يحيى محمد
نعتقد ان من الجائز ترجيح العلم الوجداني التلقائي وتقديمه على العلم الممنطق الصناعي. وهو حكم نال قبولاً لدى عدد من المفكرين المسلمين. فقديماً ذهب ابن خلدون الى ان بعض العلوم يمتلك من الموارد ما يترجح فيها الرؤية الوجدانية العادية على تلك التي تنطبع بطابع الدليل الصناعي، وبالتحديد انه قام بترجيح رؤية غير المختص على رؤية الفقيه المختص، وذلك بشأن معرفة شؤون الواقع وكيفية التعامل معه، مثلما هو الحال مع القضايا السياسية. فقد اعتبر العلماء معتادين على الغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات ومن ثم تجريدها في الذهن بشكل امور كلية عامة ومطلقة ثم يطبقونها على الوقائع الخارجية، او يقيسون الامور بما اعتادوه من القياس الفقهي المجرد في الذهن، لكن ما يجردونه لا يطابق الواقع، الامر الذي يجعلهم يقعون في كثرة من الغلط حين ينظرون في السياسة باعتبارها تحتاج الى مراعاة ذلك الواقع، والنظر في كل حالة جزئية فيه بما يلائمها من الاحكام. وهو بهذا ينتصر لغير المختص والذي يطلق عليه ‹‹العامي سليم الطبع المتوسط الكيس››، اذ يرى انه لقصور فكره عن الغوص في المعاني العميقة والتجريد، وعدم اعتياده لذلك فانه يقتصر في كل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الاحوال والاشخاص على ما اختص به دون ان يعدي حكمه بالقياس والتعميم، بل لا يفارق في اكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج كما يقول الشاعر:
فلا توغلن اذا ما سبحت فان السلامة في الساحل[1].
وحديثاً ذهب محمد عبده الى ان اليقين الصادق لا يتوقف على البرهان ولا على التخصص، فاعتبر ان الادلة العقلية كما وضعها المتكلمون وسبقهم الى كثير منها الفلاسفة الاقدمون ‹‹قلما تخلص مقدماتها من خلل، او تصح طرقها من علل، بل قد يبلغ أمي علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه، او في نفسه اذا تجلت بغرائبها عليه، وقد رأينا من اولئك الاميين ما لا يلحقه في يقينه الاف من اولئك المتفننين الذين أفنوا اوقاتهم في تنقيح المقدمات وبناء البراهين، وهم أسوأ حالاً من ادنى المقلدين››[2].
بل احياناً يلجأ اصحاب التخصص الى اعتباراتهم الوجدانية وسائر التأثيرات الثقافية والبيئية بصورة تلقائية، وربما من غير وعي، حتى لو كان ذلك على حساب الصنعة. ومن ذلك ما تفرضه عليهم التأثيرات العرفية والمرتكزات العقلائية التي قد تؤدي دورها على حساب الصنعة الاستدلالية. وقد بات معلوماً ما لهذه العوامل من دور فاعل في الفكر العلمي، فاصبحنا نسمع عن عناصر الحدس والخيال والثقافة البيئية والاغراض الميتافيزيقية والنواحي الشخصية وغيرها من العوامل التي تدخل ضمن وشائج الذهنية العلمية التي يستحيل التخلص منها، فمثلاً يُعتقد ان نظرية الكم او الكوانتم للفيزياء الذرية كانت الى حد بعيد وليدة الهزيمة العسكرية الالمانية في الحرب العالمية الاولى[3]. ومن الناحية المبدئية اخذ الفكر العلمي يميل الى الاعتراف بوجود التعقل والاستدلال من غير صرامة المنطق الصوري، بل واعتبار ان من الممكن وجود هذا التعقل بكيفية صحيحة بدون منطق، كما هو صريح ما يقوله (جونسن ـ لايرد). وكذا ما صرح به (هلتون) من انه ‹‹لا توجد طريقة مقعّدة، ولا نسق منطقي للاكتشاف، ولا تطور متصل بسيط. بل ان سيرورة الاكتشاف متنوعة بقدر ما تتنوع أمزجة العلماء››[4]. ومثل ذلك ما يؤكده العالم الفيزيائي (أرنست ماسن) من ان العملية الذهنية التي ينجز بها المرء مفاهيم جديدة ليست عملية بسيطة، وانما هي عملية بالغة التعقيد. وهي عنده في المقام الاول ليست منطقية بالرغم من انه يمكن ادخالها كروابط وسطى ومساعدة. فالمجهود الرئيسي الذي يؤدي الى اكتشاف معرفة جديدة انما يرجع الى التجريد والخيال[5]. وعلى رأي فيلسوف العلم المعاصر (فيليب فرانك) انه اذا درسنا بدقة كيف نعثر على مبادئ جديدة في العلم، يتضح لنا ان مبدءاً مثل قانون القصور الذاتي، او مبدأ النسبية، لا يمكن اختراعهما بأي طريقة نظامية (استدلالية او استقرائية)، ولكن يتم ذلك فقط باستخدام القدرة الذاتية الاختراعية، وهي ما تسمى ايضاً الخيال واحياناً الحدس، كالذي أكد عليه اينشتاين في احدى محاضراته[6]. وفي هذا الاطار عُرف ان هناك صنفين من العلماء يمارسون الحدس الاستكشافي بشيء من الاختلاف: فهناك الصنف المحترز الذي يعمل بالاحتياط ولا يقبل تفسير الظاهرة موضع البحث الا بعد وفرة عدد مقبول من القرائن. كذلك هناك الصنف المغامر الذي يتسرع الى وضع الفروض التفسيرية ولو بحد ضئيل من الشواهد المؤيدة مع غياب المكذب. بل لقد وُصفت الطريقة العلمية في منهجها الحدسي بأنها عادة ما تمارس مغالطة منطقية؛ كتلك التي مُثلت بالقياس التالي:
ان الكلب هو حيوان لبون.
ان هذا الذي أمامي هو حيوان لبون.
اذن ان هذا الحيوان هو كلب.
فقد عُد هذا التصوير المتضمن للمغالطة المنطقية، يمثل بدقة ما عليه النظريات العلمية[7].
وفي علم الفقه يرجح المفكر الصدر ان فتاوى الفقهاء حول موارد السلطنة (الناس مسلطون على أموالهم) انما جاءت بحسب ما تأثر به الفقهاء من ارتكازاتهم العقلائية اكثر مما تأثروا به من الصناعة الاستدلالية[8]. وعلى رأيه ان هناك حالة نفسية عند كثير من الفقهاء تمنعهم عن إعمال الصنعة في مقام استنباط الحكم الشرعي لكثير من الموارد الفقهية، الامر الذي دعاهم الى التفتيش عن اساليب استدلالية مستحدثة لتلائم تلك الحالة النفسية؛ كدعوى حجية الشهرة والاجماع المنقول وانجبار الخبر ووهنه تبعاً لعمل الاصحاب الاسلاف وإعراضهم..ثم ان من القواعد التي اصطنعت لايفاء تلك الحالة النفسية؛ مسألة الارتكاز العقلائي في السيرة، اذ كلما بطلت تلك الدعاوى في أذهان الفقهاء فانهم يعوضون الامر في توسعتهم لدليل الارتكاز العقلائي كي يفتوا بما يتفق والحالة النفسية التي هم عليها، بعيداً عن المألوف من الصنعة الفقهية المتوارثة[9]. والمفكر الصدر يتقبل الاطمئنان الناشئ عن هذه الحالة، ويرى ان حجية الاعتقاد غير متوقفة على الدليل، وذلك ما دام ان العلم ذاته غير متوقف على البرهان والدليل، وانما قد يحدث بعلة تؤثر في النفس تكويناً بلا برهان[10]. مع ذلك فباعتقاد تلميذه (كاظم الحائري) ان هذا الكلام انما صدر عن السيد الصدر قبل استكشافه لمنطق الاحتمالات وما يؤول اليه الحساب الاحتمالي في المعرفة الموضوعية وامكاناتها عند البحث والتفتيش العلمي، وبالتالي لا يخلو علم موضوعي في غير الضروريات عن ذلك[11]. الا ان ما يشكل عليه هو ان من القضايا ما تتحدد بالوجدان وإن لم يستطع الانسان ان يقدم الدليل عليها، وبالتالي يصح له الاعتماد على قناعاته الوجدانية الكاشفة سواء امتلك لذلك دليلاً او لم يكن لديه الدليل الكافي. وهو موضع اشتراك المختص وغيره. ومهما يكن فان السيد الصدر في كتابه (دروس في علم الاصول) - وهو من الكتب المتأخرة - أقر بحجية القطع سواء كان القطع موضوعياً يستند الى البديهة او الدليل، او كان ذاتياً لا يستند الى ذلك مثلما يكثر لدى عوام الناس[12]. وبهذا تكون الحجية عند الصدر ليست رهينة الدليل والبداهة.
وما يجب ان يلاحظ بهذا الصدد هو ان هناك نقاط ضعف منهجية قد تتسرب الى المختص فتجعل نتائجه اقل قبولاً من نتائج الوجدانيات العقلائية لغير المختصين. ومن ذلك ما سنذكره من هذين الاعتبارين:
1ـ قد يبتعد المختص عن المطلوب لكثرة ايغاله بقوالب الاستدلال، فكلما طال الاستدلال كلما زاد احتمال الوقوع في الخطأ.
2ـ قد يفضي المنهج المتبع في التفكير الى ان تكون نتائجه الظنية هي على خلاف ما يصدّق به الوجدان. مما قد يجعل الاستسلام الى قرار هذا الاخير اقرب وافضل تصديقاً من الاعتماد على الدليل الصناعي مهما كان دقيقاً ومنضبطاً، وذلك ان الدقة والضبط ليستا كافيتين في حد ذاتهما اذا ما اخذنا المنهج المعتمد بنظر الاعتبار، فالقياس المنطقي مثلاً هو صحيح ودقيق، لكنه مع هذا لا يكشف في حد ذاته عن الواقع الموضوعي. فكيف اذا ما اعطى الدليل الصناعي نتائج هي من حيث الوجدان واضحة البطلان[13]؟!
على ان ما ذكرناه لا يقتصر تطبيقه على الدراسات الانسانية، وانما يمتد احياناً الى العلوم الطبيعية. فهناك قضايا منهجية تتنافى والمشاهدة الوجدانية، مثلما هو الموقف من مبدأ الغرضية والحكمة الذي لا تقره هذه العلوم رغم ان الشواهد عليه لا تقبل العد والاحصاء. كذلك هناك قضايا مضمونية لا زال العلم يتقبلها مع ان بعضها واضح البطلان والبعض الاخر فيه الكثير من الغموض والشكوك. ومن ذلك التفسير المادي لنشأة الحياة وتطورها اعتماداً على المصادفات العشوائية، وكذلك التسليم بنظرية التطور رغم ان الادلة عليها ليست كافية لكثرة ما ينتابها من شكوك.
فهنا نجد ان الحجة الوجدانية لغير المختص هي اقوى اعتباراً من حجة اولئك المختصين الذين رضوا لانفسهم ان يتبعوا النهج التعسفي من التفكير المادي الصرف.
هكذا ننتهي الى انه لا فرق في القضية الوجدانية بين ان تكون ملبّسة بالدليل العلمي او عارية عنه، وبالتالي فان صحة التصديق وقوته لا تتوقفان بالضرورة على الصياغة المنطقية للدليل. كذلك لا ضرورة تدعو لترجيح الدليل العلمي على ما يخالفه من القضية الوجدانية. فقد تكون هذه القضية أصح مما يقدم من تلك الملبسة بالدليل الصناعي ما لم يكتسب هذا الدليل صفة القوة الترجيحية من التصديق. ويظل التصديق في جميع الاحوال يعبر عن حالة وجدانية نابعة عن البصيرة او العقل الوجداني والا لأدى الامر الى تسلسل الادلة الى ما لا نهاية له.
[1] مقدمة ابن خلدون، طبعة دار الهلال، بيروت، 1986م، ص336ـ337.
[2] محمد رشيد رضا: المنار في تفسير القرآن، دار الفكر، الطبعة الثانية، ج 1، ص229ـ 230.
[3] فعلى ما ذكره الاستاذ جيمس بيرك ان العلماء الالمان كانوا يتوقعون انتصار بلادهم ضد الحلفاء، خصوصاً ان المانيا آنذاك كان لها هيبة دولية وازدهار مالي ورقي اجتماعي، لكن لما فوجؤوا بالهزيمة أصيبوا بالخيبة والحاجة الى فلسفة اخرى لا تقوم على مبادئ النظام والعقلانية وتفسير الوقائع طبقاً للسببية الحتمية. وقد تسرب العداء للسببية الى كافة اوجه الحياة الالمانية. واخذ يتعرض كل من يؤيدها الى الحرمان من الدعم المالي والمنح والمراكز الوظيفية. وفي القبال اخذ التشجيع ينصب على تأييد نظرية اللاسببية التي تفسر القضايا الموضوعية تبعاً للمصادفات والاحتمالات، وعند ذلك الحين ظهرت نظرية الكم واصبح مبدأ الاحتمال وعدم اليقين هو اساس هذه النظرية في علوم الفيزياء الذرية، وذلك على يدي العالمين الالمانيين شرودنجر وهايزنبرج (انظر: جيمس بيرك: عندما تغير العالم، ترجمة ليلى الجبالي، سلسلة عالم المعرفة (185)، الكويت، 1414هـ ـ1994م، ص426ـ428).
[4] بنّاصر البُعزاتي: الاستدلال والبناء/بحث في خصائص العقلية العلمية، دار الامان-المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1999م، ص258.
[5] فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1983م، ص386.
[6] فلسفة العلم، ص76.
[7] John Hospers, An Introduction to Philosophical Analysis. 3rd ed. London. p.175.
[8] لاحظ حول ذلك: كمال الحيدري: لا ضرر ولا ضرار، تقرير ابحاث السيد محمد باقرالصدر، دار الصادقين، قم، الطبعة الأولى، ص386.
[9] كاظم الحائري: مباحث الاصول، تقرير ابحاث السيد محمد باقر الصدر، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، 1408هـ، القسم الثاني، ج 2، ص131.
[10] فعلى رأي السيد الصدر ان نزوع العلماء نحو البحث عن الدليل ربما يكون من نتائج المنطق الارسطي القائل بأن الشيء إما ان يكون ضرورياً او مكتسباً ينتهي الى الضروري، وكان لهذا المنطق أثره على مختلف العلوم بما فيها علم الفقه، لكن العلم ليس ناشئاً على الدوام تبعاً للبرهان، بل قد ينشأ عن علة تؤثر في النفس تكويناً وإن لم يكن هناك برهان ولا دليل. ذلك ان العلم هو امر حادث قائم بممكن حادث تسيطر عليه قوانين العلة والمعلول، فحيث توجد علة العلم فان هذا الاخير يوجد حتماً؛ سواء تعرفنا على هذه العلة او لا (المصدر السابق، ص134). ولا شك ان فصل العلم عن الإحكامات والمباني المنطقية، كالذي يذهب اليه المفكر الصدر، يجد له صدى كبيراً لدى الكثير من فلاسفة العلم المعاصرين (يلاحظ بهذا الصدد كتاب: الاستدلال والبناء/بحث في خصائص العقلية العلمية).
[11] المصدر السابق، هامش ص134.
[12] محمد باقر الصدر: دروس في علم الاصول، ج 2 (الحلقة الثالثة)، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الرابعة، 1417هـ، ص134.
[13] ومن الامثلة على هذا النوع ما جاء في الصنعة الفقهية ما صدر عن عدد من الفقهاء، ومنهم بعض مشايخ صاحب (جواهر الكلام)، من فتوى ترى انه يجب على المحبوس في المكان المغصوب الصلاة على الكيفية التي كان عليها اول الدخول الى هذا المكان؛ فإن كان قائماً فقائم، وإن كان جالساً فجالس، بل لا يجوز له الانتقال الى حالة اخرى في غير الصلاة ايضاً، وذلك باعتبار ان اي حركة انما هي تصرف في مال الغير بغير اذنه، ومن هؤلاء من يقول انه ليس له ان يحرك أجفان عيونه اكثر مما يحتاج اليه، ولا يديه ولا سائر اعضائه، وان الحاجة تقدر بما تتوقف عليه حياته ونحوها. وهي فتوى ادعى اصحابها ان الفقهاء عليها. لكن صاحب (الجواهر) اعتبرها من الخرافات غير اللائقة، خاصة وانها تفضي الى ظلم المحبوس بأعظم من ظلم الظالم الذي الجأه الى هذا الحبس المغصوب (النجفي: جواهر الكلام، ج 3، ص416ـ417). وواضح ان الاستدلال في الصنعة الفقهية هنا يتصادم كلياً مع ما عليه حكم الوجدان العقلي ومقاصد الشرع.
وهناك أمثلة اخرى على هذا النحو ذكرناها في كتابنا المخطوط: (مقاصد التشريع والواقع).