يحيى محمد
سبق للصحابة والتابعين أن أبدوا تحفظات عديدة حول كتابة الحديث، اذ كانوا يحفظونه ويؤدونه لفظاً، وقد استثني من ذلك كتاب الصدقات كما في العديد من الروايات لأغراض عملية[1]. لكن بتقادم الزمن اخذ الحفظ يقل بموت العلماء وضعف الذاكرة وانتشار الكثير منهم في الامصار، وقد رافق ذلك ازدياد الكذب على النبي وكثرة ظهور الفرق والابتداع، فخيف عليه من المحو والاندراس. من هنا بدأت فكرة التدوين العام، كما يشير اليها الكثير من العلماء والحفاظ. وكما قال الرامهرمزي: إنما كره الكتاب من كره من الصدر الأول لقرب العهد وتقارب الإسناد ولئلا يعتمده الكاتب فيهمله أو يرغب عن حفظه والعمل به، فأما والوقت متباعد والاسناد غير متقارب والطرق مختلفة والنقلة متشابهون وآفة النسيان معترضة والوهم غير مأمون فان تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى والدليل على وجوبه أقوى[2]. وكذا ذهب ابن حجر في (مقدمة فتح الباري) الى ان تدوين الآثار وتبويب الأخبار قد حصل في أواخر عصر التابعين بعد ان انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، حيث اراد العلماء تقييد الامر بقوانين تمنع الابتداع والفرق الجديدة فكان لابد من التدوين[3].
هكذا يتضح ان العلة التي استند اليها العلماء في تفسير حالة التدوين تعود الى عدد من العوامل؛ كضعف الذاكرة وذهاب العلماء وانتشار الكذب وكثرة الابتداع وظهور الفرق العقدية. وقد يشار الى مثل هذه العوامل بعدد من الاخبار، اهمها ان بدء التدوين حدث بفعل الأمر الذي صدر عن السلطة السياسية في اواخر العهد الاموي. فقد جاء ان عمر بن عبد العزيز أمر عامله في المدينة أبا بكر بن عمرو بن حزم وكتب إليه قائلاً: انظر ما كان من حديث رسول الله (ص) فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي (ص) ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً {صحيح البخاري، حديث 34}. وفي رواية اخرى ان عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب (الزهري) فإنكم لا تجدون أحداً أعلم بالسنة الماضية منه[4].
ومع ان الكثير من الباحثين المعاصرين يعطون لهذا القرار السياسي اهمية خاصة لتفسير الكيفية التي بدأت فيها عملية التدوين، لكن ما يبدو هو ان هذه العملية لم تحدث بفعل ذلك القرار، فهناك اسباب اخرى دفعت العلماء على التدوين، ويحضرنا بهذا الصدد خبران اخران يبين كل منهما كيف كانت البداية، وكلاهما منقول عن أب التدوين ابن شهاب الزهري (المتوفى سنة 124هـ). فأحد الخبرين ينسب علة التدوين الى عدوى الوضع والكذب الاتي من جهة المشرق (العراق) اذ يقول الزهري: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثاً ولا أذنت في كتابه[5]. اما الخبر الثاني فيرجع العلة في بدء التدوين الى الاكراه الذي مارسته السلطة الاموية على كتابة الحديث لاغراض خاصة وضمن حدود شخصية، لكنه ساهم في تعميم تداول التدوين لدى عامة المسلمين، وكما يقول الزهري: كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين[6]. وجاء أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يملي على بعض ولده شيئاً، فأملى عليه أربعمائة حديث، وخرج الزهري فقال: أين أنتم يا أصحاب الحديث؟! فحدثهم بتلك الأربعمائة، ثم لقي هشاماً بعد شهر أو نحوه فقال للزهري: ان ذلك الكتاب ضاع، فدعا بكتاب فأملاها عليه ثم قابل بالكتاب الأول فما غادر حرفاً واحداً[7]. وجاء ان رجلاً سأل الزهري وعرض عليه كتاباً من علمه فقال: أأحدث بهذا عنك يا أبا بكر؟ قال نعم فمن يحدثكموه غيري[8].
وقيل ان الزهري اضاف اقوال الصحابة عند كتابة حديث النبي وعدها من السنة. فكما جاء عن صالح بن كيسان انه قال: اجتمعت أنا وابن شهاب الزهري ونحن نطلب العلم فاتفقنا على أن نكتب السنن، فكتبنا كل شيء سمعنا عن النبي (ص) وبعدها قال الزهري: نكتب ما جاء عن أصحابه، فقلت لا ليس بسنة، فقال الزهري: بلى هو سنة، فكتب ولم أكتب، فألحج وضيعت[9].
ويمكن القول ان التدوين بدأ كسلاح ذي حدين. ففي الاول تحاشاه علماء السلف والتابعون لاسباب عديدة، منها خشيتهم من ان يتحول الى طريق للدس في الكتب والقراطيس، كما ان عن طريقه يمكن ان يسمح لمن هو ليس اهلاً للحديث بالتعاطي معه فيشيع تداوله بين عوام الناس ويكثر الكذب والتحريف. وقد كان الاوزاعي يقول: ‹‹كان هذا العلم كريماً يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله››[10]. فهذا هو الجانب السلبي من التدوين، أما الجانب الايجابي منه فهو انه ساعد على منع الكذب والاقلال من الوضع والتحريف الذي تتناقله الالسن والشفاه. وقد لجأ الحفاظ الى كتابة الحديث لصونه من الكذب والتغيير والتحوير عبر الافواه. بل ان احدى الروايات المنقولة عن الزهري تشير الى ان علة تدوين الحديث جاءت لهذا الغرض، حيث في الرواية انه اضطر الى كتابة الحديث بفعل ما شاهده من الاحاديث غير المعروفة القادمة من المشرق. وآل الامر الى ان بعض علماء السلف المتأخرين اوصى بجعل التعامل بالرواية من خلال الكتاب، ومن ذلك ما قاله احمد بن حنبل: ‹‹لا تحدثن الا من كتاب››[11]، ويؤيده ما جاء عن علي بن المديني انه ذكر احمد بن حنبل وقال: بلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب[12]. ومثل ذلك ما قاله جعفر الطيالسي: ينبغي لصاحب الحديث أن يتزر بالصدق ويرتدي بالكتب[13].
مع هذا صادف التدوين مشكلة تتعلق بالكتابة والاستملاء، حيث ان بعض الرواة المستملين قد لا يسمع الحديث بصورة صحيحة عن شيخه فيقع الاختلاف والتغيير، ومن ذلك ما ذكره ابن الصلاح من ان الكثير من اكابر المحدثين تعظم مجالسهم بالاف السامعين من الرواة المستملين، لكن الكثير منهم يكتب ما يملى دون ان يسمع جيداً. فمثلاً جاء عن الأعمش انه قال: كنا نجلس الى إبراهيم فتتسع الحلقة فربما يحدث بالحديث فلا يسمعه من تنحى عنه فيسأل بعضهم بعضاً عما قال ثم يروونه وما سمعوه منه. وعن حماد بن زيد أنه سأله رجل في مثل ذلك فقال: يا أبا إسماعيل كيف قلت؟ فقال: استفهم من يليك. وعن ابن عيينة أن أبا مسلم المستملي قال له: إن الناس كثير لا يسمعون، قال: أتسمع أنت؟ قال نعم، قال فأسمعهم[14] . لذلك لم يجز بعض العلماء ما يرويه المستملي بتلك الطريقة. فمثلاً جاء عن خلف بن تميم انه قال: سمعت من سفيان الثوري عشرة آلاف حديث أو نحوها فكنت أستفهم جليسي، فقال لي زائدة: لا تحدث منها إلا بما تحفظ بقلبك وسمع أذنك، قال فألقيتها[15]. بل وكان البعض يحتاط ويعرض ما كتبه على من املى عليه الحديث، خشية الزيادة والنقصان. وهناك من اوصى طالب العلم بمقابلة كتابه بأصل سماعه عن الشيخ الذي يرويه عنه. وجاء عن عروة بن الزبير أنه قال لابنه هشام: أكتبت؟ قال: نعم، قال: عارضت كتابك؟ قال لا، قال لم تكتب! وعن الامام الشافعي ويحيى بن أبي كثير قالا: من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج[16].
مهما يكن فقد استقر الامر على لزوم الكتابة، وكان هناك اجماع على تسويغها للحاجة والضرورة، فلولا التدوين لدرس الحديث في العصور المتأخرة كالذي اشار اليه ابن الصلاح[17].
لنعد الى الزهري الذي يعتبر المسئول الاول عن تدوين الحديث. فهو اول من شرع بكتابة الحديث بعد ان كان التابعون قبله يكرهون كتابته لاسباب سبق عرضها. وروي عنه انه قال: لم يدّون هذا العلم أحد قبل تدويني[18]. ويعد الزهري من صغار التابعين ومن فضلاء اهل الفقه والحديث في المدينة، وكان يعرف بحفظه لعلم الفقهاء السبعة المعروفين[19]، وقيل انه ادرك عشرة من الصحابة[20]، والبعض زاد على ذلك قليلاً[21]. وقد اشاد الكثير من العلماء بفضل هذا الرجل، فجاء عن سفيان بن عيينة قوله: كان الزهري أعلم أهل المدينة[22]. وقال عنه عمر بن عبد العزيز: ما ساق الحديث أحد مثل الزهري[23]. وقال ايضاً: لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري[24]. كما ذكره عمرو بن دينار بقوله: لقد جالست جابراً وابن عباس وابن عمر وابن الزبير فما رأيت احداً انسق للحديث من الزهري[25]، وفي رواية اخرى عن عمرو بن دينار انه قال: والله ما رأيت مثل هذا الفتى القرشي قط[26]. وقيل لمكحول: من أعلم من رأيت؟ قال ابن شهاب، قيل له ثم من؟ قال ابن شهاب، قيل له ثم من؟ قال ابن شهاب[27]. ومثل ذلك نُقل عن أيوب انه قال: ما رأيت أعلم من الزهري، فقال له صخر بن جويرية: ولا الحسن؟ قال: ما رأيت أحداً أعلم من الزهري[28]. وكان مالك بن أنس يقول: كنت أكتب الحديث فإذا اختلج في قلبي منه شيء عرضته على الزهري فما أمرني فيه قبلته، وما أثبته فهو الثبت عندي، وكنت أوثر علمه فيه على علم غيره لتقدمه في هذا الامر وعلمه بسنن رسول الله (ص)[29].
هكذا يعتبر الزهري اعلم زمانه بالسنة والحديث. وروي عنه انه قال: مكثت خمساً واربعين سنة اختلف من الحجاز الى الشام، ومن الشام الى الحجاز، فما كنت اسمع حديثاً استطرفه[30].
ومن بين ما تعود اليه اهمية الزهري هو ان له من الاحاديث الكثيرة التي لم يروها غيره. فقد ذكر مسلم في صحيحه ان له ما يقارب تسعين حديثاً عن النبي بأسانيد جياد لا يرويها غيره[31]. ونقل عن معمر انه قال: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزانته من علم الزهري[32].
على ذلك يكون الزهري هو الممهد الاول لجميع التطورات التي جرت على الحديث المدون، اذ اتكأ عليه من جاء بعده، فبدأت مراحل جديدة؛ اولها التبويب، ثم المساند، ومن بعدها الصحاح.
[1] محمد بن إدريس الكتاني: الرسالة المستطرفة، مكتبة نداء الايمان الالكترونية، ص3.
[2] المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، ص386
[3] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الاول، كذلك: قواعد التحديث، ص69
[4] ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، 1968م، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج5، فقرة 177
[5] تقييد العلم، ص30
[6] تقييد العلم، ص30، وسير اعلام النبلاء، ج5، ص1137، وجامع بيان العلم وفضله، باب ذكر الرخصة في كتاب العلم. وجاء ان الزهري كان يمنع الناس أن يكتبوا عنه، فلما ألزمه هشام بن عبد الملك أن يملي على بنيه أذن للناس بالكتابة عنه (اعلام النبلاء، ج5، ص1137).
[7] تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 97
[8] جامع بيان العلم وفضله، باب في العرض على العالم.
[9] الجامع لاخلاق الراوي، ج2، فقرة 1574، والتعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج2، ص870
[10] مقدمة ابن الصلاح، باب في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده. ومما يذكر ان البخاري ترك الرواية عن حماد بن سلمة مع علمه بثقته، وذلك تعويلاً عما قيل بأنه كان لحماد ربيب يدخل في حديثه ما ليس منه (الموضوعات، ج1، ص34).
[11] ابو بكر محمد بن موسى الهمذاني: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الاثار، نشر وتعليق وتصحيح راتب حاكمي، مطبعة الاندلس، حمص، الطبعة الاولى، 1386هـ ـ1966م، ص17، وطبقات الحنابلة، ج2، مادة (أبو الحسن الحافظ المبرز بصري الدار).
[12] التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ص300
[13] أدب الاملاء والاستملاء، ص.58
[14] يروى عن البعض ما ظاهره انه يتساهل في سماع الحديث، اذ جاء عن الحافظ الاصبهاني ابي عبد الله بن مندة انه قال لواحد من أصحابه: يا فلان يكفيك من السماع شمه. واعتبر ابن الصلاح ان هذا إما متأول أو متروك على قائله، والبعض فسر هذا القول بانه اذا سئل عن اول شيء عرفه ولا يعني التساهل في السماع (مقدمة ابن الصلاح، باب معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه).
[15] مقدمة ابن الصلاح، باب معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه، والكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في استفهام الكلمة والشيء من غير الراوي.
[16] مقدمة ابن الصلاح، باب في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده. والجامع لأخلاق الراوي، فقرة 576 و577، وأدب الاملاء والاستملاء، ص93ـ94
[17] مقدمة ابن الصلاح، باب في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده.
[18] الرسالة المستطرفة، ص3
[19] وهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وابو بكر بن عبد الرحمن المخزومي وعبد الله بن عبد الله بن عتيبة وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد وسليمان بن يسار.
[20] وفيات الاعيان، ج5، فقرة 177
[21] البحر المحيط، فقرة 1158
[22] سير أعلام النبلاء، ج5، ص1137، وتقدمة المعرفة، باب ما ذكر من معرفة بن عيينة بالعلم.
[23] سير أعلام النبلاء، ج5، ص1137، وتقدمة المعرفة، باب ما ذكر من معرفة بن عيينة بالعلم.
[24] تذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 97، والبداية والنهاية، ج9، ص374
[25] ابن كثير: البداية والنهاية، حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري، دار إحياء التراث العربي، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج9، ص374
[26] وفيات الاعيان، ج5، فقرة 177
[27] وفيات الاعيان، ج5، فقرة 177
[28] التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج2، ص696
[29] التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج2، ص696
[30] البداية والنهاية، ج9، ص375
[31] صحيح مسلم، حديث 1647
[32] جامع بيان العلم وفضله، باب في العرض على العالم. وتذكرة الحفاظ، ج1، فقرة 97، وسير أعلام النبلاء، ج5، ص1137