كثيرة هي الكتب التي هممت كثيرة هي الكتب التي هممت بقراءتها هذا العام دون ان اكملها ، ولو استطعت لارجعت عقارب الوقت للوراء لاستعيد ما دفعت فيها من دقائق ، اذ كثيرا ما يجرك العنوان الى الوقوع في ما ندعوه الحب من اول نظرة ، فلا تجد بعد العناء الا اوراقا مسودة تمارس خيانتها للعنوان وللقارئ.
ما تبقى من حزمة الكتب التي قرأتها لهذا العام من خارج تلك الدائرة ليس بالكثير ، ليس سوى عناوين متفرقة تراوحت بين الشعر والراوية والمسرح وشواغل الفكر العربي ، واذا كنت مرشحا منها كتبا للعرض في هذه المساحة فسأمضي لاختيار اثنين من كتب الباحث العراقي المقيم في لندن يحي محمد.
"مدخل الى فهم الاسلام" وَ "جدلية الخطاب و الواقع..عنوانان لا يشيان بالكثير ، لا يرشدناك الى استثناء في طبيعة المادة المعالجة ، غير ان سياحة في داخلهما تدعوك الى الاستئناس بلغة الباحث وادواته.
يمنحك الباحث في اصدارته التي اسعفتنا بها مكتبات البحرين فرصة للتعرف على وسع اطلاعه بآراء المذاهب والاتجاهات الاسلامية في عصورها الباكرة ،بمدراسها الفلسفية والكلامية والفقهية، وسع سيجعل من "مدخل الى فهم الاسلام" و "جدلية الخطاب والواقع" مساحة للحوار بين تلك الآراء ، والكشف عن انظمتها المعرفية وادواتها الفكرية.
يجهد في "مدخل الى فهم الاسلام" لاستنبات رؤية فكرية تستعير التصور الكانطي للممايزة بين الشي في ذاته والشيء لذاتنا ،وهي بمثابة المقدمة النظرية لعدد من مقالاته واصداراته اللاحقة ، ليؤسس لتلك الفاصلة بين النص وفهم النص ، او ما يسميه بفهم الخطاب ، فعملية الفهم برأيه ليست مجرد نقل وتطابق بل هي عبارة عن "هضم وتحليل وتركيب لمادة النص"، ومن هنا يأخذ النص قابلته للتطويع عبر القنوات المعرفية التي تسبغ عليه شيئا من مسلماتها وقواعدها القبلية.
وعلى هذا ينطلق الباحث الى التأكيد على عدم احقية الاجهزة المعرفية في احتكار ما يسميه "حق النيابة المطلقة للخطاب" باعتبارها جميعا ممارسات اجتهادية تتداخل فيها قبليات معرفية تستجوب البحث والنظر ، وتستوجب احياء لروح النقد الذاتي التي كانت تغييب لصالح نزعة دوغمائية تدعي الوضوح والقطع في بنائها المعرفي ، وتتكئ على كثير من المقولات المخدرة كمقولة الفرقة الناجية.
علم الطريقة هو ما يرشحه الباحث للمفاضلة والترجيح بين هذه الاجهزة ، وكاستراتيجية بديلة لفهم الخطاب وادراك روح الجهاز المعرفي ، ويراهن بهذا الاتجاه على تقديم "قراءة جوانية للظاهرة المعرفية" عوضا عن التشاغل بارتباطاتها الخارجية واتصالها بالبيئة والتاريخ ، ومن هنا سينطلق في فصول الكتاب ليختبر الاتساق في في الجهاز الفلسفي عبر مجموع التنظيرات الوجودية التي مرت بالوسط الاسلامي على مختلف الحقب التاريخية ، والجهاز العرفاني وادواته ، ويبدأ بعدها البحث في مساحة الصراع والتكامل بينهما ، لينتهي عند مراجعة النظام المعياري والنظام البياني في تجلياته المعرفية عند السنة والشيعة.
اضاءات متفرقة وجهد لا يحتمل الاختزال والتلخيص في هذه المساحة لهذا الاصدار الذي يراهن على الخروج على انغلاق المذهبيات وطرقها المسدودة ، لباحث شغله الدرس الفلسفي في المدارس الدينية لردح من الزمن.
"جدلية الخطاب والواقع" هو الآخر معني بدراسة الخطاب وملابساته لكن هذه المرة من جهة صلته بالواقع ، انطلاقا من القناعة بوجود علاقة تأثيرية بين النص والواقع ليعيد معه موضعة النص الديني في سياقه الحضاري.
يمضي الكتاب الى جمع شواهد كثيرة للتأكيد على ذلك الارتباط بين النص والواقع ، فالخطاب الديني يحفل باشارات قرآنية متعددة تدعو للتفكير في سنن الخالق في هذا الكون ، وهو ما يرى فيه تنبيها لحجية الواقع وارشادا لكونه مصدرا معرفيا معتمدا لفهم النص ، علاوة على ان كثيرا من معطيات نص الخطاب لا يمكن الحفاظ على اتساقها او ادراك ابعادها دون الرجوع الى الواقع.
ثمة دلائل بينة على حضور الواقع في الفكر الاسلامي منذ تشكله الا ان هذا الحضور بحسب الكاتب ظل مختزلا الى ابعد الحدود ، هو اقرب للغياب منه للحضور ، وعلى هذا يرى بأن "المنهج الوقائعي" مازال في طور التشكل والبناء، وهو منهج يفترق عن المنهج السائد و التقليدي في كونه يقدم كتاب الله التكويني في التفسير على الكتاب التدويني.
هذا الاتجاه يجد مبرراته في تغيرات الفهم الديني لبعض النصوص بتغير معطيات الواقع ، وانتهاء بعضها الى التعارض مع الواقع اما بسبب خروجها عن سياق ظروفها ، او بسبب انكشاف الواقع عن حقائق جديدة لها صلة بتطور الفهم البشري او البحث العلمي.
من هنا يصبح وجيها السؤال عن تأثير الجزيرة العربية كظرف تاريخي ومحيط اجتماعي في صياغة الاحكام الحضارية وعن قابلية تعميم هذا النموذج وسحبه على مختلف الحقب التاريخية السابقة واللاحقة المغايرة في ظروفها ، او انها على حد الباحث "تمس اهلها على نحو اللزوم والفرض" ولا تعنينا الا بنحو الارشاد والعبرة.
يبقى ان الكثير من اجتهادات الباحث ومقولاته ليست بالجديدة في محيط الدراسات الفكرية ، الايرانية منها والعربية ، الا ان ما يميزه هو التأسيس المعرفي لها وآلية البحث فيها مفيدا بذلك من حضوره العلمي في دائرة المعارف الدينية .
أثير السادة
ديسمبر 2005