يحيى محمد
ظهر خلال القرن الثاني للهجرة عدد من الموطآت لكن لم يصلنا منها في الحديث سوى موطأ مالك، وقد كتبه بناء على طلب من ابي جعفر المنصور، حيث قال له: إن الناس قد اختلفوا بالعراق فضع للناس كتاباً تجمعهم عليه فوضع الموطأ[1]، وهو يتضمن ثلاثة آلاف مسألة[2]. كما روي انه قال لمالك: ‹‹ضم هذا العلم يا ابا عبد الله ودونه كتباً وتجنب فيها شدائد عبد الله بن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود، واقصد اوسط الامور وما اجتمع عليه الائمة والصحابة››[3]. واستغرق مالك في تصنيف كتابه اربعين سنة، وقيل انه روى فيه من الاثار ما سلم في معيار النقد وجرب من جهات الصحة، واعتبرت أحاديثه اصح الاحاديث، حتى قيل في الكتاب انه انفع كتاب بعد القرآن الكريم، ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن مهدي: ما كتاب بعد كتاب الله انفع للناس من الموطأ، ولا اعلم من علم الاسلام بعد القرآن اصح من موطأ مالك[4]. وقال الشافعي: ما كتب الناس بعد القرآن شيئاً هو انفع من موطأ مالك[5]. وجاء عن أبي زرعة انه قال: لو حلف رجل بالطلاق على أحاديث مالك التي في (الموطأ) أنها صحاح كلها لم يحنث، ولو حلف على حديث غيره كان حانثاً[6]. وروي ان المنصور شاور مالكاً في تعليق الكتاب بالكعبة لاهميته الفائقة فرفض[7].
وجاء في الثناء على علم مالك ان عبد الرحمن بن مهدي لا يقدم على مالك أحداً، وكان يقول: مالك أفقه من الحكم وحماد. كما قال الشافعي: لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز، وقال ايضاً: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. وقال ابن وهب: لولا مالك والليث لضللنا. وقال عبد الرزاق: يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة، اي مالك. كما سأل عبد الله اباه احمد بن حنبل: من أثبت أصحاب الزهري؟ فاجاب: مالك أثبت في كل شيء، ومثله نقل عن يحيى بن معين[8]. وفي رواية اخرى عن ابن حنبل انه وصف مالكاً بأنه اثبت الناس مع قلة ما روى، وفي رواية ثالثة أضاف انه كان يخطئ[9]. وكان أبو عبد الرحمن النسائي (المتوفى سنة 303هـ) يرى انه ليس أحد بعد التابعين أوثق وآمن على الحديث من مالك، ثم يليه شعبة، ثم يحيى بن سعيد القطان. فعلى رأيه انه ليس غير هؤلاء الثلاثة ما يؤَمّن به على الحديث وقلة الرواية عن الضعفاء. فمثلاً انه ذكر من أقران مالك عبد الله بن المبارك ووصفه بأنه أجل أهل زمانه إلا أنه يحدث عن الضعفاء، وكذا كان سفيان الثوري. في حين كان مالك أقل رواية عن الضعفاء، اذ لم يروِ عن احد منهم سوى عدد محدود للغاية مثل عبد الكريم أبي أمية وعبد الغفار بن القاسم وعاصم بن عبيد الله[10].
واهم ما امتاز به كتاب الموطأ هو ان معظم رواته كانوا من الحجاز، وقد اكثر فيه مالك المرسل والمنقطع، واغلب ما نقله من اسناد هو اقوال الصحابة والتابعين[11]. وهو في احيان قليلة كان يمارس التدليس، فمثلاً انه يروي عن ثور بن زيد حديث عكرمة عن ابن عباس دون ذكر عكرمة، وقد وقع ذلك منه في اكثر من حديث، وكذا كان يسقط عاصم بن عبد الله من إسناد آخر ذكره الدارقطني[12]. لكنه اشتهر بشدة نقده للرجال وحرصه على ان لا يضع في كتابه الا من كان ثقة، وكان يرى ان من لم يرو عنه من المعاصرين له في المدينة فهو ممن لم يوثقه[13].
كما اشتهر مالك بقلة روايته وتحفظه في الحديث ومراعاته للصحة باكبر قدر ممكن[14]، الى درجة انه كان يسقط الكثير من أحاديثه بين فترة واخرى، حتى اختلفت الرواية في عدد أحاديثه ومقدار ما اسقط منها عبر السنين، ومن ذلك ما ذكره الكيا الهراسي من ان مقدار أحاديثه كانت (7000) ثم اخذ العدد يتناقص عنده الى (700) حديث. وقال سليمان بن بلال: لقد وضع مالك الموطأ وفيه (4000) حديث فمات وهي (1000) حديث ونيف، يخلصها عاماً عاماً بقدر ما يرى انه اصلح للمسلمين وامثل في الدين[15]. كما ذكر عتيق الزبيري بان ما وضعه مالك في (الموطأ) هو ما يقارب (10000) حديث فلم يزل ينظر فيه ويسقط منه حتى بقي هذا، ولو عاش قليلاً لاسقطه كله[16]. وقال صفوان بن عمر بن عبد الواحد: عرضنا على مالك (الموطأ) في اربعين يوماً فقال: كتاب الفته في اربعين سنة اخذتموه في اربعين يوماً، ما اقل ما تفقهون فيه[17].
وذكر ابو بكر الأبهري ان جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي (ص) وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثاً؛ المسند منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديث، والموقوف ستمائة وثلاث عشر حديث[18]، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون[19]. وهذا يعني ان ما نقله مالك عن النبي (ص) من الحديث المتصل يقارب ثلث المجموع، او انه يقارب نصف ما نقله من الحديث غير المتصل.
وروي الموطأ بروايات عديدة اشهرها روايتان: احداهما رواية يحيى بن كثير الليثي الاندلسي (المتوفى سنة 234هـ) والاخرى رواية صاحب ابي حنيفة محمد بن الحسن الشيباني[20]، وذكر الكتاني انه إذا أطلق في الازمان المتأخرة موطأ مالك فإنما ينصرف للرواية الاولى[21]. وقد اعتنى الكثير من المالكيين وغيرهم بكتاب مالك ورواته، وعدّ منهم القاضي عياض نحواً من تسعين رجلاًً[22].
وقد ذكر ابن حزم الاندلسي ان موطأ مالك كان يروى لدى الكثير من الناس منذ ألفه، وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه، وعاش بعد موت مالك ثلاثاً وستين سنة، وموطؤه أكمل الموطآت، لان فيه خمسمائة وتسعين حديثاً بالمكرر، أما بإسقاط التكرار فخمسمائة وتسعة وخمسون حديثاً[23]. مع ان ما ورثه المتأخرون من موطآت مالك اكثر من ذلك، حتى ان بعضها يزيد على ذلك عدة اضعاف، فكما عرفنا ان البعض قال ان فيه ثلاث الاف مسألة، واكبر الظن انه يعني ثلاث الاف رواية، وبعض اخر قال ان فيه اكثر من ألف وسبعمائة رواية. وفي النسخة المطبوعة حالياً لرواية يحيى بن يحيى الليثي يوجد اكثر من ألف وثمانمائة (1843) رواية[24]. وكل ذلك يتنافى مع ما استقر عليه عالم المدينة، وبالتالي أصبح من المحال معرفة ما عوّل عليه دون غيره.
[1] تقدمة المعرفة، فقرة مالك بن انس.
[2] الرسالة المستطرفة، ص14
[3] ابن عاشور: تحقيقات وانظار في القرآن والسنة، ص76، وابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، شبكة المشكاة الالكترونية، ضمن فصل من وصاياه وآدابه (لم تذكر ارقام صفحاته).
[4] تحقيقات وانظار في القرآن والسنة، ص76
[5] كما قال: ما في الارض كتاب في العلم اكثر صواباً من كتاب مالك (تحقيقات وانظار في القرآن والسنة، ص76، وسير اعلام النبلاء، فقرة 111). وقال ايضاً: وجدت أحاديث الاحكام كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثاً، ووجدتها كلها عند ابن عيينة سوى ستة أحاديث (تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 249).
[6] الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، باب في ذكر الموطأ وتأليفه إياه
[7] ونُسب ذلك ايضاً الى هارون الرشيد، وانه شاور مالكاً في ان يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه، فقال: لا تفعل فان اصحاب رسول الله (ص) اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل سنة مضت (حجة الله البالغة، ص145). وقيل انه لما حج المنصور قال لمالك: قد عزمت ان آمر بكتبك هذه التي صنفتها فتنسخ نسخاً ثم ابعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة وآمرهم ان يعملوا بما فيها ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم. فقال: يا امير المؤمنين لا تفعل فإن الناس قد سيقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سيق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله (ص) وغيرهم وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد أنفسهم. فقال المنصور: لعمري لو طاوعتني لأمرت بذلك (سير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 78 و79).
[8] تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 199، وتقدمة المعرفة، باب ما ذكر من صحة حديث مالك وعلمه بالآثار. وسير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 74 و75، والتعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج2، ص765
[9] أبو المحاسن بن المبرد: بحر الدم فيمن تكلم فيه الامام احمد بمدح أو ذم تأليف، تحقيق وتعليق روحية عبد الرحمن السويفي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1413هـ ـ1992م، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص145.
[10] التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج2، ص767ـ768
[11] اذا كان المرسل عند اهل الحديث يرد عند قول التابعي: قال رسول الله، مع عدم ذكر اسم الصحابي الذي نقل عنه، فان معنى المنقطع هو الرواية التي تروى عن الصحابي من دون ذكر التابعي، وذلك على عكس المرسل، مثل أن يروي مالك بن أنس عن عبد الله بن عمر، أو سفيان الثوري عن جابر بن عبد الله، أو شعبة بن الحجاج عن أنس بن مالك... الخ (الكفاية في علم الرواية، معرفة ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات). فاكثر ما يوصف بالإرسال هو رواية التابعي عن النبي (ص)، وأكثر ما يوصف بالانقطاع هو رواية من دون التابعي عن الصحابة (مقدمة ابن الصلاح، باب معرفة المرسل). لكن هناك من اعتبر الحديث المنقطع بانه المروي عمن دون الصحابة موقوفاً عليه من القول أو الفعل، سواء كان تابعياً او غيره (الكفاية في علم الرواية، الباب السابق).
[12] ابن حجر: طبقات المدلسين، شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة 22 (لم تذكر ارقام صفحاته).
[13] مما جاء بهذا الصدد ان مالكاً قال لسائل سأله عن احد الرجال: هل رأيته في كتبي؟ فاجابه السائل بالنفي، فقال مالك: لو كان ثقة لرأيته في كتبي. وقد اعتبر يحيى بن معين ان كل من حدث عنه مالك فهو ثقة الا رجلاً أو رجلين (لاحظ: تقدمة المعرفة، باب ما ذكر من صحة حديث مالك وعلمه بالآثار. وسير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 72)
[14] وقد كان ابن حنبل يفضله على بقية أصحاب الزهري في قلة روايته وتثبّته (بحر الدم فيمن تكلم فيه الامام احمد بمدح أو ذم تأليف، ص145).
[15] تحقيقات وانظار في القرآن والسنة، ص76، ومحمد بن إسماعيل الأمير الحسني الصنعاني: توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، نسخة دار التراث، نشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج1، ص62
[16] محمد بن محمد الاندلسي الراعي: انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الامام مالك، تحقيق محمد ابو الاجفان، دار الغرب الاسلامي، بيروت، الطبعة الاولى، 1981م، ص209، والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، باب في ذكر الموطأ وتأليفه إياه.
[17] انتصار الفقير السالك، ص213، والديباج المذهب، باب في ذكر الموطأ وتأليفه إياه.
[18] المقصود بالموقوف هو ما أسنده الراوي الى الصحابي ولم يتجاوزه (الكفاية في علم الرواية، معرفة ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات).
[19] توضيح الافكار، ج1، ص62
[20] تاريخ المذاهب الاسلامية، ص431
[21] الرسالة المستطرفة، ص14
[22] الديباج المذهب، ضمن باب في ذكر الموطأ وتأليفه إياه
[23] الاحكام في أصول الاحكام، ج2، ص247
[24] انظر: موطأ الامام مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثي، اعداد احمد راتب عرموش، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1414هـ ـ 1994م.