يحيى محمد
ترد جملة من الروايات في صحيحي البخاري ومسلم مما لا يتوافق مع بيان القرآن الكريم، كالذي رواه ابو هريرة في صحيح البخاري من انه سمع النبي (ص) يقول: لن يدخل أحداً عمله الجنة، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وأما مسيئاً فلعله أن يستعتب[1].
والحديث يتنافى في دلالته مع الايات التي تبدي ان الجزاء قائم على العمل، كما في قوله تعالى: ((وما تجزون الا ما كنتم تعملون)) (الصافات/39) وقوله: ((وأن ليس للانسان الا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى)) (النجم/39ـ40)[2].
ومثل ذلك ما روي في الصحيحين حول مسألة الاستغفار للمنافقين، اذ روى ابن عمر انه لما توفي عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله (ص) فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله (ص) ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله (ص) وقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله (ص): إنما خيرني الله فقال: ((استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)) وسأزيد على السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله (ص) فأنزل الله ((ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره)) [3].
وهذه الرواية تخطّئ النبي في قضية دينية وتجعل من حكم عمر حكماً صحيحاً يطابق حكم الله، وبالتالي فهي لا تتسق مع القول بعصمة النبي في تبيانه للقرآن وتفسيره. كذلك انها تبدي خلاف بيان القرآن، حيث ظاهر الاية واضح في كون المراد ليس عدد الاستغفار، بل عدم التأثير، وهي كحال هذه الاية: ((إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط)) (الاعراف/40) اذ لقائل ان يقول بان الاية لا تمانع من جواز دخول الكافر المكذب للجنة، وذلك لانها علقت هذا الدخول على امر ممكن غير مستحيل وهو ولوج الجمل في سمّ الخياط، حيث لا يمتنع ان يصغّر الله الجمل ويكبّر سمّ الخياط، فيدخل الاول في الاخر. مع ان مراد الاية هو الاستحالة كما هو الظاهر، وليس هناك من يقول بالمعنى السابق.
ومما جاء في المعارضة مع نص القرآن ما روي في الصحيحين ان النبي نادى عدداً من قتلى المشركين فقال: هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً فإني قد وجدت ما وعدني الله حقاً، فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟ قال (ص): ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئاً[4].
ويعد هذا الحديث معارضاً لقوله تعالى: (( إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصّمّ الدّعاء إذا ولّوا مدبرين)) (النمل/80) وقوله: ((وما يستوي الأحياء ولا الأموات إنّ الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور)) (فاطر/22). لذلك ففي حديث اخر ان السيدة عائشة اعترضت على ناقلي الرواية بالايتين السابقتين، حيث جاء في صحيح مسلم ان عائشة اعترضت على الرواية السابقة واعتبرت من رواها قد وهل وان النبي لم يقل إنهم ليسمعون ما أقول، بل قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ثم قرأت الايتين المشار اليهما سلفاً[5].
وهذا الحديث للسيدة عائشة جاء معطوفاً على انكارها لحديث اخر رواه عدد من الصحابة مثل عمر وابنه عبد الله، وهو قول النبي: إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه، فقالت وهِلَ ابن عمر، إنما قال رسول الله: إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن، ثم مثّلت على ذلك بتصحيحها لحديث سماع الموتى الانف الذكر.
وقد جاء حديث (تعذيب الميت ببكاء اهله عليه) بصيغ متعددة، منها ما روي عن المغيرة بن شعبة انه سمع النبي يقول: من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة[6]. لكن ابرز الصيغ المروية هي تلك التي جاءت عن ابن أبي مليكة انه قال: توفيت ابنة لعثمان بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس، وإني لجالس بينهما، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدث فقال: لما أصيب عمر، دخل صهيب يبكي ويقول: وا أخاه، وا صاحباه، فقال عمر: يا صهيب أتبكي عليّ وقد قال رسول الله: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، قال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، وقالت حسبكم القرآن: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى))[7]. وفي رواية اخرى اكملت أم المؤمنين حديثها لما بلغها قول عمر وابنه فقالت: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطىء[8]. كما في رواية اخرى عن عروة بن الزبير ان عائشة قالت عند سماعها قول عمر (الميت يعذب ببكاء أهله عليه): رحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئاً فلم يحفظه، إنما مرّت على رسول الله جنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال: أنتم تبكون وإنه ليعذب[9].
واذا صح ان أم المؤمنين قد ردت حديث (تعذيب الميت ببكاء اهله عليه) معتبرة اياه مخالفاً لقوله تعالى: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى))، فانه على هذه الشاكلة يمكن رد عدد من الاحاديث المخالفة لمبدأ الجزاء على العمل، مثلما روي بشأن قضاء الصوم والصلاة وغيرهما للميت، ومن ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس من ان رجلاً جاء الى النبي (ص) فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى[10]، ومثله الحديث المروي عن عائشة ان النبي قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه[11]. ذلك ان مثل هذه الاحاديث لا تتسق وقول القرآن: ((وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأنّ سعيه سوف يرى، ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى)) (النجم/39ـ41). وقد كان احمد بن حنبل يستنكر حديث (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) رغم انه ثابت في الصحيحين[12].
ومما يستبعد حدوثه ما جاء في الحديث ان بعض الايات القرآنية تنزل وهي تعيد كلام احد الصحابة دون تغاير. فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب قوله: وافقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزلت: ((واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى))، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي (ص) في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فأنزلت هذه الآية[13]. اي انها انزلت بالمنطوق نفسه الذي ابداه عمر.
وكذا يستبعد حدوث ما تبديه بعض الروايات من ان صحابياً بارزاً كان يجهل العمل بآية التيمم وقت الخلافة الراشدة، كأنه لم يسمع بها من قبل، مع ان حالة الجنابة وغياب الماء هي من الامور التي يكثر فيها الابتلاء في ذلك الزمان، مما يجعل الاية حاضرة على الدوام، وكذا تبدي الرواية ان صحابياً اخر لم يستشهد بهذه الاية رغم انها تناسب المقام. فقد روى البخاري ومسلم أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال عمر: لا تصل، فقال عمار بن ياسر: أما تذكر يا أمير المؤمنين! إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي (ص): إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك. فقال عمر: اتق الله يا عمار! قال عمار: إن شئت لم أحدث به[14].
وفي رواية اخرى ان احد الصحابة لم يبال بمنطق اية التيمم، وكأنها غير مجزية او كافية، وذلك ما لم نعتبرها شاهداً يؤيد مبدأ ترجيح المصلحة على النص كما ذهب اليه الطوفي؛ الذي استدل على ذلك بعدة ادلة، ومنها هذا الشاهد[15]. فقد روى البخاري ومسلم ان ابا موسى الاشعري سأل عبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهراً، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة ((فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً)) فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد، فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار: بعثني رسول الله (ص) في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي (ص) فذكرت ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه؟ فقال عبد الله: أوَلم تر عمر لم يقنع بقول عمار[16]؟
[1] صحيح البخاري، حديث 5349
[2] علماً بأن هذه الايات لا تتنافى مع الاية القائلة: ((ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من احد ابداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم)) (النور/21) فقد فسرت هذه الاية بأن الهداية والرشد وتزكية النفوس من الله تعالى، ولولا ذلك ما صلح للانسان عمل (لاحظ القرطبي: الجامع لاحكام القرآن، دار الكاتب العربي، مصر، الطبعة الثالثة، 1387هـ ـ1967م، ج12، ص207). واغلب الظن ان معناها يرتبط بسياق الايات التي قبلها والتي تتحدث عن الافك، وفيها دلالة على التوبة كالذي يشير اليه ابن كثير في تفسيره (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، دار قتيبة، ج3، ص303).
[3] صحيح البخاري، حديث 4393، وكذا حديث 1210، ومثله صحيح مسلم، حديث 2774، وحديث 2400، وجاء في رواية اخرى عن عمر بن خطاب انه تعجب من جرأته على رسول الله (ص) يومئذ (صحيح البخاري، حديث 1300).
[4] صحيح مسلم، حديث 2873، كذلك: صحيح البخاري، حديث 3802
[5] صحيح مسلم، حديث 932.
[6] صحيح مسلم، حديث 933.
[7] صحيح البخاري، حديث 1226
[8] صحيح مسلم، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، حديث 929
[9] صحيح مسلم، حديث 931
[10] صحيح البخاري، حديث 1852
[11] صحيح البخاري، حديث 1851
[12] سير أعلام النبلاء، فقرة 10
[13] صحيح البخاري، حديث 393
[14] صحيح مسلم، حديث 368، وصحيح البخاري، حديث 331
[15] رسالة في رعاية المصلحة، مصدر سابق، ص138، وانظر ايضاً كتابنا: فهم الدين والواقع، دار الهادي، بيروت، الطبعة الاولى، 2005م، ص103
[16] صحيح مسلم، حديث 368، وصحيح البخاري، حديث 340