-
ع
+

كيف نقرأ التراث؟

يحيى محمد

 

لا شك أن طبيعة هذا السؤال تعود بنا إلى التفكير المنهجي مباشرة. فهو سؤال يبحث عن ماهية المنهج الذي يمكن إتباعه في دراسة التراث وقراءته بما لا يخرجه عن مكنونه الحقيقي؟

 

كما لا شك أن التفكير في الأُطر المنهجية تجعل من الباحث يرفض الدخول في القراءة التي تعمل على الأخذ بالتفاصيل من غير روابط عامة تشدّها وتتحكم فيها. أي أنه يرفض القراءة غير الممنهجة.

 

يظل بعد ذلك أن التفكير في القراءات المنهجية يتنازعها اتجاهان رئيسيان، أحدهما يعتمد التحليل الجواني في تفسير التراث، وذلك باتباع المنطق الداخلي للمعرفة التراثية ذاتها. أما الآخر فيعتمد التحليل البراني من خلال إتباع أثر الظروف الخارجية على تكوين التراث وتطوره؛ سواء كانت هذه الظروف جغرافية أو إجتماعية أو سياسية أو غيرها، فالمهم أن تكون حاسمة في تشكيل الظاهرة المعرفية للتراث في كافة تفاصيلها ومختلف مجالاتها.

 

أمام هذين المنهجين نحن ندعو إلى إتباع القراءة الأُولى ونقد الثانية، بل ونفترض في القراءة الجوانية وجود أجهزة معرفية لها أُصولها المولّدة والمنظمة تنظيماً جوانياً وأكسيمياً ثابتاً، أي أن أيّ جزء من النظام المعرفي لا يُفهم الا عبر وجوده وربطه بالكل الذي ينتمي اليه ذاتياً، بفضل وجود بعض المعارف القادرة على التوليد والإنتاج المعرفي، فهي أُصول مولّدة فعّالة باعتبارها تمتاز بإنتاج المعرفة وتوليدها.

 

هكذا تنفذ القراءة الجوانية إلى صميم الظاهرة المعرفية ـ لا خارجها ـ، فتفترض لهذه الظاهرة وجود قالب منطقي يحظى بدرجة معقولة من النظام الهندسي الأكسيمي تبعاً لما يفرضه المنطق الخاص بالأصول المولدة للمعرفة والتي نطلق عليها (دينامو التفكير). الأمر الذي يغني ـ في مثل هذه الصورة ـ عن بحث التطورات المفصلية للظاهرة المعرفية ومراحل ظهورها وما يمكن أن تتأثر به من عوامل خارجية مختلفة عبر التاريخ. فليس من وظيفة ذلك المنهج الخوض في البحوث التي تجعل همّها محصوراً في التفتيش عن عوامل البيئة والتاريخ لنشأة الظاهرة المعرفية كأداة ورؤية، والتي تمنح ثقافة الوسط مصدر ظهورها بالكامل، على نحو آلي او منعكس شرطي. فعيب هذه الدراسات المغالية هو أنها تعمل على قتل الروح الداخلية للظاهرة المعرفية. إذ مهما نجحت في الكشف عن العوامل التي تؤثر في بناء وتأسيس بعض جوانب الظاهرة؛ فإنها تتصاغر أمام حقيقة ما تستضمره من مغنطة هندسية للنظام الأكسيمي الدال على النشاط الذاتي والجواني للأصل المولد الفعال.

 

لذلك نعتبر هذه الدراسات واقعة في ملابسة من الوهم والحقيقة، سيما حينما يتستر خلفها دوافع آيديولوجية (تأسيسية). فلو سلمنا بصدق نظرية هذه الدراسات وما تفرضه من تأثير حاسم للوسط على كل من الأداة والمحتوى للفكر؛ لكان هذا مانعاً من دراسة الفكر دراسة منطقية تكشف عن العقل الداخلي للظاهرة المعرفية الممغنطة بمجال الأصل المولد الفعال. فعلى فرض صدق هذه النظرية فإن وجود الاتساق بين المعارف الإنتاجية والأصل المولد يجعل العلاقة بينهما قائمة على محض الصدفة، فلا فرق بين وجود الاتساق وعدمه، فبكلا الحالين إن مرد تفسير هذه العلاقة يكون عائداً إلى العامل البراني. وهو أمر غير مقبول تبعاً لمنطق ترجيح الإحتمالات، فوجود الاتساق له دلالة على التأثير المنظم للمحور المشترك، مما يعجز عن تفسيره عامل الوسط الخارجي، خلافاً للتفسير المنبعث من الحكم الذاتي للظاهرة المعرفية تبعاً لمنطق الأصل المولد وكونه محوراً مشتركاً قادراً على تفسير النظام الحاصل في العلاقة المعرفية.

 

ورغم أنه قد يقال بأن ثبات الوسط، كالبيئة الجغرافية أو العرق، هو بمثابة المحور المشترك للتفسير وعلة وجود الوحدة والاتساق في الظاهرة المعرفية بين الأصل وفروعه.. إلا أن هكذا افتراض لا تتقبله حقيقة وجود التفاوت والاختلاف بين الأجهزة المعرفية وأُصولها المولدة حتى لدى الوسط والعرق الواحد. وبعبارة أُخرى، أنه لو صح مثل هذا الافتراض لكان من المناسب أن لا نجد تكثّراً في الأجهزة المعرفية ولا نحظى بأكثر من أصل مولد واحد يستحوذ على الوسط الثابت بكامله. والحال ان في الوسط الواحد العديد من الأجهزة وأدواتها وأُصولها، مما يدل على أن الوسط ـ على ما له من تأثير نسبي كبير ـ ليس هو العامل الحاسم ولا المحور المشترك الذي بامكانه تفسير الأكسمة للظاهرة المعرفية وتبرير تعدد الأجهزة وأُصولها الابستمولوجية.

 

وكمقارنة بين القراءتين (الجوانية الأكسيمية) و (البرانية الوسطية) نرى أن الأُولى تميل بحسب منطقها الهندسي المغنيطي إلى إبراز الاتساق والوحدة في الظاهرة المعرفية والفكر. أما القراءة الأُخرى فهي إن لم تبعثر الظاهرة المعـرفية تبعاً لتأثير صيرورة التاريخ وتغيرات البيئة فإنها تعمل على تفسيرها طبقاً لمنطق الثبات في عامل الوسط البراني، إذ تجعل من وحدة هذا الوسط علّة لنشوء الوحدة والاتساق في الظاهرة المعرفية. مع أنه بحسب القراءة الأُولى حتى لو افترضنا أن المصادر الأُولى لنشأة أدوات الفكر وأُصولها المولدة عائدة إلى الثقافة السائدة في الوسط، والتي تعود بدورها إلى ظروف الوسط ذاته؛ فمع ذلك فإن ما ينشأ عن تلك الأدوات والأصول من معارف علمية مستجدة لا يصح اعتبارها منعكسة عن تلك الظروف أو عدها تعبر عن رد فعل ميكانيكي عن الوسط. فمن المعقول أن يبعث الوسط على أشكال ساذجة من التفكير غير المنتظم. كما ومن المعقول أن يكون أثره العام على مجمل العملية المعرفية، بعيداً عن التحديد الآلي والحتمي مفصلاً بعد آخر. وكذا من المعقول أيضاً أن يبعث على صور معرفية آيديولوجية متمظهرة بمظهر الشكل العلمي المنتظم التفكير. لكن هذه الصور تظل متقلبة عندما تكون هناك دوافع سياسية أو اجتماعية أو غيرها تستبطن العملية المعرفية وتقبع خلف تأسيسها بالكامل. أما أن يبعث الوسط على صور متسقة ومنظمة من التفكير الأكسيمي؛ فهذا غير معقول، طالما أن الوسط وما يستضمره من دوافع آيديولوجية يخضعان إلى التغيّر والصيرورة باستمرار.

 

تبقى أن العـلاقة بين المـعرفة العلمية والآيديولوجيا لا تعبّر دائماً عن (الصدام). فالأخير لا يتحقق ما لم تأت الآيديولوجيا على حساب الحقيقة ودقة العملية  المعرفية. فبعض الآيديولوجيات تمتلك أهدافاً مستقبلية عامة تحفّز على الاثبات العلمي ودقة العملية المعرفية دون أن تقف عثرة في طريقها. بل يمكن القول أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تكون هناك معرفة علمية دون أن يقبع خلفها دافع آيديولوجي يعبر عن غرض ما من الاغراض الانسانية، مهما كان نوعه وسعته، سيما فيما يتعلق بالمعارف التي تلفّ حول الدراسات الانسانية.

 

على أن الفضول الآيديولوجي لا يعني تأثيره على كافة مفاصل العملية المعرفية وجزئياتها، بل يكفي أن يكون لها غرض عام تستفيده من مجمل هذه العملية. ويمكننا تحديد القيمة الإحتمالية للفضول الآيديولوجي في علاقته بجزئيات العملية المعرفية عبر ما تتمتع به هذه العملية من قدرة أكسيمية، فكلما كانت المعرفة شديدة المغنطة والارتباط؛ كلما كانت القيمة الإحتمالية للفضول الآيديولوجي ضعيفة. مما يعني أن الآيديولوجيا تخبو وتغيب حينما يكون هناك اتساق وارتباط بين مفاصل المعرفة ضمن المنظومة أو المذهب الواحد. إذ لا قدرة للآيديولوجيا على تأسيس الاتساق والارتباط بين المعارف الجزئية ما لم يكن القصد منها عاماً يتمثل بايجاد الاتساق ذاته، بغض النظر عن نوع المفاصل المعرفية، وهو ما لا يحدث الا نادراً. أو يحصل في بعض الأحيان أن تكون قادرة على تأسيس الأداة المنهجية أو حتى الأصل المولد طبقاً لأغراضها الخاصة، لكن كل ذلك ليس له علاقة بتأسيس المفاصل الجزئية للمعرفة المنظمة، مفصلاً بعد مفصل وجزئية بعد أُخرى، فتأسيس الآيديولوجيا لهذه الخصوصية أكسيمياً هو ما لا يتفق مع منطق حساب الإحتمالات، إذ يصبح تفسير الارتباط والمغنطة بين المعارف قائماً على محض الصدف والاتفاقات بالقياس إلى مسبباتها من الاغراض الآيديولوجية المتنازعة. وبالتالي ليس من السهل على الغرض الآيديولوجي أن يفسر ـ كمحور مشترك ـ جميع قضايا المذهب أو المنظومة المعرفية الممغنطة بعضها بالبعض الآخر حسب الاتساق. فبحسب منطق الإحتمالات من المعقول أن يشكل الغرض الآيديولوجي محوراً لتفسير قضية ما أو قضيتين معرفيتين بدرجة معتبرة من الإحتمال، الا أن مع إزدياد القضايا الممغنطة برباط الشد والأكسمة يصبح المحور عاجزاً عن أن يحظى بدرجة معتبرة من القيمة الإحتمالية، الأمر الذي يفقد جدارته في التفسير ويكون غير ثابت، مثلما لا تثبت كتابة جملة منتظمة المعنى بافتراض أنها جاءت عن طريق الصدفة، كأن يُفترض أنها حدثت نتيجة لهو طفل لا يعرف القراءة ولا الكتابة.

 

على أنه إذا لم يكن للآيديولوجيا حضور على مستوى تأسيس مفاصل المنظومة المعرفية وجزئياتها المتسقة؛ فإن بامكانها الحضور على صعيد توظيف تلك المفاصل والجزئيات المعرفية لأغراضها الخاصة. مما يعني أن هناك فارقاً بين التأسيس الآيديولوجي للمعرفة وبين التوظيف لها، وهو ما يفسر لنا ذلك (الازدواج) الذي حلّ لدى الكثير من المذاهب والمنظومات المعرفية التي ظهرت وترعرعت خلال تاريخ الفكر الإسلامي. فمع أن هذه المذاهب لم تمارس في الغالب ظاهرة النقد الذاتي، وهي الظاهرة التي لها علاقة عكسية بالآيديولوجيا، فهي تغيب مع حضور النقد وتحضر مع غيابه، وبالتالي فإن ضعف حضور النقد الذاتي في التراث له دلالة على حضور الآيديولوجيا، لكن مع ذلك يمكننا أن نعتبر في الوقت نفسه أن الكثير من المنظومات في تراثنا لم يكن له صلة بالآيديولوجيا بحسب المعنى الذي سلف ذكره، وذلك لأنها تحمل صفة المغنطة والاتساق.

 

فلا يمكننا مثلاً أن نردّ مقالات المعتزلة في العدل واللطف والحسن والقبح العقليين وحرية إختيار الانسان وغيرها من المقالات؛ إلى أغراض آيديولوجية ببعثرتها وانتزاعها عن انتظامها الخاص في المنظومة المعرفية. كما لا يمكننا أيضاً أن ننتزع مقالات الأشاعرة عن النظام الخاص بها باضفاء سمات الآيديولوجيا عليها، كمقالة الكسب وقدم القرآن وجواز تكليف ما لا يطاق والحسن والقبح الشرعيين وما اليها من المقالات الأُخرى. وكذا الحال مع المقالات الفلسفية والعرفانية، كنظرية الفيض والحتمية ووحدة الوجود وقدم العالم وتأثير العالم العلوي على السفلي وما اليها. فأيّ عملية تفكيك بين المقالات المتسقة تفضي إلى الاصطدام مع منطق حساب الإحتمالات كما عرفنا.

 

وعادة ما تتأثر القضايا القبلية للفهم الديني بالايديولوجيات، لكن مع شيء من الفارق، وهو أن القبليات غير المنضبطة تتأثر بالايديولوجيات المؤسسة، في حين تتأثر القبليات المنضبطة بالايديولوجيات الموظفة لا المؤسسة.

 

وبهذا نصل إلى بيت القصيد من معنى الازدواج الحاصل في حضور وغياب الآيديولوجيا لدى الكثير من المذاهب المعرفية لتاريخ الفكر الإسلامي. فعندما نقول أنها حاضرة غائبة في الوقت ذاته، نعني بأنها حاضرة على مستوى توظيف المنظومة المعرفية بما تحمله من جوانب اتساقية مشدودة برباط الأصل المولد، الا أنها في الوقت نفسه غائبة على مستوى التأسيس ضمن المنظومة المتسقة بنظام المغنطة والارتباط.

 

وبذلك ندرك أهمية التعرف على الأصل المولد وعلاقته بإنتاجه المعرفي، فهو عبارة عن مصدر التشريع والعقل المنتج في الثقافة والفكر للجهاز المعرفي. مما يعني أن أي عملية فهم للتراث لا تأخذ ذلك بنظر الاعتبار تظل ناقصة ومشوشة.

 

وأقل ما يمكن أن يقال عند المقارنة بين هذه الطريقة (الجوانية) لبحث التراث المعرفي، وبين الطرق الأُخرى (البرانية) التي تركّز على فاعلية ونشاط العوامل الخارجية كأساس لإنتاج مفاصل الفكر والظاهرة المعرفية؛ هو أنه على الرغم من تغير هذه العوامل وعدم ثباتها الى الحد الذي يجعلها غير موجودة اليوم كما كانت في السابق، الا ان ذلك لم يؤثر على ثبات العلاقات المنطقية التي تربط ثنايا الفكر والظاهرة بعضها بالبعض الآخر. كما بالرغم من أن الكثير من مفاصل التراث المعرفي لم تعد له اليوم حاجة وقيمة كما كانت بالأمس بحكم ظروفها الخاصة، الا أن طريقة المعرفة والتفكير مازالت حيّة حاضرة تمد يد التوجيه إلى عقلنا الحاضر باستمرار، فهي فعّالة لا تموت بموت ما أنتجته من فكر ومعرفة، الأمر الذي يفرض علينا قراءة التراث المعرفي طبقاً لافتراض أوله كآخره، إذ بعضه مستضمر في البعض الآخر ضمن دوائر خاصة، وكل ما يظهر من أفكار ومعارف يعبّر عن افرازات جديدة تولّدها العقول المولّدة داخل هذه الدوائر.

 

هكذا فالطريقة الأكسيمية الجوانية تنحو إلى قراءة التاريخ الفكري للتراث طبقاً لتحديد (الوحدات المعرفية). فهي لا تعير أهمية للافتراض القائل بوجود وحدة للتاريخ كما تحاول بعض الاتجاهات البرانية إثباتها. فكل ما يهمّها هو النظر للمعرفة كوحدة قائمة في ذاتها، الأمر الذي يجعلها ترى التاريخ كياناً قائماً على وحدة المعرفة لا العكس.

 

ومن الواضح أن بين الاعتبارين فارقاً جوهرياً حتى مع افتراض أن مقالة وحدة التاريخ يمكنها تبرير ثبات الوحدة المعرفية. فهذا الافتراض لا يجعل للوحدة المعرفية استقلالها الذاتي الخاص، ولا النظر الجواني الدينامي، فالاساس الذي يهتم به هو وحدة العامل البراني، باعتباره علة مؤثرة وحاسمة تفضي بالأفكار المعرفية إلى اتخاذ طابع التطور والوحدة والاستمرارية عبر التاريخ. وبعبارة اخرى، إن تطور الفكرة ووحدتها واستمراريتها المنظّمة، كلها تحدث نتيجة العامل البراني، فبوحدته واستمراريته وارتباط أحداثه يتحقق الإتصال والتطور المشدود بعضه بالبعض الآخر داخل الظاهرة المعرفية.

 

comments powered by Disqus