يحيى محمد
للشيعة اربعة جوامع لكتب الحديث ظهرت خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة، وهي تعود الى من عرفوا بالمحمدين الثلاثة الاوائل، وهم الكليني صاحب كتاب (الكافي في الاصول والفروع)، والصدوق صاحب كتاب (من لا يحضره الفقيه)، والطوسي صاحب كتاب (التهذيب) وكتاب (الاستبصار). وتعد هذه الجوامع أهم ما لدى الشيعة من مصادر للحديث، لكن الرواية فيها تمتاز بعدد من نقاط الضعف يجعلها غير صالحة للاعتماد، ومن ذلك ما يتعلق بمشكلة السند. فلو تساءلنا عن الكيفية التي تعامل بها اصحاب الكتب الاربعة مع الروايات التي جمعوها، فهل بدا منهم حرص على الاهتمام بالسند لمن رووا عنه؟ أم كانوا مجرد نقلة جامعين من غير تحقيق؟
واقع الامر انه قد استقر عمل هؤلاء على النقل من الكتب والاصول المنسوبة الى مؤلفيها دون النظر في رجال السند ولا تمهيد لبيان المشيخة الواقعة بين الناقل وبينها[1].
فالكليني يصدر سنده بذكر اسم الراوي عادة دون ان يعرّف اتصاله به إن كان قد عول في ذكره على ما في الكتب والاصول المشهورة انذاك، او انه استند الى طريق اخر، والارجح هو الاول، خاصة انه روى عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة من انه قال لأبي جعفر الثاني (الجواد): جعلت فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم فلما ماتوا صارت الكتب إلينا، فقال: حدثوا بها فإنها حق[2].
اما الشيخ الصدوق فقد اشار الى ان جميع ما أورده في كتابه (من لا يحضره الفقيه) مستخرج من كتب مشهورة معروفة، وذكر ان طرقه اليها معروفة في فهرس الكتب التي رواها عن مشايخه وأسلافه. لكن هذا الفهرس الذي ذكر فيه طرقه الى الكتب التي رواها عن مشايخه لم يصل الينا، فلا يعرف من طرقه غير ما ذكره في المشيخة من طرقه إلى من روى عنهم في كتابه. وأما طرقه إلى أرباب الكتب فهي مجهولة تماماً، لذلك لا يعلم والحال هذه اي منها كان صحيحاً واي منها غير صحيح[3]. وقد اعتبر المحقق الخوئي ان الكتب المعروفة المعتبرة التي أخرج الصدوق روايات كتابه منها ليست هي كتب من بدأ بهم السند في كتابه وذكر جملة منهم في المشيخة، وإنما هي كتب غيرهم من الاعلام المشهورين، التي منها رسالة والده إليه، وكتاب شيخه محمد بن الحسن بن الوليد، فالروايات الموجودة في كتابه مستخرجة من هذه الكتب[4]. وهذا يعني انه لم يعتمد في نقله للروايات عن الكتب المشهورة مباشرة، بل نقل ما فيها اعتماداً على بعض مشايخه. كذلك فكما يقول بعض العلماء ان الشيخ الصدوق لم يف بما وعده في أول كتابه، من أنه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول واليها المرجع، وذلك لانه روى عن جماعات غير مشهورين، ولا كتبهم مشهورة[5].
اما الحال مع الشيخ الطوسي فمختلف، حيث بدأ في السند في كتابيه (التهذيب والاستبصار) لمن هو صاحب كتاب، فروى عنه ما جاء في كتابه، على ما صرح به في آخر كتابيه. مع ذلك فالطوسي لم يذكر ان الكتب التي اعتمدها في رواياته كانت كتباً معتبرة معروفة[6]. وهو ايضاً قد حذف - كما سبق ان عرفنا - في كتاب (التهذيب) الكثير من اسانيد رواياته استناداً الى ما سيذكره في خاتمة الكتاب من المشيخة لتخرج عن حد المراسيل، لكنه لم يذكر جميع الطرق التي له، بل احال بيانها الى كتابه (الفهرست) والى فهارس شيوخه، ومن سوء الحظ انها فقدت ولم يبق منها اثر، باستثناء القليل كمشيخة الصدوق وفهرست الشيخ ابي غالب الزراري. لذا بقيت جملة من الاحاديث في (التهذيب) مرسلة بغير اسناد معروف، وان كان الفاضل الاردبيلي في خاتمة (جامع الرواة) تمكن من اصلاح جملة من الطرق التي كانت مغفلة، وصنف في ذلك رسالة سماها (تصحيح الاسانيد)[7].
وخلاصة ما سبق ان القدماء قد اعتمدوا على ما شاع عندهم من الكتب المعروفة دون تحقيق وتدقيق في السند الذي يوصل الى هذه الطرق، ولا الى ما يتصف به اصحابها ومضامينها، وكأنها كتب صحاح بما تضمنته من الروايات. لذلك ورد عن المفيد قوله وهو بصدد نقده للشيخ الصدوق: ‹‹لكن أصحابنا المتعلقين بالاخبار أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلة فطنة، يمرون على وجوههم في ما سمعوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في اثباتها ولا يحصلون معاني ما يطلقون منها››[8]. كما ورد عن الشريف المرتضى قوله وهو بصدد نقد اصحاب الحديث من الشيعة: ‹‹ومن اشرنا اليه بهذه الغفلة يحتج بالخبر الذي ما رواه ولا حدث به ولا سمعه من ناقله فيعرفه بعدالة او غيرها، حتى لو قيل له في الاحكام: من أين اثبتّه وذهبت اليه؟ كان جوابه: اني وجدته في الكتاب الفلاني، ومنسوباً الى رواية فلان بن فلان. ومعلوم عند كل من نفى العلم باخبار الاحاد ومن اثبتها وعمل بها، ان هذا ليس بشيء يعتمد ولا طريق يقصد، وانما هو غرور وزور››[9]. خاصة وان الروايات التي يتعامل معها اصحابها لا تحمل صفة علو الإسناد في الوساطة الرجالية الا في النادر، كالذي صرح به العلامة الحلي، ومعلوم انه كلما قلت الواسطة كلما كان احتمال الكذب اقل[10].
على ان هذا الحال من عدم اهتمام القدماء بالسند قد شكل معضلة لدى المتأخرين من الاصوليين، وذلك انهم صرحوا باعتبار الواسطة والاعتناء بها، والتي منها الطرق الى اصحاب الكتب والاصول التي ظلت مجهولة لدى المتأخرين. اما الاخباريون فانهم لم يبالوا بالامر، اذ ذهبوا الى عدم الحاجة الى الطريق فيما روي بصورة التعليق من أحاديث الكتب المعتبرة، وعلى رأيهم انه لا يضر الجهل بالطريق ولا اشتماله على مجهول او ضعيف، طالما ان الاصول والكتب كانت مشهورة معروفة في تلك الاعصار متواترة النسبة الى اصحابها، وإن فقدت الطرق التي توصل الى ارباب هذه الكتب واصبحت مجهولة لدى المتأخرين. وقد زاد المتأخرون من التعويل على الكتب التي عثروا عليها مما ينسب الى القدماء رغم الفاصلة الزمنية الطويلة وقوة احتمال الوضع والدس والتزوير، فقد ادرج الحر العاملي في كتابه (وسائل الشيعة) ثمانين كتاباً ظفر بها من كتب المتقدمين، وكذا ادرج حسين النوري في كتابه (مستدرك الوسائل) اكثر من ستين كتاباً ظفر بها[11]، وهناك من اضاف الى ذلك كتباً عثر عليها للقدماء المعاصرين للائمة؛ مثل بصائر الدرجات للصفار[12]، والمحاسن للبرقي، وجملة اخرى من الاصول قدرت بثلاثة عشر أصلاً، مثل تلك التي تعود الى كل من زيد الزراد وزيد النرسي وعباد العصفري وعاصم بن حميد الحناط وجعفر بن محمد بن شريح الحضرمي ومحمد بن المثنى الحضرمي وغيرها[13]، وقد اعترف الشيخ النوري ان جملة من تلك الكتب التي اعتمد عليها المتأخرون كالحر العاملي في (وسائل الشيعة) هي مما لم تثبت نسبتها الى مؤلفيها، كفضل الشيعة للصدوق، وتحف العقول، وتفسير فرات، وإرشاد الديلمي، ونوادر أحمد بن محمد بن عيسى، والاختصاص للمفيد وما اليها[14].
[1] روضات الجنات، ج6، ص218، ونهاية الدراية، ص470
[2] الكافي، ج1، باب رواية الكتب والحديث، حديث 15، وانظر ايضاً: محمد باقر المجلسي: بحار الانوار، عن مكتبة الكوثر الالكترونية، ج2، ص167، وبنظر بعض المحققين المعاصرين ان هذا الحديث وان اعتبر صحيحاً من حيث السند، لكنه كاذب، معتبراً العهدة فيه على احمد بن محمد بن خالد البرقي الذي تفرد به (معرفة الحديث، ص46).
[3] معجم الرجال الحديث، ج1، ص24ـ25.
[4] معجم رجال الحديث، ج1، ص77ـ78
[5] نهاية الدراية، ص568ـ569
[6] معجم رجال الحديث، ج1، ص78
[7] انظر: خاتمة المستدرك، ج6، ص13ـ14، واعيان الشيعة، ج9، ص163، وروضات الجنات، ج6، ص220
[8] المفيد: شرح عقائد الصدوق، وهو ملحق خلف أوائل المقالات، نشر مكتبة الداوري، قم، ص64ـ65
[9] رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص212
[10] معالم الدين، ص392، وفرائد الاصول، ج2، ص802
[11] خاتمة المستدرك، ج1، الفائدة الاولى.
[12] من المعاصرين من اعتقد بوجود الدس في كتاب (بصائر الدرجات) وان الصفار كان يأخذ من الكتب السائدة دون تمحيص، وكون النسخة الحالية ليست له (معرفة الحديث، ص252ـ254).
[13] نهاية الدراية، ص533ـ534
[14] خاتمة المستدرك، ج1، ص20ـ21