يحيى محمد
بداية نعترف أن من الصعوبة بمكان وضع فواصل حدّية تفصل بين مراتب النظر، أو بين بعض من هذه المراتب وبين الإجتهاد أو حتى التقليد، وذلك لتداخل الحدود الوسطى المتقاربة. فعلى حد قول الغزالي وهو في معرض التمييز بين العامي والمجتهد: إن «بين درجة المبتدئ في العلم وبين رتبة الكمال منازل واقعة بين طرفين وللنظر فيها مجال»[1]. مع ذلك فمن الناحية المنهجية يمكن تقسيم طريقة النظر إلى مرتبتين كما يلي:
أ ـ المرتبة التفصيلية
في هذه المرتبة يكون صاحب النظر على مستوى دقيق وواضح في إستبعاده لبعض الأفكار وقبول الأخرى، وذلك اعتماداً على قناعته بالأدلة المفصلة أو عدم إقتناعه بها. وربما تختلط هذه المرتبة بعملية الإجتهاد. فقد يُعد مثل هذا الضرب من السلوك المعرفي إجتهاداً، وإن كان حسب المفهوم إن الناظر لا يقوم بالمهمة التي تقع على عاتق المجتهد، وهي استنباط الحكم من المصادر الشرعية، أو يفترض أن المجتهد قادر على معرفة الأحكام الشرعية ولو لم يعتمد على النظر في أدلة المجتهدين الآخرين، فلو انه استند إلى هذا النظر دون ان تكون له القدرة الذاتية المستقلة؛ فسيكون بذلك من النظّار لا المجتهدين. وربما يكون أغلب ما يعتقد انهم مجتهدون هم في واقع الأمر نظّار، أو قلما تبدو عليهم حالة الإجتهاد التي تتضمن الإبداع خلاف حالة النظر.
وهنا نلفت النظر إلى أن طلبة العلم الذين يدخلون في مرحلة ما يسمى بالبحث الخارج لدى الحوزات الشيعية ـ أو ما يشاكلها ـ، والذين يمكنهم التمييز في التفاصيل التي تردهم من أقوال المجتهدين، إنما ينزلون هذه المنزلة من النظر التفصيلي. مع أن الفقهاء يطبقون عليهم حكم التقليد طالما لم يحصلوا على مرتبة الإجتهاد بعد؛ رغم أنهم من أهل الخبرة في تمييز التفاوت بين درجات العلماء ومراتبهم العلمية، لهذا عدّهم الفقهاء ممن تقام بهم الحجة على العوام في تشخيص الأعلم وسط العلماء. وهنا المفارقة والتناقض، إذ كونهم من أهل الخبرة والقدرة على التمييز بين المراتب العلمية للفقهاء هو في حد ذاته يُبطل تصنيفهم ضمن فئة المقلدين. فقدرتهم على التمييز بين المراتب لا تتحقق ما لم يكونوا متمكنين من فهم أدلة العلماء وأذواقهم، وهو في حد ذاته يجعلهم متمكنين من الترجيح بين الأدلة، وبالتالي لا يجوز عليهم التقليد. وآية ذلك إنهم كثيراً ما يتعرضون لمناقشة الأدلة التي يعرضها عليهم الأُستاذ.. فكيف يُسمح لمثل هؤلاء أن يكونوا بمرتبةٍ لا تختلف عن مرتبة العامة من الناس؟!
وتجدر الإشارة إلى ان الميدان الذي يتحرك فيه هؤلاء الطلبة في ممارسة النظر هو أوسع مدى من الميدان الذي يتحرك فيه غيرهم من المثقفين الدينيين. فبوسع الطلبة التعرف على جميع المسائل التي يتناولها الفقيه بالإجتهاد، وهي مسائل تهم الطلبة مثلما تهم المجتهدين باعتبارهم جميعاً من ذوي الدراسات الدينية، وبالتالي فان الطلبة عارفون بمدارك الفقهاء ومبانيهم، وهو ما يخولهم ان يزاولوا الترجيح بين الآراء التي يتعرفون عليها بالتفصيل. في حين ليس للمثقفين اهتمام بالكثير من المسائل التي يتداولها الفقهاء بالدرس والإجتهاد، كالمسائل التعبدية وما اليها، وقد يجهلون أحياناً المباني التي يعتمد عليها الفقهاء في إجتهاداتهم. مع هذا فالمثقفون معنيون بالنظر ولو ضمن الميدان الضيق الذي يتحركون فيه؛ مقارنة بالميدان الواسع الذي يتحرك فيه طلبة البحث الخارج في العلوم الدينية. وهو أمر لا يمنع المثقفين من التحرك في ميدان آخر أوسع وأعمق مما يتحرك فيه طلبة العلوم الدينية، وهو الميدان الخاص بالاشكاليات المعاصرة التي فرضت نفسها على العقل المثقف، وجعلته يتعامل معها بنحو من الإجتهاد غير ذلك الذي عهدناه لدى الفقيه، كالذي فصلنا الحديث عنه في دراسة مستقلة[2].
ب ـ المرتبة الإجمالية
يعتمد صاحب النظر في هذه المرتبة على ما يرد إليه من إجمال في الأدلة فيطمئن لبعضها دون البعض الآخر؛ مستعيناً بذلك على ما له من قدرة عقلية فطرية يميز فيها ما يراه أنه أقرب إلى الصواب، كما هو حال أغلب المثقفين. فلو أن مثقفاً أو ناظراً سأل جماعة من المجتهدين عن مسألة ما ونوع الدليل الذي إعتمدوه على نحو الإجمال مع التوضيح؛ فإن من حقّه أن يختار ما يراه صحيحاً بحسب ما يمليه عليه وجدانه من غير إعتبارٍ للأعلمية والحياة التي يشترطها الفقهاء في التقليد.
فلا يخلو الناظر من مرتكزات معرفية قد يستمدها من دراسته للعلوم الدينية كما هو الحال مع طلبة هذه العلوم، أو من الدراسات الانسانية والخبرة الحياتية كالجاري مع المثقفين، كما قد يستمدها من المقاصد الكلية للتشريع. وكل ذلك يساعده على فهم الأدلة والترجيح فيما بينها. إذ قد يأخذ بالدليل الأقرب إلى تلك المرتكزات وإن لم يكن مدركاً لمرتكزاته على نحو التمييز والتخصيص، ومن ثم قد لا يكون مدركاً لعلة ترجيحه على نحو التفصيل حسب الصنعة الاستدلالية[3]. لكن في جميع الأحوال إنه يرجح ما يراه أقرب إلى واقع الحكم الشرعي، فما توصل إليه بالنظر يشكل أرجح الاحتمالات الممكنة المتنافسة في تعيين الحكم الحقيقي للشرع.
وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من علماء الإتجاهين السني والشيعي قد اعتبروا صورة الإجمال في معرفة الدليل مقبولة حول العقائد وعلم الكلام حتى بالنسبة للعامي فضلاً عن المجتهد. فقد أوجبوا على كل عامي أن يعلم أدلة العقائد ولو إجمالاً لعدم إختصاصه وتبحره، كما هو رأي الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وغيرهما من العلماء والأتباع[4]. فإذا كان هذا سليماً رغم أهمية العقائد وكونها تحتاج إلى الأدلة القاطعة؛ فكيف لا يصح الأمر مع الأحكام وهي من الفروع التي لا ترقى إلى مستوى تلك العقائد؟!
بل حتى في الفروع يجيز العلماء الإعتماد على الدليل الإجمالي الذي يسمح بمشروعية الإستفتاء، ومن ذلك قول الشريف المرتضى: «إعلم أن العامي لا يجوز أن يسوغ له العمل بفتيا العلماء إلا بعد أن يكون ممن قامت عليه الحجة بصحة الإستفتاء والعلم بجوازه. ولن يكون كذلك إلا وهو ممن يصح أن يعلم الأحوال التي نشأ عليها صحة الإستفتاء إما على جملة أو تفصيل، لأنه إن لم يكن بذلك عالماً كان مقدماً من العمل بالفتيا على ما لا يأمن كونه قبيحاً، وإنما يأمن أن يكون كذلك بأن يعلم الحجة في جواز الإستفتاء وصحته»[5].
هكذا فمثلما يقال في العقائد: «إن تحرير الأدلة بالعبارات المصطلح عليها ودفع الشبه الواردة فيها ليس بلازم، بل اللازم معرفة الدليل الإجمالي بحيث يوجب الطمأنينة، وهذا ما يحصل بأيسر نظر»[6]؛ فكذا يصح أن يقال نفس الشيء مع أدلة الفقه. بل أن الأولوية تكون مع هذا الأخير لا مع غيره؛ لا لكونه أقل أهمية من العقائد فحسب، بل كذلك بإعتبار أن الذي ينظر في العقائد بالنظر الإجمالي غالباً ما يلجأ إلى ذات الأدلة التي تطرحها بيئته «المذهبية»؛ دون أن يلتفت بجدّية إلى أدلة الخصوم. ولا نغالي لو قلنا إن هذا هو ديدن أغلب العلماء فكيف الحال بعامة الناس، وذلك بإعتبار أن الشروط التي وضعوها للنظر في العقائد تفرض على الناظر أن يمارس مثل هذا الدور التمثيلي. فهو يدرك - ولو لا شعوراً - أنه لو كان إعتقاده مخالفاً لإعتقاد بيئته التي أوجبت عليه النظر لأصبح مُصنَّفاً ضمن لائحة الكفر أو الضلال. وهذا ما لا يواجهه الناظر في الفقه إذا ما أيّد رأياً ورجحه على غيره من الآراء - ما لم يخرج عن المذهب -، لذلك كان الشافعي يقول: «رأيت أهل الكلام يكفر بعضهم بعضاً ورأيت أهل الحديث يخطّئ بعضهم بعضاً، والتخطئة أهون من الكفر».
من هنا يتبين أنه لا يشترط في علم الفقه، ونفس الحال في علم العقائد، أن يكون الناظر قادراً على تقديم الأدلة. فضلاً عن أنه ليس كل من لم يتمكن من تقديم الأدلة لا يكون عالماً؛ كما نصّ على ذلك الشيخ الطوسي، إذ إعتبر تقديم الأدلة صناعة لا يتوقف حصول المعرفة عليها[7].
لكن من الواجب على الناظر أن يكون على بينة وإطلاع فيما يخص معالم الدين الأساسية وأُصول الفقه دون حاجة للدخول في التفاصيل التي يزاولها الفقهاء. إذ يمكن ممارسة الكثير من المبادئ المقررة تلقائياً رغم عدم الدقة في معرفتها تفصيلاً، شبيه بالممارسة الصحيحة للقضايا المقررة في المنطق؛ حتى مع عدم الإطلاع على المنطق، وكذا حال فهم المقاصد اللغوية وترجيح بعضها على البعض الآخر حتى مع عدم الإطلاع - في الغالب - على علم النحو وسائر علوم اللغة. فكل ذلك مما يمكن مزاولته تلقائياً رغم جهل المبادئ التي تتوقف عليها. لهذا لا يحتاج الناظر التوقف كثيراً في مباحث الظهور اللغوي والقرائن والعموم والخصوص ومراتب الأدلة وغيرها من المباحث الأصولية. ومعلوم أن بعض العلماء لا يشترط أن تكون دراسة علم أُصول الفقه مقدمة للإجتهاد، حيث يكفي لحيازة الإجتهاد أن يكون طالب العلم مقتصراً في الأصول على الإحاطة بالمسلمات والمشهورات بين العقلاء والعلماء وما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة، وكل ذلك عنده متوفر في كتب الفقه الإستدلالية، أما التدقيقات العقلية والإحتمالات البعيدة التي تعج بها كتب الأصول فهي عنده من الحشو والفضل التي لا عبرة بها[8]. وشبيه بذلك ما اتجه اليه الشيخ حسن العاملي وابن اخته السيد محمد بن علي الموسوي[9].
مع هذا ينبغي على الناظر أن يمارس النظر والترجيح لكل ما لم يكن واضحاً؛ طبقاً لما يعتقد أنه أقرب إلى الشريعة ومقاصدها. والأولى أن لا يتقيد بالإجتهاد المذهبي كالذي سار عليه بعض المجتهدين ممن رجح العمل ضمن الإطار الواسع للإسلام دون التقيد بحدود ذلك الإجتهاد، كما هو حال الشيخ محمد جواد مغنية. فكما قال مثلاً: «إن مخالفة المذهب ليست مخالفة لواقع الإسلام وحقيقته، بل لصاحب المذهب، وبالأصح للصورة الذهنية التي تصورها عن الإسلام». ويقول ايضاً: «آن لنا أن نعيش أحراراً في أفكارنا.. وندع التقليد لمذهب خاص وقول معين، ونختار من إجتهادات جميع المذاهب ما يتفق مع تطور الحياة ويسر الشريعة. وإذا لم يكن التخيّر من المذاهب إجتهاداً مطلقاً فإنه على كل حال ضرب من الإجتهاد»[10].
وللتخلص من نزعة التقليد، من الاهمية بمكان أن يتربى المسلم ويتدرب على ممارسة التفقه والنظر في آراء الفقهاء ومداركهم الاستدلالية؛ شيئاً فشيئاً بالتدريج، كالذي أشار اليه ابن الجوزي، حيث نصح طالب العلم بقوله: «ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم. ومن أقبح النقص التقليد، فإن قويت همته، رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد فإن المقلد أعمى يقوده مقلده »[11].
[1] المستصفى، ج2، ص384.
[2] يحيى محمد: القطيعة بين المثقف والفقيه، دار أبكالو، طبعة ثالثة، 2019م.
[3] انظر بهذا الصدد مدخل كتاب القطيعة بين المثقف والفقيه، وهو بعنوان: التكافؤ المعرفي بين المختص وغيره.
[4] رسائل المرتضى، ج2، ص321. وعدة الأصول، ج1، ص355 وما بعدها. وفرائد الأصول، ج1، ص148.
[5] الرسائل، ج2، ص320 الرسائل، ج2، ص320.
[6] معالم الدين، ص387 .
[7] فرائد الأصول، ج1، ص148.
[8] انظر: تهذيب الأصول، ج2، ص111.
[9] أذكر أنه نقل لي أحد الأصدقاء من المشايخ بأن السيد الخوئي كان يقول في أواخر حياته ما معناه: لقد قضيت من عمري ستاً وستين سنة في علم الأصول هدراً.
[10] الفقه على المذاهب الخمسة، المقدمة، ص8 و9.
[11] ابن الجوزي: صيد الخاطر، شبكة المشكاة الالكترونية، فصل : لا تني عن طلب الكمال (لم تذكر ارقام صفحاته). ومشكلات في طريق الحياة الإسلامية، ص144.