم ابداء المقدمات التي يلزم معرفتها قبل الدخول بأية ممارسة لالية الفهم، لاسيما وان أية نهضة حضارية ناملها لاتتحقق الا عبر حل للاشكالية الخاصة بالفهم.
3- يرى "يحيى محمد" ان الجابري في مشروعه قد تاثر بالأوربيين وهم يكتبون تاريخهم على صورة الوحدة والاستمرارية بشكل حقب بعضها يفسر البعض الاخر ويؤسسه الامر الذي افضى بذلك التفكير إلى ان يفبرك لنا تاريخا معرفيا فرض عليه انواعا من الاسقاط والتأويل والادلجة.
4- يرى الباحث ان "يحيى محمد" قد اخفق حين وصف منهج الجابري بـ(البرانية) فمنهج الجابري يتصف بالتكاملية وان غلبت عليه النزعة البنيوية.
5- يرى الباحث ان مفهوم (العقل العربي الاسلامي) الذي اقترحه "يحيى محمد" اكثر توفيقا وملائمة من مفهوم (العقل العربي) العائد للجابري، ومفهوم (الموروث) العائد لحسن حنفي، بحكم تكامليته، وعدم اصطباغه بأية مسحة قومية فحسب او دينية فحسب.
6- يؤكد "يحيى محمد" على ان تصنيف الجابري الثلاثي لعلوم التراث، نعم يعد ثورة منهجية كبيرة تستحق التقدير، الا انها اخذت شكلا صوريا افتعل التضاد بين تلك الانظمة.
7- يرفض "يحيى محمد" ان يكون اختلاف ابن سينا عن ارسطو يصل إلى حد الجذرية والحسم من الناحية الابستمولوجية، نعم للفلاسفة انتماءهم الخاص لكنهم يقفون على خشبة مسرح واحدة، فآراءهم وان بدت مختلفة هنا وهناك الا انها غالبا ماتكون متفقة على النحو الكلي.
8- يرى "يحيى محمد" ان الجابري باسقاط مفهوم (القطيعة المعرفية) على التاريخ الفكري بين المشرق والمغرب قد عمل على تفكيك وتهشيم العلاقة الوحدوية بينهما وحولها إلى علاقة تضاد ومنافاة.
9- يرى "يحيى محمد" اننا لو طبقنا بعض احكام الجابري على ابن باجة -وهو النموذج المدروس في هذا البحث- لكان في دائرة خارجة عن دائرة البرهان الارسطي، وهي دائرة العرفان كثمرة لهذا البرهان، لانه يقول بفكرة (السعادة) العرفانية بصورة اشد امعانا في العرفان والتصوف من الفارابي .
الهوامش :
الدكتور حسام محي الدين الالوسي: دراسات في الفكر الفلسفي الاسلامي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1992، ص25.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 1997، ص15.
المصدر نفسه ، ص 16-17.
يحيى محمد: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2000، ص 229-230.
يحيى محمد: مدخل إلى فهم الاسلام الفكر الاسلامي نظمه ..ادواته ..اصوله، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 1999، ص74-75.
المصدر نفسه، ص 17.
هنا لابد للباحث من ان يثبت استغرابه لتجاهل "يحيى محمد" لمشروع الدكتور حسام محي الدين الالوسي القائم على المنهج التكاملي والذي انتج خطابا فلسفيا متوازنا اثمر عن بحوث رصينة احاطت بمشكلات الفلسفة الاسلامية واليونانية فضلا عنها في فكرنا العربي المعاصر بعقلانية بعيدة كل البعد عن الادلجة والتجزيئية.
يحيى محمد: مدخل إلى فهم الاسلام، ص18.
محمد عابد الجابري: قضايا الفكر العربي المعاصر، مجلة الاداب، العدد3/4، اذار –نيسان، 1996، السنة 42، ص54، قارن: الدكتور حسام محي الدين الالوسي، مفهوم التراث عند محمد عابد الجابري –دراسة نقدية، ضمن: التراث والنهضة، منشورات المجمع العلمي العراقي، 1999، ص133، اذ يؤكد على ان كتاب (نحن والتراث) يتضمن الخطوط الكبرى لمشروعه في (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي) وقبلهما (الخطاب العربي المعاصر) فهذه كلها محاولة للبرهنة وجلب النصوص لتأييد دعوته في (نحن والتراث) وقريبا من هذه الرؤية يؤكد "يحيى محمد" على "اننا لا نقصد بمشروع (نقد العقل العربي) مجرد اجزائه الثلاثة التي دخلت تحت هذه التسمية.. بل نضيف إلى ذلك كل ماكتبته الجابري حول التراث وبكيفية خاصة الدراسة الهامة التي جاءت تحت عنوان (نحن والتراث) انظر : يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص6.
محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط6، ص 13- 14.
المصدر نفسه، ص 70.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص15، وقارن: الدكتور حسام محي الدين الالوسي، مفهوم التراث عند محمد عابد الجابري ص 133، حيث كان المحور الاول من بحثه: عرض تفاصيل مشروع الجابري، بينما كان المحور الثاني: تقديم نقد وتقييم لمنهجه بخطوطه الاساسية.
يحيى محمد: مدخل إلى فهم الاسلام ،ص9-10.
محمد عابد الجابري: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط4، 1985، ص24، كذلك: تكوين العقل العربي، ص346، اذ يؤكد الجابري تلك الفكرة بقوله: ان اي تحليل للفكر العربي الاسلامي سواء كان من منظور بنيوي لم من منظور تاريخاني سيظل ناقصا وستكون نتائجه مضلله اذا لم ياخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر ومساره ومنعرجاته.
محمد عابد الجابري: اشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط4، 2000، ص38.
الجابري: تكوين العقل العربي، ص 232- 233.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص23.
المصدر نفسه، ص 38- 39.
الدكتور علي حسين الجابري: محمد عابد الجابري بين منهج التفكيك والتفسير الفلسفي للحضارة والتراث والمعاصرة، مجلة (الموقف الثقافي)، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العدد 14، السنة الثالثة، 1998، ص36، وقارن: علي حرب، مداخلات، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1985، ص28.
سالم يفوت: الجانب المنهجي في كتابة الجابري، ضمن: التراث والنهضة، قراءات في اعمال محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2004، ص53، وللمزيد من الاطلاع على مفهوم القطيعة، انظر: الجابري، نحن والتراث، ص50-51 و "يحيى محمد" مدخل إلى فهم الاسلام، ص 95 فيما بعد.
الدكتور حسام الالوسي: مفهوم التراث عند محمد عابد الجابري، ص 148.
احمد ماضي: غيض من فيض محمد عابد الجابري: ضمن التراث والنهضة، ص 83.
الدكتور حسام الالوسي: مفهوم التراث عند محمد عابد الجابري، ص 148.
الجابري: تكوين العقل العربي، ص13.
الجابري: التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1991، ص 131.
الجابري: المسالة الثقافية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1999، ص228.
الجابري: التراث والحداثة، ص 320-321.
الجابري: حفريات في الذاكرة من بعيد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص 176، وللاطلاع اكثر على مختلف المؤثرات السياسية والتربوية والتاريخية التي ساهمت في تشكيل وعي الجابري وثقافته، انظر: كمال عبد اللطيف، مقدمات لقراءة اطروحة نقد العقل العربي، ضمن: التراث والنهضة، ذكر انفا، ص15 فما بعد.
ولاء مهدي الجبوري: محمد عابد الجابري، توجهه العربي الاسلامي وفكره الفلسفي المعاصر، رسالة دكتوراه (مخطوطة)، قسم الفلسفة –كلية الاداب- جامعة بغداد، 2005، ص 7.
انظر: حسن حنفي، المصادر العقلانية في الفكر العربي المعاصر، ضمن: حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005، ص56، اذ يقول: العقل اداة للمعرفة، لافرق بين عربي واعجمي، بل نتاجه الثقافي هو الذي يمكن وصفه بالوطن -المصرية- او بالقوم –العربية- او بالثقافة –الاسلامية- ثم يقترح حسن حنفي في مكان اخر مفهوم (الموروث)، فالباحث منا يولد في مصر من الامصار، لغته العربية او غير العربية وثقافته الاسلامية، من المحيط إلى الخليج إلى الصين، انظر: حسن حنفي، نقد العقل العربي في مراة التراث والتجديد ضمن: التراث والنهضة، ذكر انفا، ص220، وانظر جورج طرابيشي، نظرية العقل، دار الساقي، بيروت، ط2، 1999، ص126، اذ يرد على هذه المسالة بصيغة سؤال: هل تراث المسيحية الاولى المكتوب باليونانية من الاناجيل واعمال الرسل ومؤلفات اباء الكنيسة الشرقية هو التراث اليوناني؟ وهل العقل المسيحي عقل يوناني، وهل من رؤيتين للعالم اكثر تفارقا من الرؤية اليونانية والرؤية المسيحية؟ وانظر: علي حرب، مداخلات، ذكر انفا، ص92- 93، اذ يقول: لانجد ايا من الذين بحثوا في العقل على الصعيد الابستمولوجي قد ربطوا بينه وبين هوية ثقافية مخصوصة، فلا يقال مثلا عقل فرنسي او الماني او عربي، ذلك ان استخدام مصطلح العقل هنا بهذا المعنى افقر من ان يعرب عن حقيقة الفكر، او ان يستغرق هوية الثقافة بشكل عام.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص 45.
المصدر نفسه، ص 46.
المصدر نفسه، ص 46.
المصدر نفسه، ص71.
يحيى محمد: مدخل إلى فهم الاسلام، ص 93.
الجابري: تكوين العقل العربي، ص333- 334، وقد تعرض هذا التصنيف إلى النقد من قبل باحثين كثر، انظر على سبيل المثال: طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1994، ص51-52، وانظر: علي حرب، مداخلات، ص18، فما بعد.
الجابري: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط6، 2000، ص284.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص81-82، في حين يرى طه عبد الرحمن ان القشيري لم يرد بتصنيفه ذلك ماأراده الجابري، وان الجابري بالاساس لم ياخذه من القشيري بل من كامل الملطاوي في كتابه (الصوفية في الهامهم،ص272) انظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص52، بينما يرى حسن حنفي ان هذه البنية الثلاثية التي تصف مراحل تكوين العقل العربي، بنية ثابتة جامدة قد لاتصدق على مراحل التاريخ المختلفة التي يتداخل فيها البيان والعرفان في وقت واحد، انظر: نقد العقل العربي في مرآة التراث والتجديد، ضمن: التراث النهضة، ذكر انفا، ص255، بينما يرى الدكتور الالوسي عدم وضوح المصطلح عند الجابري مثل معنى "العقلانية" التي على اساسها ميز بين عقل عربي "بياني" واخر" برهاني" واخر "عرفاني" ، عدم التفاته إلى مقياس للعقل إلى جانب المقياس المعرفي او الوجودي هو المقايس القيمي، انظر: مفهوم التراث عند محمد عابد الجابري ضمن: التراث والنهضة، ذكر انفا ،ص131-132.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص81، وقارن: علي حرب، مداخلات، ص20 فيما بعد.
المصدر نفسه، ص82.
المصدر نفسه، ص84.
المصدر نفسه، ص86.
الفارابي: احصاء العلوم، حققه وقدم له وعلق عليه عثمان امين، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط3، 1968، ص76.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص82- 83، وقارن: علي حرب، مداخلات، ص67 فما بعد، وانظر: ولاء مهدي الجبوري، المصدر السابق، ص83، فما بعد.
المصدر نفسه ،ص91، وقارن: علي حرب: مداخلات، ص43 فما بعد.
يحيى محمد: مدخل الى فهم الاسلام، ص 421.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص83.
يحيى محمد: مدخل الى فهم الاسلام، ص270- 275، كذلك: نقد العقل العربي في الميزان، ص 101-102.
يحيى محمد: المصدر نفسه، ص287- 288، وانظر: نقد العقل العربي في الميزان، ص101 حيث نجد نفس الفقرة نصا، وقارن: علي حرب، مداخلات، ص67، حيث يؤكد على ان الصلة بين ما (يعلم) وما (يشهد) تحملنا على تأمل مصدر المعرفة البشرية وحدودها وامكاناتها.. فالعلوم في اصلها حدس كما قال ابن سينا، والصنائع البرهانية تنهض على مصادرات واصول كما قال ابن رشد.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص 102.
الجابري: نحن والتراث، ص148.
ابن رشد:؛ تهافت التهافت، تحقيق وشرح محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1998، ص475.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص118.
يحيى محمد: مدخل الى فهم الاسلام، ص 160.
ابن سينا: رسالة في ماهية المعشق، تحقيق احمد اتس، استنابول، 1953، ص23.
ابن رشد: المصدر السابق، ص471، وانظر: الاسكندر الافروديسي، مقالة في القول في مبادئ الكل بحسب رأي ارسطو طاليس الفيلسوف، ضمن: عبد الرحمن بدوي، ارسطو عند العرب، وكالة المطبوعات، الكويت، ط2، 1978، ص268.
المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
يحيى محمد: العقل العربي في الميزان، ص 120.
ابن رشد: المصدر السابق، ص 484.
ابن سينا: التعليقات على حواشي كتاب النفس لارسطو طاليس، ضمن: عبد الرحمن بدوي: ارسطو عبد العرب، ص 116.
ابن سينا: الأشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، ط3، 1985، القسم الثالث، ص 180-181.
يحيى محمد: المصدر السابق، ص139.
ابن سينا: المدخل –من منطق الشفاء-، تحقيق الاب قنواتي وجماعته، الدار العامة للثقافة، القاهرة، 1952، ص10.
ابن سينا: المباحثات، ضمن: عبد الرحمن بدوي، ارسطو عند العرب، ص121 .
عبد الرحمن بدوي: ارسطو عند العرب، ص24، 28.
الجابري: نحن والتراث، ص140 هامش 74.
المصدر نفسه، ص139.
ابن سينا: المباحثات، ضمن: بدوي، ارسطو عند العرب، ص120.
ابن رشد: تهافت التهافت، ص 426، وانظر: نلينو، محاولة المسلمين ايجاد فلسفة شرقية، ضمن: عبد الرحمن بدوي، التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية، دار النهضة العربية، القاهرة، ط3، 1965، ص251-252.
الجابري: نحن والتراث، ص158، وانظر: علي حرب، مداخلات، ص115- 116، حيث يرد على هذه الفكرة.
المصدر نفسه، ص160.
المصدر نفسه، ص152.
المصدر نفسه، ص154.
المصدر نفسه، ص160.
المصدر نفسه، ص 155.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص38، كذلك: مدخل الى فهم الاسلام، ص271.
الجابري: التراث والحداثة، ص 328.
الجابري: نحن والتراث، ص9.
اعتمدنا في هذا الاختصار على: يحيى محمد، نقد العقل العربي في الميزان، ص144، وللتفصيل في هذه النقاط، انظر: الجابري، نحن والتراث، ص177 فما بعد.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص144.
المصدر نفسه، ص144- 145.
المصدر نفسه، ص 145- 146.
المصدر نفسه، ص 147.
الجابري: تكوين العقل العربي، ص249.
الجابري: بنية العقل العربي، ص486.
يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان، ص147.
إياد كريم الصلاحي
كلية الآداب – جامعة واسط