-
ع
+

الفهم الديني وغياب علم الطريقة

يحيى محمد 

لقد تناول المؤرخون متى وكيف بدأ تكوين العلوم والمعارف الإسلامية، كالفقه والكلام والتفسير والحديث والفلسفة والتصوف (العرفان) وغيرها، وذلك فيما اطلق عليه عصر التدوين الموسوم بالعصر الذهبي سيما خلال عصر الرشيد والمأمون. فلقد كان لنشأة علم الحديث علاقة بالحفاظ عليه من الدس والاندراس في عهد الحفظ والمشافهة. وكان لنشأة علم الفقه علاقة بتجدد الحوادث وعدم تغطية نص الخطاب لكافة أبعاد الواقع. كما كان لنشأة علم الكلام علاقة ببعض الأحداث السياسية في العصر الأموي، ثم ما لبث أن اشتد هذا العلم وتطور نتيجة مقاومته للنزعات الباطنية الدخيلة من أمثال المانوية والهرمسية والمزدكية والزرادشتية وغيرها. فبفضل الصراعين الخارجي والداخلي أصبح علم الكلام علماً يدافع عن الخطاب الديني وينازع عليه بالفهم، وذلك بتأسيسه له من الخارج والداخل. إذ بمعونة الصراع الخارجي إستطاع أن يثبّت بنيان التأسيس الخارجي للخطاب، كما أنه بمعونة الصراع الداخلي تمكن من تثبيته من الداخل، وهو الذي نعبّر عنه بفهم النص أو الخطاب.

فهناك ثلاثة أنماط من التأسيس العقلي في علم الكلام، أحدها عبارة عن التأسيس القبلي للنظر، حيث يعبّر عن التشريع الخاص بالعقل الكلامي بغض النظر عن علاقته بغيره. وثانيها عبارة عن التأسيس الخارجي للخطاب، والذي تتحقق به إثبات المسألة الدينية والحجة الشرعية والإعتراف بصدق مدلولها. أما ثالثها فهو التأسيس الداخلي للخطاب والذي يتم فيه التحقق من طبيعة مضمون النص إن كان على توافق مع الرؤية القبلية للعقل فيقر عليه، أو لا يتفق ظاهره معها فلا يقر عليه؛ بل يُعمل بالتوجيه والتأويل تبعاً لها. وقد أفضى هذا الحال بالعقل الكلامي إلى أن يرى في النص صفات محددة، كالمجاز والإحتمال والتشابه، هي على الضد من صفات العقل المتمثلة بالحقيقة والقطع والإحكام. وهو ما يبرر ممارسة التأويل لصالح الرؤية القبلية، بل وحتى المذهبية. لكن رغم ذلك فقد بقي علم الكلام لا يتعدى حدود التعبير عن المذاهب المتنازعة والنحل المتصارعة، دون أن يحفظ لذاته أصولاً ثابتة يتفق عليها الجميع إلا ما ندر.

وكان لحضور الفلسفة والعرفان والغنوص إرتباط بما اطلق عليه العلوم الدخيلة؛ القادمة من بلاد اليونان وفارس والهند. ويُعتقد أن حضور هذه العلوم كان لدوافع آيديولوجية نتيجة الصراع الدائر بين الدولة والمعارضة إبان الخلافة العباسية، حيث لجأت المعارضة إلى تبني النزعة الباطنية كما هو الحال مع الكيسانية والإسماعيلية، في حين عمدت الدولة إلى تبني النزعة العقلية المتمثلة بأرسطو عبر ترجمة كتبه المختلفة، كما في عهد المأمون. مع أن عملية الترجمة قد بدأت بفعل الدولة الأموية بما يخدم نزعة الباطن للمعارضة، إذ المعتقد بأن أول من باشر الإيعاز بهذه العملية هو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (المتوفى سنة 85هـ) كالذي ينقله إبن النديم في (الفهرست)، وأن من ضمن ما تمّ ترجمته هو ذلك التراث الخاص بالكيمياء والذي كان من العلوم التي استخدمته الباطنية كأداة لتبرير النزعة الغنوصية، كما عند جابر بن حيان الكوفي. وقد ذكر إبن النديم: «ويقال - والله أعلم - أنه صحّ له عمل الصناعة وله في ذلك عدة كتب ورسائل وله شعر كثير في هذا المعنى رأيت منه نحو خمسمائة ورقة ورأيت من كتبه: كتاب الحرارات، كتاب الصحيفة الكبير، كتاب الصحيفة الصغير، وكتاب وصيته إلى إبنه في الصنعة»[1].

ورغم أن إبن خلدون قد شكك في علاقة خالد بن يزيد الأموي بالكيمياء لإعتبارات عرقية بيئية، وهي «أن خالداً من الجيل العربي والبداوة إليه أقرب، فهو بعيد عن العلوم والصنائع، فكيف له بصناعة غربية المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات وأمزجتها وكتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تترجم»[2]. لكن الإشكال هو أنه إذا كان مبرر التشكيك متعلقاً بممارسة خالد بن يزيد لصنعة الكيمياء للإعتبارات العرقية البيئية التي ذكرها، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون لهذا الخليفة دور الإيعاز لترجمة الكتب المتعلقة بها، إذ تُظهِر هذه الصنعة أموراً عجيبة وغريبة، بل ومغرية، وكل ذلك مما تتشوق إليه النفوس عند سماع أخبارها، سواء كانت عربية بدوية أو غيرها، فكيف إذا ما كانت هذه النفوس ذات ملك وسلطان[3]؟ لهذا فمبرر التشكيك الذي ذكره إبن خلدون لا يعد كافياً.

هكذا يظهر أن هذه العلوم وغيرها من المعارف الأخرى لم تنشأ وتترعرع كفروع متحدة بآصرة المنهج أو علم الطريقة للفهم والتفكير. فمعظمها كان مشغولاً بالصراع والتنافس، إما لغرض السيادة عبر التوليد المعرفي الناتج عن التأسيس القبلي للنظر، أو لغرض احتواء النص الديني واحتكاره عبر ممارسة الفهم القائم على ذلك التأسيس. فبالرغم من هذه العلاقة المزدوجة التي تربط العلوم والمذاهب ببعضها من جهة، وبالنص من جهة أخرى، فإنه لم يظهر وسط هذه المماحكات أثر للتفكير المنهجي المتعلق بفهم النص أو الخطاب كعلم مستقل عام يتجاوز مرحلة التنافس والسجال، أو مدخل معرفي غرضه البحث والتفتيش عن أنسب القنوات الممكنة لفهم النص وما يترتب عليه من إنتاج معرفي.

فقد كانت العلوم والمذاهب ترى نفسها مكتفية من حيث ذاتها، صحيحة في أسسها ومبانيها، كاملة في معرفتها، لا تحتاج إلى ما يغني فقرها ويسدد عوزها، سيما أنها لم تعانِ من صدمات ذاتية تلفت نظرها إلى واقعها الخاص فتلجأ إلى إعادة النظر وتقويم حالها عبر النقد الذاتي.. فلم يحدث هذا باستثناء بعض الومضات الخاطفة، أبرزها ومضة فخر الدين الرازي في نقده الذاتي وإحساسه بمشكل الجهل المعرفي، وهو إحساس لم يتعدّ الإعتراف بعجز الإنسان عن أن يرجح دليلاً على آخر معارض، وقضية في قبال أخرى، كما في بعض القضايا الميتافيزيقية، وهو ما يذكرنا بما قدّمه (عمانوئيل كانت) من نقد للأدلة الميتافيزيقية في كتابه (نقد العقل المجرد)، إستناداً إلى تساوي القيمة المعرفية للأدلة المتعارضة، وإستحالة ترجيح بعضها على البعض الآخر. لكن عوضاً عن أن تكون صدمة الفخر الرازي مرشداً لإبعاث الفكر الإسلامي بإتجاه علم المنهج والطريقة، فإنها على العكس آلت إلى افراغ علم الكلام من موضوعه بجعله قائماً على غير أساس من الدليل، وظلت المعضلة المعرفية معلقة تعرب عن إفلاس العلم الكلامي وتناقضه.

مهما يكن فإن فقدان الإحساس بوجود صدمة كبيرة كهذه، سواء فيما يتعلق بالواقع أو النص أو العقل، كل ذلك كان سبباً لغياب الالتفات إلى البحث المعرفي حول علم الطريقة للفهم الديني، سيما وأن هناك بعض العوامل التي أثرت على هذا النحو من الغياب، ومنها مقالة «الفرقة الناجية» التي تبنتها أغلب الإتجاهات الفكرية لدى تراثنا المعرفي. فقد إعتقد أغلب علماء الإسلام بأن الفرق الإسلامية كلها ضالة في النار إلا واحدة ناجية؛ إختلفوا حولها وتنافسوا عليها، وزعمت كل فرقة أنها هي المقصودة، إعتماداً على ما روي عن النبي (ص) بأنه قال: «إفترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أُمتي ثلاثاً وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة». وقد اجتهد علماء الفرق الإسلامية لتحديد الفرقة الناجية وفرق الضلال الأخرى بما يتفق مع العدد المشار إليه في الحديث، لكن حيث أن الواقع التاريخي لا يبدي أي إتفاق مع العدد المذكور، لذا جرت عمليات التعداد عشوائياً من غير انتظام، فكل فرقة عملت على تمزيق وتكثير غيرها من الفرق الكبرى بغية ايصال العدد إلى إثنتين وسبعين فرقة لأدنى مناسبة وإعتبار، لتصبح بالنتيجة هي المقصودة بالفرقة الناجية. هكذا عمل الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)[4]، ومثله عمل إبن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس)؛ إذ ذكر بأن أصول الفرق هي: الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية، وبعدها نقل قول البعض بأن هذه الفرق هي أصل جميع الفرق الضالة في الإسلام، إذ انقسم كل منها إلى إثنتي عشرة فرقة فصارت إثنتين وسبعين[5]. وكذا فعل البغدادي في فرقه للفرق، حيث وزع المذاهب إلى اقسام تحمل أعداداً متفاوتة من الفرق الضالة، فالروافض والخوارج والقدرية كل منها تحمل عشرين فرقة، يضاف لها خمس مرجئة وثلاث نجارية، وبكرية وضرارية وجهمية وكرامية، أما الناجية فهي المسماة عنده بأهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث[6]. وكذا عدّ البعض بأن أصول الفرق هي ثمان كبار، هي المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والنجارية والجبرية والمشبهة والناجية؛ فمن هذه الفرق تأسست سائر الفرق الأخرى، فافترق المعتزلة إلى عشرين فرقة، وانشطر الشيعة أولاً إلى ثلاث فرق هي الغلاة والزيدية والإمامية، وكان الغلاة ثماني عشرة فرقة، والزيدية ثلاث فرق، والإمامية فرقة واحدة. وبالتالي فمجموعها إثنتان وأربعون فرقة. يضاف لها سبع فرق للخوارج وإحدى عشرة فرقة للعجاردة وخمس فرق للمرجئة وثلاث فرق للنجارية ومثلها للمشبهة وواحدة للجبرية. لذا فالمجموع مع الفرقة الناجية يصبح ثلاثاً وسبعين فرقة[7]. وهناك جماعة من العلماء اعتبروا أصول البدع أربعة تتمثل بالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة، وعن هذه الأصول ظهرت سائر التفريعات الضالة، إذ كل منها انشطر إلى ثمان عشرة فرقة، ومع الناجية يتحقق العدد المطلوب[8]. بل هناك من حاول أن يحصر تلك الفرق الثلاث والسبعين بطائفة واحدة معتبراً ما عداها خارجة عن الإسلام[9]، وصنّف البعض كتاباً بهذا الخصوص، إذ ذكر فيه ثلاثاً وسبعين فرقة من الإمامية الشيعة[10]. وقد جرت مناقشات عقلية ونقلية عن تشخيص الفرقة الناجية، كالمباحثة التي تمّت بين نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي، والتي عقب عليها الشيخ الدواني ببعض التعقيبات[11]. لكن من جانب آخر إضطر البعض إلى عدم تعيين الفرق الضالة المنصوص على عددها في الحديث لعدم معرفة مقياس ذلك، كالذي لجأ إليه الطرطوشي وأيّده الشاطبي[12]. وفي القبال هناك من اعتبر الحديث موضوعاً من الأساس رغم تعدد رواته، كما هو الحال مع إبن حزم وغيره[13]، لا سيما الزيادة القائلة «كلها هالكة إلا واحدة». وقد حذّر الإمام اليمني محمد ابراهيم (المتوفى سنة 840هـ) في (العواصم والقواصم) من هذا الحديث بقوله: «وإياك والاغترار بـ (كلها هالكة إلا واحدة) فإنها زيادة فاسدة، غير صحيحة القاعدة، ولا يؤمّن أن تكون من دسيس الملاحدة»، معتبراً أن في سند الحديث ناصبياً كان يسب الإمام علياً، وهو أزهر بن عبد الله - إبن سعد - الحرازي. كذلك فعل الإمام الشوكاني إذ ذكر بأن زيادة «كلها في النار إلا واحدة» قد ضعّفها جماعة من المحدثين[14]. ومن الطريف ما يُذكر بأنه يوجد في قباله حديث مناقض وإن لم يقف في قوته من حيث كثرة أسانيده، إذ روي أن النبي قال : «ستفترق أُمتي على نيف وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة»[15].

مهما يكن فالحديث لا يحظى بوثاقة تاريخية من حيث عدد الفرق. كما أن مضمونه يتعارض مع مبدأ العدل الإلهي وضرورة حق الإجتهاد والتعبير عن الرأي وحرية الفكر وسط الإختلافات الكثيرة. والأهم من ذلك هو أن متن الحديث يحمل متوالية حسابية تجعل من التاريخ قائماً على صورة رياضية، بحيث أن الفارق في الإفتراق بين الأُمم الثلاث (اليهود والنصارى والمسلمين) هو واحد لا أكثر، وهو أمر من الصعب تصديقه وفقاً لمنطق الإحتمالات. ناهيك عن عدم وجود أي شهادة تاريخية تؤيد تحديد الأعداد التي ينطوي عليها الحديث.

هكذا فوجود الحلقات المغلقة للمنظومات الفكرية المتنافسة، والتي لم تسمح بالخروج عن دائرة «الفرقة الناجية»، أفضت إلى أن تعتدّ كل حلقة بنفسها، وترى أنها تطابق حقيقة ما عليه الخطاب الديني بما ينسجم وتلك المقالة «المخدرة»، مما زاد في حدّة الصراع دون أن تدع مجالاً للتفاهم فيما بينها، أو للنقد الذاتي إزاء العلاقة مع النص أو الخطاب، أو حتى الإحساس بالصدمات المعرفية.

كذلك الحال مع تأثير العامل الآيديولوجي للصراع كموقف دفاعي وتبريري لحفظ المذهب وتحقيق السياسة. فحضور الآيديولوجيا يعمل على تغييب النقد الذاتي للوعي المعرفي، مثلما أن غيابها يتيح الفرصة لإحضار هذا النقد. فوظيفة كل منهما تختلف عن الأخرى، فمهمة النقد الذاتي تمهد لتفكيك علاقات المنظومة الفكرية وتحليلها باستمرار بما يخدم البحث عن الطريقة الأمثل، بينما وظيفة الآيديولوجيا على الضد، فهي لا تنظر إلى المنظومة ذاتها وما تحتله من موقع علمي، بل ينصب نظرها أولاً وأخيراً على الأغراض المصلحية الخاصة التي يتم بها توظيف تلك المعرفة لخدمتها فحسب.

على ذلك فإن حضور الآيديولوجيا ومن ثم تغييب النقد الذاتي قد ساهم في جعل المذاهب عاجزة عن إدراك حقيقة ما تحمله من قيمة معرفية، فضلاً عن إدراك الواقع المعرفي لغرمائها من المذاهب الأخرى. وهذا ما جعل الصراع يتحول إلى أشبه ما يكون بـ «حوار الصم».

إذاً إن إفتراض التطابق بين مفهوم النص والنص ذاته؛ قد وجد له مبرراته وسط مزاعم الوضوح والقطع التي تأسس عليها بنيان تراثنا المعرفي دون إحساس بالصدمات المعرفية. وساعد على ذلك تحكم العامل الآيديولوجي في الكثير من المسارات الفكرية، مما أفضى إلى ضعف حضور النقد الذاتي.

والحقيقة هي أن هناك فاصلاً بين مفهوم النص والنص ذاته، أو بين النص كـ «شيء لذاتنا» وكـ «شيء في ذاته» مما لم يرد حوله تمييز، فقد لا يتفق ما «لذاتنا» مع ما «في ذاته»، وهو ما يؤكد الطابع الإجتهادي للإنساق التي اهتمت بالنص كموضوع للبحث. وعليه فلو أن المنظّرين القدماء تورطوا بهزّة من الصدمات المعرفية وتحسسوا ببأسها، كإحساس عام، لتحولت ممارساتهم المعرفية إلى إتجاه غير ما عرفناه عنهم اليوم. فالإحساس بالصدمة يفضي إلى المبادرة بالنقد الذاتي، نزولاً بخلخلة المفاهيم الراسبة، كنوع من أنواع «التخلية»، ثم صعوداً بتأصيل وجود الفاصلة ونفي التطابق بين الشيئين «لذاتنا» و«في ذاته» من النص. فهذا النوع من «التحلية» بعد «التخلية» ـ كما يقول العرفاء ـ هو أول وأهم خطوة بإتجاه «علم الطريقة» والإنفتاح على جميع الإنساق والمنظومات الإبستيمية المساهمة بعملية فهم النص أو الخطاب.

لكن ذلك لم يحدث!..

فحيث أن العقليين في علم الكلام أقاموا بنياناً من البناء العقلي المتعالي (الترانسدنتالي)، فقد ضربوا على أنفسهم سوراً غير ذي باب، أو داروا في دائرة مغلقة ليس لها منفذ، سيما وأنهم كانوا منشغلين بالصراع المعرفي الآيديولوجي، مما أدى إلى تحجيم دور العقل وحرمانه من فرصة الإحساس بالصدمات المعرفية التي تكشف عن قصوره وتناقضاته. فلم يحدث هذا الإحساس إلا بعد فترة طويلة من الممارسة المعرفية، بدأت بالغزالي ثم تكررت بشكل آخر مع فخر الدين الرازي. لكنها مع ذلك لم تفعل شيئاً، فهي عند الغزالي مشكلة لتجربة ذاتية إستطاع خلالها أن يفرّ من حبس العقل الكلامي «المعياري» إلى حبس من نوع آخر ظن أنه طريق النجاة من الأزمة المعرفية. أما مع الفخر الرازي فقد تمكنت منه الصدمة المعرفية دون أن يجد طريقاً لإفراغها والسيطرة عليها، فأصبح حاله كمن أثار الغبار ثم شكا من عدم الرؤية!

ومع أن هناك من وقع بمثل هذا الحال من التشكيك والحيرة، لكن ذلك لم يؤثر في الأمر شيئاً.

هكذا فالعقليون باستثناء القليل منهم لم يعانوا من الصدمات المعرفية، فلم يتحسسوا بهزة، لا مع النص ولا مع الواقع ولا حتى مع العقل ذاته، بالرغم مما حفل به الأخير من تناقضات جعلت من قضاياه المركزية موضعاً للخلاف بينهم. فقد كانت الإعتبارات العقلية بعضها يشهد على البعض الآخر بالتناقض والتهافت، مما جعل دلالة الفكر الكلامي لا تخرج عن المحتوى والمذهبية من غير أصول مشتركة في الغالب. فالأصول التي شغلت الفرق الكلامية وجعلتها دوائر مغلقة ومستقلة عن بعضها البعض هي ما اطلق عليها أصول الديانة. فالمعتزلة لا يهمهم سوى تثبيت الإعتراف بأصول الديانة الخمسة (التوحيد، العدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، لذلك ورد عن بعض أصحاب هذه الجماعة الإعتقاد بأنه لا يحق لأحدٍ الإنتماء إليهم ما لم يقر بهذه الأصول[16]. وكذا فعل الأشاعرة وغيرهم من الفرق الأخرى الشيء نفسه. وبالتالي فقد نصب المتكلمون لأنفسهم سدوداً ومفاصل عقلية جعلتهم بعيدين عن النظر إلى الروح المعرفية لـ (علم الطريقة)، بل أفضى بهم الحال إلى السقوط في مستنقع التناقض والتهافت لغياب المشترك العقلي من الأصول التي نسجوها على أنفسهم، كالشرانق مثلما تفعل اليرقات!

نعم لا ينكر وجود بعض المبادرات الخلاقة في ثنايا الفكر العقلي الكلامي، لما لها من علاقة منهجية صميمة بعلم الطريقة. فالعديد من الكلاميين، كالمعتزلة والزيدية والإمامية الإثني عشرية، دعوا إلى النظر العقلي للوصول إلى الحقائق الأساسية من الدين، حتى أنهم جعلوا منه واجباً أساسياً من واجبات التكليف، بل أغلبهم وضعه أول الواجبات قاطبة، بل وتناولوه كمقدمة أساسية في أوائل كتبهم الكلامية، كما أن بعضهم قدّم عليه وجوب الشك؛ للنظر في المذاهب التي تدعي لنفسها «الحقيقة»[17]. فوظيفة النظر والشك لدى الكلاميين تهدف للوصول إلى الحقيقة وإحقاق الحق. فبالرغم من أن هذه الخطوة قد جاءت ضمن السياق المعرفي اللاهوتي، إلا أن من الممكن الاستفادة منها على الصعيد المنهجي الخاص بعلم الطريقة، وذلك بعد افراغها من مداليلها اللاهوتية، سيما وأن أغلب علماء الكلام يعتبرون المكلف لو أبدى نظره وشكه، ومن ثم توصل بمحض عقله إلى اختيار مذهب ما رآه صحيحاً، فإنه مع ذلك سوف لا ينجو من تبعات الحكم اللاهوتي الخاص بالتكفير والتضليل، فهو بنظر المخالفين يحمل وزر اختياره، ويشتد عليه الحال لو اختار مذهباً يخالف ما عليه البيئة العقائدية التي نشأ فيها وعمل على تقليدها.

مع أن هناك ثغرات لهذا التفكير المعياري، أهمها هو أن ما ذكر من الواجبات التكليفية المتعلقة بأصول الدين، وما قبلها من الواجبات الأخرى، كوجوب النظر، لا تتناسب مع بداية السن الشرعي للتكليف، كما يشهد على ذلك الواقع. فهناك مفارقة كبيرة بين تلك البداية وكمال الرشد العقلي[18]، ناهيك عن أن هذه الموضوعات تحتاج إلى نوع من التخصص لا تتاح لأي كان من الناس. وقد إلتفت الشيخ مرتضى الأنصاري من الأصوليين المتأخرين إلى هذه الناحية، وقال: «مع أن الإنصاف: أن النظر والاستدلال بالبراهين العقلية للشخص المتفطّن لوجوب النظر في الأصول لا يفيد بنفسه الجزم، لكثرة الشُّبَهِ الحادثة في النفس والمدوّنة في الكتب، حتى أنهم ذكروا شُبَهاً يصعب الجوابُ عنها للمحققين الصارفين لأعمارهم في فنّ الكلام، فكيف حالُ المشتغل به مقداراً من الزمان لأجل تصحيح عقائده، ليشتغل بعد ذلك بأمور معاشه ومعاده؛ خصوصاً، والشيطان يغتنمُ الفرصةَ لالقاء الشبهات والتشكيك في البديهيات، وقد شاهدنا جماعةً قد صرفوا أعمارهم ولم يحصِّلوا منها شيئاً إلا القليل»[19].

ومن وجهة نظر منهجية طبقاً لـ (علم الطريقة) يمكن إعتبار الدعوة إلى النظر والشك (المنهجي) خطوة أولى للتحقق من التأسيسات القبلية وفهم الخطاب، كنهج إبستيمي دون تبعات لاهوتية وتقييمات معيارية، والتي أقل ما توصف بأنها متناقضة، فلا معنى لمطالبة المكلّف بالنظر والشك ثم تقييد اختياره بنتيجة محددة سلفاً، وكأننا أمام حقيقة رياضية لا تقبل الإختلاف والإعتراض، أو لنقل أننا أمام قضية (تحصيل حاصل)!

***

كان ذلك مع العقليين الكلاميين، أما مع النقليين البيانيين فإن احتماءهم بالنص، أو بفهم السلف ككاشف عنه، جعلهم في منأى عن التعرض أو الإحساس بالصدمات المعرفية ومن ثم ممارسة النقد الذاتي، تبعاً لقداسة المصدر الذي عولوا عليه، ولكون سائر المصادر المعرفية الأخرى ـ كالعقل والواقع ـ ليس لها إعتبار في قبال النص.

أما الفلاسفة فقد تعالَوا بممارساتهم المعرفية عن الواقع والنص، طبقاً للتحديدات الأولية النابعة عن الموروث القديم لعلوم الأوائل، لذا فلم يعانوا من صدمة تتعلق بهذا أو بذاك، بل اعتبروا الرصيف الذي يقفون عليه رصيفاً ثابتاً لا يقبل الإنحراف، واعتمدوا على ما وسموه بالبراهين المنطقية أو الفلسفية كأساس بنوا عليه سائر المعارف الخاصة بالواقع والنص. والحال عند أهل التصوف والإشراق سيان، إذ هم أيضاً عدّوا الأشياء واضحة وبيّنة طبقاً لعمليات الكشف والعرفان بما لا يدع مجالاً للوقوع أو الإحساس بالصدمات المعرفية، سواء مع العقل أو النص أو الكشف ذاته.

هكذا فمسالك التراث الفكرية لم تشعر بالصدمات المعرفية، وبالتالي لم يتح لها ممارسة النقد الذاتي بشكل شامل وكلي، باستثناء بعض الموارد الجزئية من النقد؛ للظروف التي مرّت بها بعض الإتجاهات، كالإتجاه الشيعي، سواء في بداياته التنظيرية الأولى، أو في مراحله المتأخرة.

ففي البدايات الأولى نجد الشريف المرتضى (المتوفى سنة 436هـ) يشن حملة نقدية واسعة على الروايات الشيعية وأصحابها، كردٍّ على الإتجاه النقلي الذي ساد آنذاك[20]. فهذا من جانب يعبّر عن كونه نقداً ذاتياً، بإعتبار أن صاحبه ينتمي إلى نفس الدائرة الشيعية التي عرّض رواياتها وأصحابها للنقد، لكنه من جانب ثانٍ يعبّر عن نقد من إتجاه ضد إتجاه آخر. وحصل شبيه بهذا الحال مع بعض المتأخرين، إذ أفضت عملية الصراع الأصولي الإخباري إلى نزع الهالة عن قدسية رجال الحديث ومنهم أصحاب أئمة أهل البيت، إلى الحد الذي اعترف بعضهم كوحيد الدين البهبهاني (المتوفى سنة 1208هـ) بعدم وجود ما يقطع بوثاقة هؤلاء الأصحاب[21]. يضاف إلى ما شهده أصول الفقه في مراحله المتأخرة من جهد علمي ونقدي قلّ نظيره، إذ تعلق النقد هذه المرة بالقيمة المعرفية لمصادر وطرق تحصيل الأحكام الشرعية، سيما ما يتعلق بالمناقشات التي دارت حول «دليل الانسداد»[22]، وكذا تأسيس الأصول العملية[23].

مع هذا فقد بقيت المذاهب الأساسية منغلقة على نفسها، للتصور بأن كلاً منها يحمل الحقيقة والوضوح، فأفضى بها الأمر للإنشغال بالنزاع والصراع دون إهتمام بممارسة النقد الذاتي، مما ساهم في عجزها عن الإنفتاح ودراسة قضاياها طبقاً لأدوات المعرفة وأواصرها، فهي لم تتجشم عناء البحث عن الأسس والمبررات المعرفية المتداخلة بين المذاهب والعلوم طبقاً لطرائق التفكير العامة وما يترتب عنها من نتائج مفصلية منتزعة بطريقة التوليد الهندسي أو النظامي (الأكسيومي)، والذي يتضمن وجود بعض الإفتراضات التي تتأسس عليها جملة من النتائج المستنبطة.

فحتى أولئك الذين كانوا على قرب من طبيعة هذا البحث الإبستيمي، لم يتهيأ لهم تأسيس دراساتهم بطريقة تُعنى أساساً بالبحث الهندسي (الأكسيومي) في رد الفروع والأجزاء إلى أصولها وكلياتها، كما هو الحال مع الغزالي وإبن رشد.

فقد صنف الغزالي الإتجاهات التي ادعت أنها على الحق تصنيفاً رباعياً، وهي بالتحديد كل من مذهب الفلاسفة والمتصوفة والباطنية وأهل الكلام. ولو درسنا هذا التصنيف دراسة «طريقية» لوجدنا أن فيه اغفالاً لبعض الإتجاهات والعلوم. فهو تقسيم لم يأخذ بعين الإعتبار إلا تلك المذاهب التي تتنازع حول العقائد، وهو حتى في هذا النحو من الإعتبار يخلو من بعض الإتجاهات العقائدية، كمذهب السلف والحشوية. يضاف إلى أن أساس التصنيف مدفوع بالهاجس اللاهوتي، فهو يعبّر عن حاجة ذاتية طرأت على نفس الغزالي. وبالتحديد فإن ما مرّ به من شك نفسي عارم دفعه لتحديد الإتجاهات بالحصر الآنف الذكر حول طلب الحق وأنه لا مطمع فيه بغيرها[24]. وهو دافع لاهوتي عبّر عنه الغزالي بعبارة (المنقذ من الضلال) كوسام لكتابه الذي ضمّنه البحث عن نجاة تنقذه من الضلال وسط الإتجاهات الأربعة السابقة، دون أن يهمه البحث المنهجي الإبستيمي (المعرفي العلمي).

لذلك فالغزالي لم يدرس تلك الإتجاهات التي صنفها دراسة هندسية (أكسيمية) قائمة على رد الفروع للأصل وإعتبار الجزء متضمناً في «الكل المعرفي» والبحث عن الآصرة التي تربط هذا الكل بأجزائه، بل أن قراءته لا تخلو من الجدل والتحيّز والتهميش. فمثلاً كان يمكن اختزال الكثير من السجالات والمطارحات التي ملأ بها كتابه (تهافت الفلاسفة)، فيما لو بحث الإشكالية الفلسفية طبقاً للبحث الهندسي (الأكسيمي)، إذ يمكن ردّ المقالات المعرفية بعضها للبعض الآخر بحسب ما تحمله من روابط معرفية خاصة.

أما إبن رشد فقد خطى خطوة رائدة بإتجاه البحث المنهجي الإبستيمي كما في كتابه (مناهج الأدلة في عقائد الملة). ففي العنوان من الدلالة على ذلك البحث ما يكفي، لكنه مع هذا لا يخلو من الإعتبارات اللاهوتية والآيديولوجية. فقد قام إبن رشد في هذا الكتاب بفحص «الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها»، متحرياً «في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والإستطاعة». أما الباطن أو المؤول فقد نبّه على أنه من خاصة العلماء، وقصد بهم الفلاسفة بالذات، إذ أشار في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال) إلى تبيان «مطابقة الحكمة للشرع، وأمر الشريعة بها»، وقال: «إن الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، وأن الظاهر منها هو فرض الجمهور، وأن المؤول هو فرض العلماء، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور..» [25].

وقد كان غرض إبن رشد من تناول مشكلة الظاهر من الشرع هو رد «الضربة اللاهوتية» عن الفلاسفة، سيما ضربة الأشاعرة متمثلة بالغزالي كما في كتابه (تهافت الفلاسفة). لذا قسّم الطوائف المدعية بأنها على الشريعة إلى عدد من المذاهب «وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع»، مبيناً تأويلاتها التي فرضتها على الجمهور بما يخل ومقاصد الشارع من حمل الأخير على الظاهر.

يضاف إلى أن إبن رشد لم يتقصَّ كل الطوائف المعرفية، بل تناول المشهورة منها في زمانه، وهي: الأشاعرة والمعتزلة والباطنية والحشوية. فهذا التقسيم يكفي لتحقيق غرضه الآيديولوجي من البحث، سيما ما يتعلق بنقد الأشاعرة، بل أن كتابه (مناهج الأدلة) كان مطروحاً لهذا الغرض بالذات. فهو ممتلئ بمقالات الأشاعرة والرد عليها دون غيرها من الطوائف الأخرى. وقد اقتصر على طرح القضايا الإلهية دون سواها، إذ اشتمل على خمسة فصول أساسية، هي: (البرهنة على وجود الله، والقول في الوحدانية، وفي الصفات، وفي معرفة التنزيه، وفي معرفة أفعال الله).

ومع أن مطارح إبن رشد للأشاعرة وغيرها لم تأخذ بعين الإعتبار تلك العلاقات التي تربط جزئيات المذهب ببعضها حسب الطريقة الهندسية للنسق الأكسيومي، إلا أن ما قدّمه من نقد للأدلة المنطقية التي مارسها الكلاميون لإثبات بعض القضايا الميتافيزيقية، كقضية وجود الله وتوحيده، كان من الأهمية بمكان وفقاً للبحث المنهجي الإبستيمي (المعرفي العلمي). فهي خطوة هامة على صعيد علم الطريقة، وإن كانت في حد ذاتها غير كافية، وذلك لأن من الصعب على الدراسات الإنسانية وعلى رأسها تلك التي تتمتع بشيء من الحساسية، كالدراسات الدينية، أن تتجرد عن الميول الذاتية والآيديولوجية لدى تأسيسها للدليل المنطقي لإثبات قضاياها الخاصة. فغالباً ما يكون الدليل منحازاً وموجهاً بفعل مسلمات أولية تعمل على توجيهه بالطريقة التي يخدم فيها تجاهها العام، فيصبح «الدليل المنطقي» كالعملة النقدية يمكن إظهار أي وجه منها كما نشاء. وينطبق هذا الحال على الإتجاه الفلسفي الذي ينتمي إليه إبن رشد. وهو يختلف كثيراً عما يجري في العلوم الطبيعة التي تستعين بآلية الجدل بين الفرض والإستقراء.

هكذا فقراءة الغزالي وإبن رشد للمذاهب الإسلامية بقيت حبيسة التفكير اللاهوتي والآيديولوجي، وأن التقسيم الذي اتبعته هاتان القراءتان لم يكن «طريقياً» بالمعنى الإبستيمي (المعرفي العلمي).

علم الطريقة والكلام

ليس بين العلوم الإسلامية علم كان بإمكان مادته أن تكون مصدر إلهام لعلم الطريقة كعلم الكلام. فهو يحمل مواصفات خاصة قد تجعل من مادته أرضاً خصبة للبحث الطريقي بما لا يجمعها سواه، كما يتضح من خلال النقاط التالية:

1ـ يتصف هذا العلم بالطابع المعياري. إذ تنبعث هذه الصفة من مركز الدائرة التي يدور حولها البحث الكلامي. وهو بهذا أقرب للتعبير عن الخطاب الديني. فمن حيث هويته الذاتية يبحث هذا العلم عن مبادئ التكليف التي تبشر بها الأديان، والتي لا تزيد على أربعة: المكلِّف (التوحيد)، والمكلَّف (العبودية)، والواسطة أو الصلة بينهما (الرسالة)، ومن ثم ثمرة التكليف (الحساب). وهو يبحث في هذه المبادئ لا كقضايا وجودية مستقلة ومجردة عن دائرة التكليف (الإنشائي) المستمدة من الصبغة الدينية. الأمر الذي يميزه عن غيره من العلوم الأخرى المنافسة، كالفلسفة مثلاً.

 

2- كما يتميز هذا العلم بالشمول والكلية، وأنه لا يُعنى بالجزئيات كالذي يمارسه علم الفقه. وهو يبحث أحياناً في الأصول المعرفية التي تسبق عملية فهم النص الديني، سيما وأنه معني بتأسيس الأخير من حيث علاقته بتلك الأصول، أي أنه مهتم بالقبليات المعرفية ولو ضمن نطاق ضيق، كالبحث الذي يقيمه حول مناهج العقائد، وكل ذلك يجعل من مادته تقترب من مادة علم الطريقة. ففي الدائرة الإسلامية أن قياس الكلام إلى غيره من العلوم الإسلامية هو قياس الكلي إلى الجزئي، وعلى حد قول الإمام الغزالي: إن «العلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية، لأن المفسّر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة، والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلّفين خاصة، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة، والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود.. ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل.. فيثبت فيه مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول، فيأخذ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحداً خاصاً وهو الكتاب فينظر في تفسيره، ويأخذ المحدّث واحداً خاصاً وهو السنة فينظر في طرق ثبوتها، والفقيه يأخذ واحداً خاصاً وهو فعل المكلف فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والإباحة، ويأخذ الأصولي واحداً خاصاً وهو قول الرسول الذي دل المتكلم على صدقه فينظر في وجه دلالته على الأحكام، إما بملفوظه أو بمفهومه أو بمعقول معناه ومستنبطه، ولا يجاوز نظر الأصولي قول الرسول عليه السلام وفعله، فإن الكتاب إنما يسمعه من قوله والإجماع يثبت بقوله والأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، وقول الرسول (ص) إنما يثبت صدقه وكونه حجة في علم الكلام، فإذا الكلام هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها فهي جزئية بالإضافة إلى الكلام، فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة، إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات»[26].

 

3- يُفترض في هذا العلم أن يكون متجرداً عن الإعتبارات اللاهوتية التي أضعفته. فمن حيث طبيعته الذاتية يتميز عن الفقه بكونه لا يحمل مثل هذه الإعتبارات، رغم أن واقعه يشهد عليها. فلولا هذه الإعتبارات لكان مادة خصبة لعلم الطريقة. لكن يظل أن فيه عيوباً كثيرة تحول دون إمكان التعويل عليه كعلم متحقق.

وهنا نحن نميز بين العلم كموضوع متحقق، وكموضوع في ذاته. ونقصد بالأخير أنه علم بغض النظر عن تحققه فعلاً، فسواء تحقق أم لم يتحقق، وسواء كان علماً أم ما زال ثقافة؛ فإن من الممكن إفتراض موضوعه وتحديده بما يجعله متميزاً ومختلفاً عن غيره. أما العلم المتحقق فله خصائص وصفات موضوعية محددة تضاف إلى هويته الذاتية المفترضة بحسب الإعتبار الأول.

إذاً علينا أن نعرف الفارق بين هذين العلمين للكلام، فما هي الصفات التي تجعل من الكلام علماً ذا هوية ذاتية؟ وما هي تلك التي تجعل منه علماً ذا هوية متحققة، أو صفات فيها عوارض خصوصية طارئة، قد نصفها بأوصاف مثل القِدم والجدة والإسلامية والمسيحية والأشعرية والإعتزالية، وكذا العلمية التخصصية والثقافية وما إلى ذلك من أوصاف وصفات، مما يبرر إجراء المقارنة بين مثل هذه الخصوصيات المختلفة للموضوع المشترك الواحد، أي حينما يكون لدينا أكثر من كلام متحقق.

وعليه لا بد من أن نحدد سلفاً ما يُقصد بالكلام، وذلك من حيث الهوية والوظيفة الذاتية، أي كموضوع مفترض في ذاته. فما هو علم الكلام؟ ونحن هنا قيدنا الكلام في السؤال بلفظة (علم) تسامحاً، إذ غرضنا هو التعرف على الكلام كهوية ذاتية مفترضة بغض النظر عن الإعتبارات الأخرى. والتقييد بالعلم إنما نريد به العلم العام سواء كان تخصصياً أو ثقافة.

لقد اعتاد المفكرون المسلمون تحديد هذا العلم طبقاً للوظيفة التي انيطت به؛ وهي إثبات قضايا العقيدة الإسلامية والدفاع عنها ضد شبهات الخصوم. وفي بعض هذه التحديدات نجد الوظيفة الكلامية لم تتوقف عند ذلك الشكل العمومي من العقيدة وإنما تجاوزته في التخصيص ضمن بعض الصور المذهبية. فقد أخذ التحديد بُعداً مذهبياً خالصاً وهو الدفاع عن المذهب والرد على خصومه ممن وصفوا بالمبتدعة. الأمر الذي ألبسه طابعاً آيديولوجياً أبعده عن هويته الحقيقية، مما جعله مساغاً سهلاً للطعن والإعتراض. فالغزالي يرى أن هذا العلم مناط بالكشف «عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله»[27].

ومثلما أخطأ التحديد السابق في تقديم تصور حقيقي لنشأة علم الكلام؛ فكذلك أنه لم يقدّم تحديداً دقيقاً لتعريف هذا العلم وهدفه، مما أثّر على تصور المتأخرين، ومن ذلك أن إبن خلدون ضمّنه مفهوماً مذهبياً ذا طابع أشعري. فقد اعتبره علماً «يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الإعتقادات عن مذاهب السلف واهل السنة»[28]. فالتعريف كما هو واضح يتضمن عدم الإعتراف بغير الكلام الأشعري وما على شاكلته كممثل وحيد لعلم الكلام. وبالتالي فهو يتجاهل سائر الممارسات الكلامية بما فيها تلك التي سبقت الأشاعرة بمدة طويلة، كالمعتزلة وغيرها. كذلك فهذا التعريف الممذهب لا يتقبل الإعتراف بحقيقة ما ينطوي عليه علم الكلام من خصوصية (الإجتهاد) كسائر العلوم الإنسانية المتضمنة لإختلاف الآراء. فضلاً عن أنه لا يسمح لهذا العلم من أن يمارس وظيفته في التحقيق والإبداع العلمي المستقل.

من جهتنا يمكننا تحديد علم الكلام كهوية تجعله يختلف عن غيره من العلوم والمعارف، وذلك في ما لو أخذنا بنظر الإعتبار هويته الذاتية المفترضة كموضوع قائم في ذاته بغض النظر عما يلحق به من عوارض طارئة.

إن هوية كل علم تستمد من أمرين متلازمين هما الموضوع والوظيفة، شرط أن تكون الأخيرة مقيدة بالبحث والكشف المعرفي دون الوقوع في المصادرة على المطلوب. فالفيزياء مثلاً هو علم موضوعه الظواهر الطبيعية ووظيفته تفسير هذه الظواهر، لذا فتحديده كهوية يأتي من حيث إعتباره علماً لتفسير الظواهر الطبيعية. فهو بهذا الشكل من الإفتراض يعد موضوعاً قائماً في ذاته، أما ما يلحق به من خصائص أخرى، مثل كيفية تفسير هذه الظواهر ودقتها العلمية والمناهج المتبعة في التفسير وكذا النتائج والنظريات المتخذة في ذلك؛ فكلها أمور لاحقة لا تمثل جوهر ما عليه هذا العلم في ذاته. وبالتالي فهي إن تبدلت فلا يقتضي منها تبدل العلم المفترض. والفقه – كمثال آخر – هو علم موضوعه الأحكام الشرعية، وله وظيفة تتمثل بإستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة. لكن كيفية الإستنباط والمناهج المتبعة فيها وكذا النتائج المترتبة عليها؛ فكل ذلك يعد من الأمور التي لا تتعلق بجوهر موضوع الفقه بما هو في ذاته، وهي بالتالي عرضة للتغير والتبدل دون أن يطرأ تغيرّ على أصل هذا الموضوع. لكن لو تبدل موضوع العلم أو وظيفته فإن ذلك سيبعث على إيجاد علم آخر مفترض غير السابق بما هو في ذاته. ويمكن أن ينتزع من العلم علم آخر أضيق أو أوسع دائرة من الأول، فتكون لكل منهما هويته الذاتية، رغم أن أحدهما يكون متضمناً في الآخر. وكمثال على ذلك الفيزياء النووية بإعتبارها فرعاً لعلم أعم هو الفيزياء العامة.

وعندما نبحث عن الكلام كهوية ذاتية نجد أن له موضوعاً هو العقيدة الدينية، وبالتحديد مبادئ التكليف الأربعة. وكذا أن له وظيفة هي التحقيق في أرجاء هذه المبادئ. وبالتالي فكل علم يبحث في اطار العقيدة الدينية أو مبادئ التكليف فهو من علم الكلام، وإلا كان خارجاً عن هذه الهوية. فمثلاً أن البحث الدائر حول التحقيق في وجود إله لهذا الكون بشكل منفصل ومستقل عما تقوله العقيدة الدينية التي تتضمن الإطار المعياري لنظرية التكليف؛ لا يمكن أن يكون بحثاً كلامياً بالمعنى الذي تحدده تلك الهوية الذاتية من الموضوع الكلامي، إنما يمكن أن يكون بحثاً فلسفياً أو منطقياً أو أي بحث آخر مختلف.

هكذا فتحديدنا لعلم الكلام - كموضوع في ذاته - هو تحديد إبستيمي لا ينطوي على التسليم سلفاً بأي قضية يراد الاستدلال عليها. وبالتالي فهو على خلاف التحديدات المألوفة التي تعرّف هذا العلم بما ينطوي على قضايا مسلم بها سلفاً ويراد الاستدلال عليها في الوقت ذاته، مثل إعتباره علماً يراد منه إثبات العقيدة الدينية والدفاع عنها والرد على خصومها. وهو تحديد يفترض التسليم بالعقيدة سلفاً قبل إقامة الدليل عليها.

نعم لو قلنا أن الإيمان بالعقيدة نابع من مصدر آخر لا يمت إلى الكلام بصلة؛ لكان يمكن مجاراة مثل ذلك التعريف بشرط أن تتوضح الوظيفة المعرفية بما يخرجها عن المصادرة على المطلوب. لكن الإشكال: من أين يأتي الإيمان بالعقيدة ما لم تمارس فيه الأدلة الموضوعية التي هي محل إهتمام ذلك العلم؟!

كما يخلو تحديدنا الآنف الذكر من السمات الآيديولوجية الممذهبة كتلك التي تجعل من وظيفته الرد على المبتدعة. بل ويخلو من صفة مطلق الرد على الخصوم، إذ الرد ليس من الصفات الذاتية للعلم بما هو علم إبستيمي قائم في ذاته، فالعلم بما هو علم وظيفته الذاتية هي الكشف المعرفي لا الرد الذي يفترض التسليم سلفاً بالقضايا التي ينبغي أن تكون ضمن دائرة البحث والتحقيق الكلامي.

وعليه فالتعريف الذي وضعناه يجعل من التفكير الكلامي بما هو موضوع في ذاته ليس فقط محل ممارسة أولئك المدافعين عن العقيدة الكلامية، بل كذلك محل ممارسة أولئك الذين يتصفون بالخصوم. فالمدافع والخصم ينطبق عليهما التفكير الكلامي حينما يتعلق الغرض بدراسة مبادئ التكليف أو ما يلف حولها من قضايا. فضلاً عن أنه شامل لكل كلام ديني، كالكلام الإسلامي والمسيحي واليهودي.. ولكل كلام مذهبي، كالكلام الأشعري والإعتزالي والإمامي والكاثوليكي والبروتستانتي… الخ.

وتصحيحاً للموقف نعتبر التعريف التقليدي للكلام المتضمن لإثبات العقيدة والرد على خصومها؛ ليس تعريفاً للكلام بما في ذاته، وإنما هو تعريف للكلام الديني المتحقق والمخصوص، كالكلام الإسلامي مثلاً. وحينما يوضع قيد آخر في التعريف؛ فإنه لا يحتفظ بالكلام الديني الشامل كالكلام الإسلامي، بل يكون علم كلام مذهبي. وبالتالي فإن القيود الموضوعة في التعريف تعمل على تضييق هوية الكلام، وكلما زادت هذه القيود كلما زاد التضييق في الدائرة التي يعمل بها هذا العلم.

ومع كل هذا فإن من المفارقة والتناقض أن يحتفظ التعريف بقيود تلك المسلمات دون أن يشار إلى كونها تفريعاً أو نتاجاً لعلم أشمل يتناولها بالبحث والتحقيق، وهو ما يمثل جوهر مهمة علم الكلام بما هو موضوع قائم في ذاته.

الكلام كموضوع متحقق

إذا كنّا قد عرفنا بأن الكلام كموضوع في ذاته هو ذلك الذي يهدف للبحث والتحقيق في قضايا مبادئ التكليف وما يترتب عليها من مقدمات ونتائج؛ فإنه كموضوع متحقق عبارة عن نمط الممارسة العلمية الخاصة حول قضايا تلك المبادئ، وذلك بما تنطوي عليه الممارسة من استخدام مفاهيم إجرائية محددة ومناهج معينة وأصول تتكئ عليها ومواقف معرفية ترتضيها ومصادر علمية توظفها لأغراضها، وقد يترتب على ذلك أيضاً إجراء بعض الأنماط من التعامل مع نص الخطاب الديني وما إلى ذلك من ممارسات علمية ومعرفية. فما يظهر من طبيعة هذه الممارسات العلمية هو ما يحدد فعلاً هوية الكلام المتحقق، وهي هوية اضافية لا تعود في صميمها إلى موضوع الكلام كما هو في ذاته. لهذا كان من الممكن أن ينشأ عدد من الهويات الفعلية التي يعبّر كل منها بطريقته الخاصة عن الكلام المتحقق، وأن تتنافس هذه الهويات وتتناقض، أو يتجدد بعضها أو يندثر ويموت، كل ذلك بغض النظر عن الكلام المفترض كما هو في ذاته. ومنه يظهر لدينا ما يطلق عليه الكلام الإسلامي والمسيحي واليهودي، كما يظهر لدينا ضمن الدائرة الإسلامية مثلاً كل من الكلام الإعتزالي والأشعري والإمامي والسلفي، وكذا يظهر ما يطلق عليه التقليدي والجديد[29].

وعموماً أن من المتعذر على أي علم من العلوم التحقق فعلاً من غير الممارسة الإجتهادية. فالإجتهاد متضمن في آلية التحقق ذاتها. وهو المبرر الموضوعي للتعددية التحققية، سواء أطلقنا على ذلك عبارة (نظريات)؛ كالذي يجري في العلوم الطبيعية والإجتماعية، أو قلنا أنها (مذاهب)؛ كمذاهب الفلسفة وعلم النفس وما إليها، أو غير ذلك من التسميات التي لا تغير من حقيقتها الجوهرية وهي أنها تعددية إجتهادية تتضمنها ذات الآلية التحققية. بمعنى أنه لا يمكن صون هذه الآلية عن الإجتهاد والتعدد إطلاقاً.

وحيث أن حديثنا عن الكلام الإسلامي فلنعلم أنه رغم وجود الإتفاق على قبول مبادئ التكليف؛ إلا أن الممارسة الإجتهادية التي تتضمنها آلية التحقق جعلت فهم هذه القضايا مثاراً للتعددية والإختلاف. فقد اختلف الكلاميون حول طبيعة (المكلِّف) من حيث ذاته وصفاته ونمط إرتباطه وعلاقته بخلقه وعباده. كما اختلفوا حول طبيعة (المكلَّف) من حيث قدرته وإرادته ونمط التكليف الذي يخصه إن كان شرعياً محضاً أو يضاف إليه التكليف العقلي. واختلفوا أيضاً حول (رسالة التكليف) في عدد من القضايا كالدليل عليها وصفاتها ووجوبها وما قد يترتب عليها من أمور كالامامة. وكذا انسحب الإختلاف إلى الموقف من المضامين البيانية للرسالة، وتعددت وجهات النظر حول التقنين الخاص في العلاقة بين العقل والنص، إذ هناك من عمل على رفض الممارسة العقلية في علاقتها مع النص، وهناك من اعتبر العقل في خدمة البيان، كما هناك من فعل العكس بجعل العقل قيماً على الظاهر البياني ولو أفضى الأمر إلى تأويله وإعتباره من المتشابه لا البيان. وأخيراً أنهم اختلفوا حول (ثمرة التكليف)؛ كإختلافهم المتعلق بمسائل الإحباط والوفاء والارجاء والوعيد وغيرها الكثير الكثير.

إن الرباط الذي شدّ الكلام الإسلامي التقليدي بنظرية التكليف هو رباط يمكن التعبير عنه على مستويين، أحدهما له علاقة بتحديد التكليف بما هو (موضوع في ذاته)، والآخر له علاقة بتحديد هذا التكليف بما هو (موضوع لأجله)، رغم وجود بعض المفارقات والمصادرات التي لاحت هذا الأمر.

فقد ظهر لعلم الكلام خصائص وصفات على الصعيد المعرفي بعضها كان كفيلاً بأن يفضي به إلى الوقوع في الشلل المزمن من غير قدرة على النهوض.

والنقطة التي أردنا تبيانها - هنا - هي أن علم الكلام ليس بالعلم الذي يمكن الإستفادة منه في القضايا المتعلقة بعلم الطريقة. فأقل ما نقول فيه هو أنه علم لاهوتي وليس علماً إبستيمياً.

علم الطريقة وأصول الفقه 

أرى أن أهم العلوم الإسلامية التي لها علاقة ببحث علم الطريقة هو ذلك المسمى بـ «أصول الفقه». فمن جهة أن هذا العلم مكرس بدرجة رئيسة لتأسيس آليات فهم النص، ومن بعده الإنتاج المعرفي المعبّر عنه بالرأي أو الإجتهاد أو العقل وما شاكل ذلك، والذي يستند بدوره ـ في الغالب ـ إلى ما تفضي إليه العملية الأولى[30].

أما من جهة أخرى فهو أن هذا العلم يقر بعملية الإجتهاد المفضية إلى الظن، وبالتالي فإنه يعد «الشيء في ذاته» لا يطابق بالضرورة «الشيء لذاتنا» من الخطاب، بخلاف الحال مع علم الكلام وغيره من العلوم الكبرى التي تقوم على إنكار الإجتهاد المؤدي إلى الظن وعدم التطابق مع الخطاب. وهذا ما جعل المذاهب المعيارية تفرق بين المخطئ في العقائد وأصول الدين وبين المخطئ في الفقه والفروع. فبنظرها أن المخطئ في الأصول يعد كافراً أو ضالاً في أحسن الأحوال، بينما المخطئ في الفقه والفروع لا شيء عليه، بل له أجر ما بذله من جهد الإجتهاد والسعي فيه[31]. الأمر الذي جعل السلف يبعدون أنفسهم عن الجدل في القضايا الأولى خلافاً لقضايا الفقه والفروع، كما سنعرف[32].

على أن لعامل الزمن دوره الهام في ترسيخ وتعميق التفاوت بين الشيئين «في ذاته» و«لذاتنا» من الخطاب، وذلك بفعل التطورات التي لاحت مفهوم الإجتهاد الفقهي. ففي البداية كان الإجتهاد يعني القياس أو ما يقابله من الممارسات الإجتهادية الأخرى االمجعولة لإستنباط أحكام القضايا غير المنصوص فيها، كالإستحسان والمصالح المرسلة وما على شاكلتها، ولم يكن مفهومه دالاً على بذل الجهد لإستنباط الأحكام من النص وفي النص ذاته، كما هو واضح لدى المذاهب الفقهية الأربعة، فهو يعد مصدراً من مصادر التشريع، وبالتالي فهو يقع في نفس القائمة التي تضم المصادر الأساسية للإستنباط، كالكتاب والسنة والإجماع. مما يعني أن آلية إستنباط الأحكام من هذه المصادر الثلاثة لم تُفهم بأنها إجتهاد. فالإجتهاد لم يصح إلا مع عدم وجدان الحكم الشرعي من المصادر الآنفة الذكر.

فمن الناحية المبدئية أن الدلالة التي تمنحها المصادر الثلاثة هي القطع والبيان أو ما يردّ إلى ذلك من ظنون مؤسسة على البيان ذاته، كحجية الظهور وخبر الواحد، بينما لا يفيد الإجتهاد إلا الظن والرأي. وعليه كان العمل به من موقع الإضطرار طالما ليس هناك حكم للنص أو الإجماع على الواقعة. فالإجتهاد إنما يباح للمضطر كما تباح الميتة والدم عند الضرورة.

فأول صورة منظّرة وصلتنا عن مبدأ الإجتهاد الفقهي هي تلك التي رسمها مؤسس علم الأصول الشافعي (المتوفى سنة 204هـ). فهو يرادف بين الإجتهاد والقياس؛ في الوقت الذي لا يجد لهذا الإجتهاد، أو القياس منه بالذات، أساساً منصوصاً عليه من قبل الشرع مباشرة. فهو وإن استدل على الإجتهاد من خلال نص الحديث، لكن ذلك كان بصدد القضاء، لا بمعناه المصطلح عليه، ولا بمعنى القياس الذي حاول الشافعي أن يستدل عليه بالقرآن بصورة غير مباشرة.

لهذا فقد كثر الجدل حول مسند القياس وغيره من موارد الإجتهاد الأخرى. وموقف الشافعي بهذا الخصوص ربما لا يختلف عما ينسب إلى مواقف المذاهب الثلاثة الأخرى (الحنفي والمالكي والحنبلي)، سيما أن القائمة التي تضم مبدأ الإجتهاد هي نفسها التي يُذكر فيها النص كمصدر للتشريع. فحينما يعدد أتباع المذاهب الأربعة مصادر التشريع يضعون أنواع الإجتهاد مع أنواع النص وملحقاته جنباً إلى جنب، رغم أنهم يميزون بينهما من حيث الرتبة والدرجة. فالقرافي المالكي – ومن بعده الطوفي الحنبلي - يُحصي الأدلة بين العلماء عموماً ويجدها تسعة عشر دليلاً، كما أنه يحصي أصول مذهب مالك ويوصلها إلى أثني عشر دليلاً. كما أن الشاطبي حاول أن يرد أدلة المذهب المالكي إلى أربعة. وجميع هذه الأدلة ما هي إلا جمع بين النص والإجتهاد، إذ يتمثل النص بالكتاب والسنة والإجماع الكاشف عنهما، وما عدا ذلك يعود إلى صور الإجتهاد. وكل ذلك يتسق مع الفهم الخاص للإجتهاد من كونه ليس مستلهماً من النص مباشرة، ولا أنه موضوع حول فهمه بالذات، بل بالعرض. فهذا هو حال ما كان عليه العصر الذي ضمّ أئمة المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها.

لكن مع مرور الزمن أخذ مفهوم الإجتهاد يتسع ويتغير، فقد كسب هذا المفهوم معنى شمل فيه حالة الإجتهاد في النص، ولم يبقَ حبيساً وموقوفاً على ما لا نص فيه كما عهدناه في السابق. كما ظهرت محاولات واسعة للإستدلال بالنص على قضايا الإجتهاد، سيما القياس منه. ومن ذلك شاع الإستدلال على جواز العمل بالإجتهاد بدعوى الإجماع وذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتضمن عدم الممانعة من العمل به حين عدم توفر النص، كالاستدلال بحديث معاذ بن جبل. ويبدو أن الشافعي لم يعوّل على هذا الحديث بإعتباره مرسلاً، فكما نصّ الآمدي أن المرسل عند الشافعي ليس بحجة، ومعلوم أن الشافعي لا يأخذ بالمرسل إلا بشروط. لكنه مع هذا استدل على الإجتهاد برواية أخرى تتعلق بالقضاء[33]. مع هذا فالعلماء الذين جاءوا بعد الشافعي لم يكتفوا بالقدر الضيق الذي اعتمده الشافعي في الاستدلال على الإجتهاد، بل وسّعوا من هذه الدائرة؛ فاستدلوا عليه بمختلف الأدلة، سواء من حيث النصوص القرآنية، أو الأحاديث الكثيرة، أو دعوى الإجماع، أو سيرة الصحابة واقوال الخلفاء الراشدين، مثلما يُنقل عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.

أما من حيث إتساع مفهوم الإجتهاد، فقد ذكر العلماء المتأخرون أن الإجتهاد ينطبق على قضايا النص ولا يقتصر على الوقائع غير المنصوص فيها. فشتان بين المفهوم القديم للإجتهاد كما حدده الشافعي وبين ما استحدثه الأتباع فيما بعد. إذ كان التحديد الأول ينحصر ضمن (الإنتاج المعرفي) الخاص بالإجتهاد فيما لا نص فيه، بينما شمل التحديد الأخير مجال «فهم النص» ووضع تفاوتاً بيّناً بين الفهم والشريعة. فهذه هي أُولى بوادر الخلخلة التي مسّت علاقة التطابق بين الفهم والخطاب.

أما في الدائرة الشيعية فالمقرر مبدئياً هو أن الإجتهاد ليس إنتاجاً للمعرفة كما في القياس والإستحسان والمصالح المرسلة، بل هو فهم للنص طبقاً لشروطه الخارجية والداخلية، أي شروط السند والمتن، إذ وُضع الإجتهاد أساساً لهذه الإعتبارات؛ فكان يعني إفراغ الجهد والوسع لإستنباط الحكم من النصوص، كما تقرر صراحة لدى المحقق الحلي (المتوفى سنة 676هـ أو 726هـ)، مما يعبّر عن إمتداد لما آل إليه النظر السني.

وبالفعل يعترف المرحوم مرتضى مطهري من فقهاء الشيعة بهذا الإمتداد. فقد كسب مفهوم الإجتهاد لدى السنة معنىً جديداً، كما عند الغزالي (المتوفى سنة 505هـ)، وأخذ الإستعمال بمعنى الرأي والقياس يقل ويضعف منذ ذلك الحين ليتجه أكثر إلى المجاهدة العلمية في طلب الأحكام، فحينها وبعد «هذا التحول والإنقلاب بدأت الكلمة تأخذ طريقها إلى فقه الشيعة أيضاً».

لكن مفهوم الإجتهاد في الدائرة الشيعية لا يعطي مدلول الإمتداد لما آل إليه النظر السني فحسب، وإنما هناك جانب الإنفصال عنه في الوقت نفسه. فقد كانت آلية إستنباط الحكم من النص مقررة منذ بداية التنظير لدى الإتجاه الشيعي، بالرغم من وجود تحفظ على لفظة (الإجتهاد)، حيث في تلك الفترة كان هذا الإصطلاح حاملاً للمعنى الذي يتعامل به الإتجاه السني، كمرادف للقياس وما على شاكلته، والذي يخص القضايا غير المنصوص فيها. لهذا كانت عبارات المنظّرين من قدماء الشيعة تفوح برفض الإجتهاد وتحريم العمل به، كما هو الحال عند المفيد والشريف المرتضى والشيخ الطوسي.

مع ذلك فهناك إختلاف فيما تفضي إليه آلية فهم النص في عملية إستنباط الحكم الشرعي. فبعض العلماء يعتقد بأن هذه الآلية تفضي إلى القطع أو العلم، بما يجعل التطابق بين الفهم والنص تامة، كما هو الحال مع رأي الشريف المرتضى وإبن ادريس الحلي وإبن زهرة والمحدث محمد أمين الإسترابادي وأتباعه. بل لا يستبعد القول أن هذا هو مسلك جميع المتقدمين من الإمامية حتى مجيء المحقق الحلي، أو إبن اخته الملقب بالعلامة الحلي، خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، باستثناء البعض كالشيخ الطوسي.

لكن على خلافهم ذهب الإتجاه العام من الشيعة، كما هو الحال مع المتأخرين، إذ تقرر بأن آلية الفهم غالباً ما تفضي إلى الظن بالحكم الشرعي، وبالتالي فهم لا يمانعون من الإقرار بوجود خلخلة واسعة في علاقة التطابق بين الفهم والخطاب الديني.

على أنه إذا ما كانت تلك الخلخلة مقتصرة لدى المحقق الحلي على كل ما هو نظري وغير ظاهر من النص المباشر في الغالب، إلا أن الأمر عند المتأخرين إمتد إلى أكثر من هذا. فهو قد لاح ظاهر النص ولم يتوقف عند حدود الإطارات النظرية للنصوص. وقد تجاوز الأمر عند البعض فأخذ أبعاداً أوسع من ذلك، إلى حد طال فيه حتى ما يتعلق بصريح النص ذاته.

تبقى القضايا غير المنصوص فيها، أو التي يعجز إستنباطها بواسطة فهم الخطاب، وهي ما يتضمنها الإنتاج المعرفي، وقد تعامل معها فقهاء الإمامية بإعتبارات مختلفة. فإذا غضضنا الطرف عن الإتجاه الذي يتوقف دون ابداء رأي فيها، كما هو حال الإخباريين، سواء القدماء منهم أو المتأخرين الذين نظّروا للطريقة الإخبارية، فإن هناك ثلاثة مواقف مختلفة كالتالي:

الأول: وهو الموقف الذي عالج تلك القضايا وفق قاعدة القياس. ويعد أول المواقف الثلاثة من الناحية التاريخية، بل أكثر من هذا يعد أول ممارسة إجتهادية لدى الشيعة، كالذي ظهر لدى إبن الجنيد وإبن أبي عقيل العماني.

الثاني: وهو الموقف الذي اعتبر تلك القضايا عائدة إلى قطعيات العقل، كالذي ظهر لدى المنظرين للفكر الشيعي في عصر الغيبة، وهم المفيد والمرتضى والطوسي، واستمر قروناً طويلة، إذ ساد الإعتقاد بجعل تلك القضايا عائدة إلى أحكام العقل كالبراءة والإستصحاب... الخ. ففي البداية كان المعتقد بأن هذه الأحكام هي أحكام إلهية قطعية، ثم مع مرور الزمن ظهر من يقول بأنها ظنية.

الثالث: أنه بفعل الصراع الأصولي الإخباري، وربما قبل ذلك بفترة، ظهر موقف ثالث، يعتبر تلك القضايا تدخل ضمن المعالجة العملية. وهو الموقف الذي ظهر في عصر وحيد الدين البهبهاني (المتوفى سنة 1206هـ) واستمر حتى يومنا هذا، إذ لم تعد هذه المدركات تمثل أحكاماً عقلية، بل عُدّت مجرد وظائف عملية اطلق عليها (الأصول العملية)، إذ ليس من مهامها معرفة الحكم الشرعي وإدراكه على حقيقته، بل تنحصر وظيفتها في تعيين السلوك العملي للمكلف كي تبرأ ذمته من التكليف، أما الحكم الشرعي فيظل معلّقاً ومجهول الحال. وقد سبق للفيض الكاشاني، وهو من الإخباريين، ومن قبله الشيخ حسن زين الدين العاملي، أن اعتبر البراءة وغيرها من الأصول العقلية لا تحدد الحكم الشرعي ولا تكشف عنه بقطع أو بظن، بل ما يستفاد منها هو تحديد الوظيفة التي يمارسها المكلَّف إتجاه متعلقات الحكم الشرعي حين عدم وجدان الدليل[34].

وبهذا الكشف أصبح الجهد الإجتهادي للشيعة مكرساً بدرجة واسعة نحو بحث هذه الأصول الوظيفية، فتميزت بذلك عن الإتجاه السني لكونه قيّد الجهد بالكشف عن الحكم الشرعي فحسب[35].

وعموماً فقد أخذ مفهوم الإجتهاد يتسع ويتمدد على حساب إفتراض التطابق بين الفهم والخطاب. فكلما إمتد الظرف التاريخي كلما عمل الإجتهاد على توسعة رقعة التفاوت بين الشيئين (في ذاته) و(لذاتنا) من الخطاب. فإذا كان عصر النص يحفل بالتصور القائم على التطابق؛ فإن ما بعد هذا العصر، منذ العمل الفقهي المتواضع عليه سيما بعد عملية التنظير، بدأ التصور الآنف الذكر يهتز ويختل، حيث الإعلان عن تأسيس الإجتهاد ـ المفضي إلى الظن ـ فيما لا نص فيه، وهي أُولى مراحل إهتزاز تلك العلاقة بين الفهم والخطاب، ولو ضمن حدود آلية الإنتاج المعرفي. لكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمع مرور الزمن أخذت ظاهرة الإهتزاز والخلخلة تتسرب إلى فهم الخطاب مباشرة بعد إن كانت مقتصرة على الإنتاج المعرفي.

أما في الدائرة الشيعية فقد ساد الإعتراف بأن ما يفهم من الخطاب الديني في الفقه لا يتجاوز الظن غالباً، إذ أدرك الفقهاء أنهم عاجزون عن تحصيل العلم أو القطع في الموارد الجزئية للفقه باستثناء القليل منها، فاكتفوا بالظن المعتبر، إذ الأصل في الظن هو عدم الحجية إلا ما خرج بدليل قطعي. ويقدّر المفكر الصدر أن الأحكام القطعية لا تتجاوز الخمسة بالمائة من مجموع الأحكام الكلية. كما قد اتسعت دائرة القضايا التي يجهلها الفقهاء في فهمهم للخطاب وتلك التي تدخل ضمن نطاق القضايا التي لا نص فيها، وهذا ما جعل علم الأصول يستغرق البحث - عندهم - فيما أطلقوا عليه (الأصول العملية)، وهي التي لا تعنى بالكشف عن الحكم الشرعي، بل بابراء الذمة فحسب، فكثرت بذلك الفتاوى التي تعمل بالبراءة أو الاحتياط.

كما ظهرت مناقشات إبستيمية هامة جرت حول إفتراض ما يعرف بدليل الإنسداد؛ كالذي ذهب إليه عدد كبير من المتأخرين، وهو لا يقتصر على إنسداد باب العلم بالأحكام، بل يفترض أيضاً إنسداد باب الظن المعتبر شرعاً، وهو المعبّر عنه تارة بالإنسداد العلمي، وأخرى بالظن الخاص، والمقصود به بالدرجة الرئيسية الإنسداد المتعلق بحجية خبر الآحاد، لما أُثير حولها من شكوك ومشاكل معرفية، سيما أن مدار أغلبية موارد الأحكام الفقهية يتوقف على هذا الخبر[36].

وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على المدى الذي آل إليه علم الأصول من الكشف عن حدة إهتزاز علاقة التطابق وخلخلتها، وبالتالي التفاوت بين ما هو (في ذاته) وما هو (لذاتنا) من النص أو الخطاب، مما يتفق مبدئياً مع منطق علم الطريقة.

فشتان بين الفهم الذي شيّده قدماء الفقهاء حول الخطاب وبين الفهم الذي إنتهى إليه المتأخرون. فبينما كان أولئك يبنون فهمهم على الوضوح والبيان وبالتالي التطابق مع الخطاب؛ نجد المتأخرين على العكس يقيمون التباعد بين الفهم والخطاب كلما إمتد بهم الزمان. وإذا كان مآل هؤلاء هو الوقوع في خندق (الإنسداد) والإعتراف بغياب الطريق الموصلة إلى البيان في النص، أو اللجوء إلى الوظيفة العملية بعد اليأس من تحصيل صور البيان؛ فإن الأمر عند القدماء يختلف تماماً، إذ أن قرب عهدهم بعصر النص ومحدودية ما يحتاجون إليه من المسائل نسبياً جعلهم يتصورون أن تحصيل البيان والوضوح حالة مطلقة ثابتة، فادعى علماء الشيعة القدماء طبقاً لهذا «أن من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كل حكم شرعي دليلاً واضحاً مادام الإنسان مكلفاً والشريعة باقية». وهو أمر يتشابه كثيراً مع ما حصل من تطور في علوم الطبيعة، إذ ساد الإعتقاد بالتطابق بين العقل والطبيعة قروناً طويلة، منذ اليونان وبعدها الحضارة الإسلامية، ومن ثم النهضة الحديثة، حتى بدأت أركان هذا الإعتقاد تتزعزع وتنهار شيئاً فشيئاً، منذ عصر التنوير، ومن ثم تفاقم الأمر وإتخذ منحىً علمياً ومنطقياً خلال عصرنا الحالي[37].

أما حديثاً فنجد بعض البوادر لإختراق آخر قلعة من قلاع «البيان» ـ بعد الضرورات الدينية ـ وهي المتمثلة بالنص الصريح أو المقطوع بمعناه، تبعاً للحاجات الزمنية وما فرضه الواقع من متغيرات، كموقف الشيخ محمد عبده من الزواج المتعدد، إذ اعتبره عادة لم تعد مرغوب فيها وأجاز إبطالها لتحول الظروف رغم أنها مشرّعة في القرآن الكريم صراحة، واستثنى من ذلك ما خضع للضرورة وفي حالة ما إذا كانت الزوجة لا تنجب أولاداً[38]. وأكثر من هذا ذهب الدكتور محمد عمارة إلى صحة الإجتهاد حتى مع وجود النص القطعي الدلالة والثبوت مع قيد أن يكون متعلقاً بالمتغيرات الدنيوية، إذ يكون الحكم متوقفاً في مثل هذه الصورة على ما يحققه من مقصد ومصلحة، وليس على صراحة النص وحرفيته[39]. لكن لهذه الإجتهادات سوابق وجذور قديمة تعرضنا لها في كتاب (جدلية الخطاب والواقع)[40].

أما في الوسط الشيعي فكما علمنا أن فقهاء الإمامية حددوا الإجتهاد - في البداية - بحدود الإعتبارات النظرية، وبعدها بسطوا هذا الحكم على ظواهر النصوص، إذ توقفوا عند هذا الحد ومنعوا الإجتهاد في النص كأمر صريح، فميزوا بين صريح النص وظاهره، وقالوا بعدم جواز الإجتهاد في قبال النص. ومع هذا فقد ظهر أخيراً من حاول المساس بالنص عندما وجده لا يفي بمتطلبات العصر الحديث، كالذي أشار إليه الشيخ محمد جواد مغنية وهو بصدد تفسير بعض النصوص التي لا تتسق مع مفرزات هذا العصر. فبخصوص الرهان في السباق يروى عن النبي الحديث القائل: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر»، حيث يدخل في الحافر الخيل والبغال والحمير، وفي الخف الإبل والفيلة، وفي النصل السيف والسهم والحراب. ويذهب الفقهاء إلى جواز السبق بهذه الأنواع الثلاثة دون غيرها على عوض لوجود الحصر في النص[41]. لكن مع ذلك طرح الشيخ مغنية سؤالاً يتعلق بما إذا كان من الجائز السبق على عوض في الأسلحة الحديثة كالرمي بالبندقية والسيارات وغيرها، أو أن موضوع السبق يُلغى من أبواب الفقه لتطور وسائل القتال؟ وبنظره أن غرض هذا النص هو لفائدة التمرن على مباشرة القتال والإستعداد، معتبراً «الرسول الأعظم إنما ذكر هذه الثلاثة، لأنها السلاح المعروف دون غيرها في عصره، وليس هذا إجتهاداً منّا في قبال النص، وإنما هو إجتهاد صحيح ومركز في تفسير النص، يتفق كل الإتفاق مع مقاصد الشريعة السمحة الغراء، تماماً كالإجتهاد في تفسير قول الإمام (ع): (لا زكاة إلا بحديد) من أن المراد بالحديد الآلة الصلبة المحددة: نحاساً كانت أو فضة أو حديداً أو فولاذاً، ولو جمدنا على ظاهر النص لكانت الذبيحة بسكين النحاس أو الفضة ميتة لا يجوز أكلها... وبالإجمال أن الإجتهاد في تفسير النص جائز كتفسير الحديد بالآلة الصلبة... والإجتهاد في قبال النص محرم كتحليل أكل الميتة خنقاً...» [42]. وهو في محل آخر أقام العديد من الإجتهادات المماثلة لهذا النوع، كالإجتهاد في قبال الحديث النبوي: «إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبع أذرع»، أو قول الإمام الصادق: «حد الطريق سبع أذرع»، معتبراً ذلك يتفق مع الحياة البسيطة آنذاك، وهو لا يتفق مع حياتنا المعاصرة. كذلك الحال فيما يتعلق بمقدار الدية، إذ «قال الفقهاء: أن دية الحر المسلم الذكر مئة بعير، أو مئتا حلّة، أو ألف شاة، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم». لكنه تسائل: «هل للفقيه اليوم أن يجتهد ويقول: لقد كان لألف دينار يومذاك من القوة الشرائية ما يكفي عائلة المقتول عشر سنوات ـ مثلاً ـ أما اليوم فليس للألف هذه القوة، وعليه ينبغي أن نجعل المقياس في مقدار الدية القوة الشرائية التي كانت للألف يومذاك، لا للألف بنصه الحرفي، وبكلمة: هل للمجتهد أن يأخذ في مسألة الدية بروح النص، لا بحرفيته، بحيث إذا أدى إجتهاده إلى ذلك يكون إجتهاداً في تفسير النص، لا في قبال النص؟»[43].

ومع كل ما ذكره الشيخ مغنية فإن من الغريب أن يعد ذلك ليس فيه شيء من تغير الأحكام لتغير الأزمان «لأن الإجتهاد في تفسير النص جائز في كل مكان وزمان». مع أن ما فعله لا يعبّر عن فهم للنص ضمن حدوده اللفظية والبيانية، إذ من الواضح أن النصوص التي ذكرها لا يستفاد منها الأحكام الجديدة التي أدخلها، بل أنها تتجاوز صريح الحكم في النص؛ إستناداً إلى ما فرضتها الحاجات الزمنية في واقعنا المعاصر، إلى الحد الذي أصبح من غير الممكن التوفيق بين هذا الواقع وما يفيده النص من حكم صريح. ومع ذلك فالأمر ـ في تلك الأحكام ـ وإن كان لا يستند إلى فهم النص، إلا أنه ليس معزولاً عن فهم الخطاب بالكلية. فهو فهم مستوحى من روح الشريعة العامة ومقاصدها الكلية والذي لا يبرره العمل بمجرد الإعتبارات اللفظية للنصوص دون النظر إلى الواقع، سواء ذلك الذي تفاعل معه الخطاب في عصر النص، أو الواقع المعاصر، على ما فصلنا الحديث عنه خارج هذا الكتاب[44].

وإذا كان علم الأصول لم يصل بعد إلى مرحلة التعويل على الواقع وعلاقته بالفهم الكلي للخطاب دون التقيد بالقيود اللفظية وحرفيتها؛ فإن ما حققه من خطوات جبارة بصدد الكشف عن الهوة العميقة والتفاوت الكبير بين الفهم والنص يشكل في حد ذاته طريقاً معبدة بإتجاه تلك المرحلة، وذلك عبر المرور الممنهج بعلم الطريقة.

لكن مهما كان شأن إقتراب طريقة البحث لأصول الفقه من علم الطريقة، إلا أن بينهما فوارق هامة تمنع رد أحدهما إلى الآخر. فرغم أن علم الأصول هو من العلوم المنهجية أو المنطقية الخاصة بالفقه؛ إلا أنه لا يمكن جعله ضمن البحث الطريقي. ويعود سبب ذلك الى إعتماد هذا العلم على النص كمصدر معرفي للتشريع بما يتضمن من فهم، كما يتمثل بالكتاب والسنة، وكذا الإجماع ككاشف، مع أنه بحسب البحث الطريقي يكون النص موضوعاً للفهم، وهو أمر مختلف حوله منهجياً، اذ يتأسس هذا الفهم على قواعد سابقة، ولذلك لا يمكن للنص (أو فهمه) أن يكون مصدراً أساسياً – لحاله وفي حد ذاته - كالذي يصادره علم الأصول؛ طالما أنه قائم على مصادرات أخرى قبلية، لهذا فهو يعدّ من البحث الإستنباطي.

كذلك فإن علم الأصول مقيد بمعالجة قضايا الفقه، وهو علم لا يحمل الروح الكلية مثلما هو الحال في الكلام، فقياس الفقه وأصوله إلى الكلام هو قياس الجزئي إلى الكلي، كالذي مرّ علينا. وأيضاً فإن استراتيجية علم الأصول ضيقة وجزئية بإعتبارها تختص بالفقه دون غيره من العلوم الإسلامية الأخرى. والأهم من ذلك هو أنها محكومة بالدلالات اللاهوتية وما تحمله من خصوصيات مذهبية. فهذا العلم يبحث عن الطرائق العامة لتسويغ الطابع اللاهوتي لعملية الإستنباط، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى لو كانت هذه الطرائق ومن ثم عملية الإستنباط مفضية إلى فهم ضعيف، أو على حساب الفهم الدقيق لثنايا النص أو الخطاب[45].

وبعبارة أخرى، تتحدد وظيفة هذا العلم أساساً بالكشف عن المسوغ الشرعي لطرائق الإستنباط لدى الممارسة الفقهية، دون الأخذ بنظر الإعتبار مقدار القيمة الإحتمالية التي تفرزها هذه الطرائق من الفهم، إلا بقدر كشفها عن المسوغ الشرعي أو موافقتها له، لهذا يعد الظن مساوياً للشك في غير المعتبر شرعاً[46]. الأمر الذي يجعل الإنطلاقة الأساسية لهذا العلم قائمة على العامل اللاهوتي. فهو مبني على فهم مسبق للخطاب يتأسس عليه الكشف اللاهوتي لطرائق الإستنباط الفقهي. فمثلاً أن من الإهتمامات المناطة ببحث هذا العلم محاولاته الرامية لإثبات حجية خبر الآحاد في الروايات، كمرقاة لإسباغ الحجية على أغلب موارد الفقه المتوقفة عليه. وهو في هذه المحاولات لا يعطي الأولوية لمقدار القيمة الإحتمالية التي يحملها الخبر، بل يكتفي بإثبات المسوغ الشرعي له حتى لو كان على حساب ذلك المقدار من القيمة. لهذا فهو يضع شروطاً لاهوتية تحدد مجال الأخذ بذلك الخبر، كشرط الإسلام، وهو شرط يحظى بموافقة جميع الأصوليين، ثم العدالة أو الوثاقة أو المذهبية أو غيرها من الشروط التي يختلف حولها هؤلاء، والتي تتصادم أحياناً مع القيمة المعرفية للخبر. ويتضح مثل هذا الحال في موقف بعض المذاهب من القياس، إذ يستنكر التعامل به لسبب لاهوتي هو الإعتقاد بنهي الشارع عنه؛ رغم التفوق الإحتمالي الذي يحمله مقارنة بغيره من الأمارات كخبر الآحاد.

أما الحال مع علم الطريقة فمختلف، فهو يعوّل على القيم المعرفية المحتملة لفهم الخطاب بغض النظر عن الحجج والشروط اللاهوتية، لكونها تتوقف على الفهم ذاته.

على أن من الطبيعي أن يكون لكل علم إفتراضاته ومسلماته المنطقية التي تتسق مع موضوع بحثه. فعلم الأصول لما كان علماً لاهوتياً، فهو لهذا ملزم بالتعويل على الحجج والشروط اللاهوتية، حتى لو كان بعضها على حساب القيمة المعرفية طبقاً لما سلّم به من فهم للخطاب. كذلك علم الطريقة، فحيث أنه ليس علماً لاهوتياً، بل علم يراد وضعه لدراسة اللاهوت وفهمه، لذا فمن المنطقي ألا يلتزم بالحجج والشروط اللاهوتية إلا ضمن علاقتها بالقيمة المعرفية الكاشفة عن فهم الخطاب. فلما كان مقيداً ببحث ذلك الفهم، أضحى من غير المعقول أن يلتزم بالشروط والحجج المنتزعة منه، بإعتباره يفضي إلى الدور، إذ تصبح آلية بحث الفهم متوقفة على الحجج والشروط اللاهوتية، مع أنه ينبغي لهذه الأخيرة أن تتوقف بدورها على دراسة الفهم ذاته. فمن الناحية المنطقية أن إثبات الحجج يتوقف على تحديد بحث الفهم، مما يعني أنه ما لم يتحدد الطريق إلى علم الطريقة فإن الفهم اللاهوتي بجميع أشكاله ومنه الفهم الأصولي للفقه يصبح قائماً خلافاً لما يقتضيه النظر المنطقي الآنف الذكر. وبالتالي فإن ما هو شرط أو حجة في علم قد لا يكون شرطاً أو حجة في علم آخر، كما يلاحظ حول إختلاف الموقف بين الفقه والكلام إزاء التعويل على خبر الآحاد، حيث أن علم الفقه يعتمد عليه في أغلب موارده، بينما لا يستسيغه علم الكلام بإعتباره لا يؤدي إلى القطع الذي يحتاجه في تأسيسه للعقائد.

أخيراً يمكن القول بأنه على الرغم من وجود تلك الفوارق الجوهرية بين علم الأصول وعلم الطريقة، إلا أن وجود قواعد إبستيمية تخص فهم النص في علم الأصول، تفرض على علم الطريقة أن لا يهمل توظيفها بعد حذف ما تتضمنه من دلالات لاهوتية وخصوصيات مذهبية.

***

هكذا نعود من حيث بدأنا.. فقد سبق أن شهدنا غياب الطريق بغياب السؤال المنهجي: «كيف نفهم الخطاب؟»، وهو السؤال الذي يتحوّل إلى خصوصية أكبر حينما ينقلب إلى البحث عن أفضل القنوات لفهم النص كما سنعرف. فغياب مثل هذا السؤال قد يعكس صوراً مختلفة من مظاهر الروح الكلية للفكر في التراث، كالإحساس بالوضوح والدوغمائية والإنغلاق والفهم المفصل والقيم اللاهوتية والآيديولوجيا وضعف النقد الذاتي وما إليها. إذ كانت هذه المظاهر حاضرة في فكر التراث بقوة، فبعضها يتفاوت في حضوره وغيابه بين علم وآخر، أو مذهب وآخر، في حين تشترك البقية بقوة الحضور لدى كافة المذاهب والعلوم الكبرى - مثل الكلام والفلسفة والتصوف وغيرها -؛ كالإحساس بالوضوح والدوغمائية والفهم المفصل وضعف النقد الذاتي.. مما يجعل فتح باب السؤال الآنف الذكر على مصراعيه ملحاً؛ بإعتباره إيذاناً بقلب الموازين الآنفة الذكر طبقاً للمهمة التي يتولاها علم الطريقة، سيما وأنه يجب أن يكون علماً شمولياً مؤسساً على النحو الكلي، ومن ثم فإنه يتعامل من الناحية الرئيسية مع العلوم والمذاهب التي تحمل صفة الروح الكلية ويكون لها علاقة بفهم النص. فأهم ما يتعلق بهذا الفهم هو التعرف على نوع الأداة المعرفية والآصرة التي تستخدمها تلك العلوم والمذاهب للإنتاج وفهم الخطاب، بما يترتب على ذلك من علاقات أكسيمية منظمة تنظيماً ذاتياً كنسيج بعضه يتسق مع البعض الآخر. إذ بهذه الطريقة من البحث يمكننا إدراك ما يمتاز به الجهاز المعرفي من روح كلية عامة وكفاءة ذاتية إزاء الإنتاج والفهم، طبقاً لعدد من المعايير.



[1] إبن النديم: الفهرست، المقالة العاشرة.

[2] انظر الفصل الثالث والعشرون من: مقدمة إبن خلدون.

[3] نقل إبن النديم حكاية مفادها بأن خالد بن يزيد بن معاوية كان يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلاً في نفسه وله همة ومحبة للعلوم، وخطر بباله الصنعة فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصّح بالعربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة (الفهرست، المقالة السابعة).

[4] محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتعريف حسين جمعة، دار دانية للنشر، الطبعة الأولى، 1990م، ص2.

[5] أبو الفرج بن الجوزي: تلبيس إبليس، دراسة وتحقيق وتعليق الدكتور الجميلي، دار الكتاب العربي ببيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ1985م، ص28-29.

[6] الرسعني: مختصر كتاب الفرق بين الفرق للبغدادي، حرره فيليب حتى، مطبعة الهلال بمصر، 1924م، ص28.

[7] الشاطبي: الإعتصام، دار الكتب الخديوية بمصر، تقديم محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، 1913م، ج3، ص61ـ77.

[8] الإعتصام، ج3، ص77ـ78.

[9] الملل والنحل، ص70.

[10] فخر الدين الرازي: إعتقادات فرق المسلمين والمشركين، مراجعة وتحرير علي سامي النشار، مكتبة النهضة المصرية، 1356هـ ـ1938م، الباب الثالث، ص12.

[11] نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية، طبعة تبريز، إيران، ج2، ص279. ومحمد باقر الخوانساري: روضات الجنات، تحقيق اسد الله إسماعيليان، مكتبة إسماعيليان في قم، ج2، مادة 881، ص440. والشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين، تحقيق وتقديم سليمان دنيا، دار احياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1958م، ج1، ص28ـ29.

[12] الشاطبي: الإعتصام، ج3، ص80ـ83. والموافقات في أصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ ـ 1975م، ج4، ص181 وما بعدها.

[13] إبن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، تصحيح عبد الرحمن خليفة، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1989م، ج3، ص138. وعبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين، الطبعة الأولى، ج1، ص33-34.

[14] انظر: يوسف القرضاوي: مبادئ أساسية فكرية وعملية في التقريب بين المذاهب، مجلة رسالة التقريب، عدد 13، ص146ـ148. ومحمد علي الشوكاني: فتح القدير، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية www.yasoob.com ، ج2، ص59.

[15] الغزالي: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ضمن الجواهر الغوالي، مطبعة السعادة بمصر، 1353هـ ـ 1934م، ص101ـ102.

[16] الخياط المعتزلي: الانتصار، مقدمة وتحقيق نيبرج، دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1925م ـ 1344هـ، ص126ـ127.

[17] انظر كلاً من: عبد الجبار الهمداني: المجموع في المحيط بالتكليف، نشر وتصحيح الأب جين يوسف اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ج1، ص71 و19. وشرح الأصول الخمسة، تحقيق وتقديم عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة بمصر، الطبعة الأولى، 1965م، ص39. وابو جعفر الطوسي: تمهيد الأصول في علم الكلام، انتشارات دانشكاه، تهران، 1362هـ، ص2. ويوسف بن المطهر الحلي: أنوار الملكوت في شرح الياقوت، انتشارات الرضي ـ بيدار، الطبعة الثانية، ص9. وعبد الكريم عثمان: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ1971م، ص81. كما انظر الفصل الأول من كتابنا: العقل والبيان والإشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م. ومقالنا: منطق الإحتمال ومبدأ التكليف في التفكير الكلامي، دراسات شرقية، العددين التاسع والعاشر، 1991م.

[18] للتوسع انظر الفصل الأخير من كتابنا: الإجتهاد والتقليد والإتباع والنظر، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2010م.

[19] مرتضى الأنصاري: فرائد الأصول، تحقيق وتقديم عبد الله النوراني، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، الطبعة الثالثة، 1411هـ، ج1، ص283.

[20] انظر: رسائل الشريف المرتضى، دار القرآن الكريم في قم، ج1، ص26ـ27 و211ـ212 و410، وج2، ص18، وج3، ص310ـ311.

[21] محمد باقر البهبهاني: رسالة الإجتهاد والأخبار، وهي ملحقة خلق (عدة أصول)، طبعة حجرية، مطبعة ميرزا حبيب الله في دار الخلافة بطهران، 1317هـ، ص52ـ59 و78ـ79. وانظر أيضاً: مشكلة الحديث.

[22] انظر بهذا الصدد: فرائد الأصول، ج1، ص183 وما بعدها. كذلك: الفصل الأول من كتابنا: الإجتهاد والتقليد والإتباع والتقليد. والفصل الخامس من: العقل والبيان والإشكاليات الدينية.

[23] انظر بهذا الصدد: محمد باقر الصدر: بحوث في علم الأصول، تحرير السيد محمود الهاشمي، المجمع العلمي للامام الصدر، طبعة أولى، 1405هـ، ج5، ص9 وما بعدها.

[24] ذكر الغزالي بأنه أخذ ينظر في تلك الأصناف الأربعة من الإتجاهات، بعد أن شفاه الله من مرض الشك المطلق (المنقذ من الضلال، حققه وقدم له جميل صليبا وكامل عياد، مطبعة الجامعة السورية، الطبعة الخامسة، 1956م، ص64).

[25] إبن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، تقديم وتحقيق محمود قاسم، الطبعة الثالثة، مكتبة الانجلو المصرية، ص133ـ134.

[26] المستصفى من علم الأصول، ج1، ص5ـ7.

[27] المنقذ من الضلال، ص92.

[28] تاريخ إبن خلدون، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني ببيروت، الطبعة الثالثة، 1967م، ج1، ص821.

[29] لاحظ دراستنا: علم الكلام والكلام الجديد/ الهوية والوظيفة، قضايا إسلامية معاصرة، العدد الرابع عشر، 1422هـ ـ2001م، ص171ـ202.

[30] من تعاريف علم الأصول هو أنه «النظر في طرائق الفقه على طريق الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وما يتبع كيفية الاستدلال بها»، أو هو «معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد»، أو هو «العلم بالقواعد الممهدة لإستنباط الأحكام الشرعية»، أو هو «صناعة يعُرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق إستنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»، أو هو «العلم بالعناصر المشتركة لإستنباط جعل شرعي» (انظر حول ذلك: أبو الحسين البصري المعتزلي: المعتمد في أصول الفقه، تحقيق محمد حميد الله، طبعة دمشق، 1964م، ج1، ص9. ويس سويلم طه: مختصر صفوة البيان في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، مكتبة الكليات الأزهرية، 1393هـ ـ 1973م، ج1، ص4. وتاريخ إبن خلدون، ج1، ص812. ومحمد كاظم الخراساني: كفاية الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الأولى، 1412هـ، ص23. ومحمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، دار الكتاب اللبناني ـ دار الكتاب المصري، طبعة أولى، 1978م، الحلقة الثالثة، ج1، ص13).

[31] انظر بصدد الطوائف والشخصيات المكفرة في مجال الأصول والإعتقادات كلاً من: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج3، ص137ـ138. والمستصفى، ج2، ص357ـ358. وابو اسحاق الشيرازي: شرح اللمع، تحقيق وتقديم عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، طبعة أولى، 1408هـ ـ 1988م، ج1، ص111، والذي يقول: «من اعتقد غير ما أشرنا إليه من إعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الأشعري فهو كافر». وانظر أيضاً: رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص136. ورسالة في الإعتقادات، ضمن الرسائل العشر لأبي جعفر الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم، تقديم محمد واعظ زاده الخراساني، ص103. كذلك: الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين، ج1، ص23ـ24.

[32] يقول الإمام الشافعي بهذا الصدد: «رأيت أهل الكلام يكفر بعضهم بعضاً ورأيت أهل الحديث يخطئ بعضهم بعضاً، والتخطئة أهون من الكفر».

[33] الشافعي: الرسالة، شرح وتحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1979م، ص494.

[34] بحوث في علم الأصول، ج5، ص10ـ11. والفيض محسن الكاشاني: الأصول الأصيلة، تصحيح وتعليق مير جلال الدين الحسيني، سازمان چاب دانشگاه، ايران، 1390هـ، ص19ـ20.

[35] لقد قارن الإمام محمد باقر الصدر في تقريراته بين منهج الإستنباط في الفقه الإمامي والفقه السني، فاعتبر الأول إعتمد على إفتراض مرحلتين للإستنباط؛ يطلب في أُولاهما الدليل على الحكم الشرعي، ويطلب في الثانية تشخيص الوظيفة العملية تجاهه تنجيزاً أو تعذيراً. والقواعد التي تقرر في المرحلة الثانية هي التي تسمى بالأصول العملية لأنها تشخص الموقف العملي إتجاه التشريع من دون أن تشخص الحكم الواقعي نفسه. أما في الفقه السني فالمعوّل عليه هو فقط المرحلة الأولى للإستنباط، حيث يتجه الدليل الإستنباطي إلى إثبات الحكم الشرعي دائماً، سواء بالإعتماد على النص، أو بالإعتماد على القواعد الإجتهادية (بحوث في علم الأصول، ج5، ص9ـ10). وإن كان بعض المتأخرين من أهل السنة أكد بأن الأصل في الدليل الشرعي هو القطع، بما لا يختلف في ذلك عن الإتجاه الشيعي، فكما قال الشاطبي: «قد تقدم أن كل دليل شرعي فإما مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به» (محمد جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل، ضبطه وصححه محمد باسل عيون السود، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1424هـ ـ 2003م، ج1، ص85). وقال الأبياري في (شرح البرهان): «مسائل الأصول قطعية ولا يكفي فيها الظن ومدركها قطعي ولكنه ليس المسطور في الكتب، بل معنى قول العلماء أنها قطعية أن من كثر أستقراؤه وإطلاعه على أقضية الصحابة ومناظراتهم وفتاواهم وموارد النصوص الشرعية ومصادرها حصل له القطع بقواعد الأصول، ومن قصر عن ذلك لا يحصل له إلا الظن. وإنما وضع العلماء هذه الظواهر في كتبهم ليبينوا أصل المدرك، لا أنها مدرك القطع ، فلا تنافي بين كون هذه المسائل قطعية وبين كون هذه النصوص لا تفيد إلا الظن» (محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، الاردن، الطبعة الثانية، 1421هـ ـ 2001م، ص234).

[36]هناك خلاف فيما يقتضيه دليل الانسداد من العمل بين الأصوليين الإماميين، فالبعض يرى أنه منشأ للحكم بارتفاع التكليف بالمجهولات، أو الحكم بالبراءة. وبعض آخر يرى لزوم العمل بالاحتياط ما أمكن ذلك. لكن أغلبهم ذهبوا إلى التعويل على مطلق الظن ما لم يكن فيه نهي صريح خاص من قبل الشرع، كما في القياس، وإن كان البعض تقبّل حتى هذا النوع من الظن لعلة الانسداد. وقد شاع لدى المتأخرين من علماء الأصول تنقيح دليل الإنسداد بعدة مقدمات، أوصلها البعض إلى خمسة لو أنها صدقت لكان يكفي العمل بمطلق الظن طبقاً لأغلب القائلين بهذا الدليل، وهي تفيد بأنه لما كنّا نعلم علماً إجمالياً بوجود الكثير من التكاليف الشرعية في حقنا، وأنه يعسر علينا العلم بأغلبها، وكذا الظن الذي اعتبره الشارع وارتضاه، وحيث أنه لا يجوز اهمال هذه التكاليف، كما لا يجب الاحتياط بالعمل بجميع صورها المحتملة، لذا لا بد من الترجيح فيما بين المحتملات من الأحكام، وحيث يقبح ترجيح المرجوح على الراجح، لذلك لا بد من التعويل على العمل بالظن وترجيحه على ما هو أقل منه رتبة ودرجة مما هو مشكوك أو موهوم.

[37] اعتمدنا في ما سبق عرضه على كتابنا: الإجتهاد والتقليد والإتباع والنظر.

[38] هناك ثلاثة أدلة قدمها محمد عبده لإبطال الزواج المتعدد كالتالي:

 «أما اولاً: فلأن شرط التعدد هو التحقق من العدل، وهذا الشرط مفقود حتماً، فإن وجد في واحد من المليون فلا يصح أن يتخذ قاعدة، ومتى غلب الفساد على النفوس، وصار من المرجح إلا يعدل الرجال في زوجاتهم جاز للحاكم أو للعالم أن يمنع التعدد مطلقاً مراعاة للأغلب.

وثانياً: قد غلب سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد، وحرمانهم من حقوقهن في النفقة والراحة، ولهذا يجوز للحاكم وللقائم على الشرع أن يمنع التعدد دفعاً للفساد الغالب.

 وثالثاً: قد ظهر أن منشأ الفساد والعداوة بين الأولاد هو إختلاف امهاتهم، فإن كل واحد منهم يتربى على بغض الآخر وكراهيته، فلا يبلغ الأولاد أشدهم إلا وقد صار كل منهم من أشد الأعداء للآخر، ويستمر النزاع بينهم إلى أن يخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي الظالمين، ولهذا يجوز للحاكم أو لصاحب الدين أن يمنع تعدد الزوجات والجواري معاً صيانة للبيوت عن الفساد» (محمد عبده: المساواة بين الرجال والنساء، نصوص نشرتها مجلة منبر الحوار، عدد 8، 1408هـ ـ1987م، ص170).

[39] محمد عمارة: هل يجوز الإجتهاد... مع وجود النص؟!، مجلة منبر الحوار، العدد 13، 1410هـ ـ 1980م، ص100.

[40] انظر الفصلين السابع والثامن من كتابنا: جدلية الخطاب والواقع، طبعة دار أفريقيا الشرق، 2012م.

[41] ورد حديث السبق المذكور في المصادر السنية أيضاً، وذُكر بأنه حديث مشهور، اخرجه احمد بن حنبل وأصحاب السنن الأربعة ورواه الشافعي والحاكم وصححه (مجموع فتاوى إبن تيمية، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، 1404هـ، ج29، ص48. ومصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402هـ ـ 1982م، ص88). علماً بأن من الفقهاء من لم يحصر السبق على عوض في الأصناف الثلاثة الآنفة الذكر إستناداً إلى بعض الأخبار والروايات الدالة على جواز السبق في أصناف أخرى كالمصارعة والطيور والسفن والزيارق (ابو جعفر الطوسي: المبسوط في فقه الإمامية، تصحيح وتعليق محمد تقي الكشفي، المكتبة المرتضوية، ايران، الطبعة الثانية، 1387هـ، ج6، كتاب السبق والرماية، ص291ـ292. ومحمد حسن النجفي: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، دار الكتب الإسلامية بطهران، ج28، ص217ـ218).

[42] محمد جواد مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق، انتشارات قدس محمدي، قم، ج4، ص235ـ236.

[43] محمد جواد مغنية: أصول الإثبات في الفقه الجعفري، دار العلم للملايين ببيروت، الطبعة الأولى، 1964م، ص235ـ237.

[44] انظر: جدلية الخطاب والواقع. وفهم الدين والواقع، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2011م.

[45] يستثنى من ذلك الطريقة المفضية إلى العلم أو القطع. فالعلم لدى الكثير من الأصولين يعد حجة ذاتية لا تتوقف على جعل الشرع لها، إلا أن موارده قليلة جداً، كما هو الحال في الخبر المتواتر (انظر حول ذلك: فرائد الأصول، ج1، ص4 وما بعدها).

[46] جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج2، ص349. كذلك: فرائد الأصول، ج1، ص309.

comments powered by Disqus