يحيى محمد
ان من شروط الصحيح لدى البخاري ومسلم هو ان يكون اسناد الحديث متصلاً وان يتصف الراوي بصفات الصدق والعدالة والضبط وسلامة الاعتقاد مع عدم التدليس والاختلاط، ورغم هذا الاتفاق بينهما الا انهما اختلفا حول بعض الشروط الخاصة بطبقات الرواة. فهناك اعلى الطبقات التي تمتاز بالحفظ والاتقان[1]، ثم يتنزل الامر حتى الوصول الى الطبقات الضعيفة التي لا يعول عليها. ويمكن ايضاح ذلك بما قدمه بعض الحفاظ من مثال حول اصحاب الزهري، وهم على خمس طبقات لكل منها مزية على التي تليها. فالطبقة الاولى تجمع بين طول الملازمة للزهري وبين الحفظ والإتقان، وهي تعد الغاية في الصحة والتي قصدها البخاري، ومن امثالها كل من يونس بن يزيد وعقيل بن خالد الايليين ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وشعيب بن أبي حمزة . وتتصف الطبقة الثانية بانها تشارك الاولى في التثبت لكنها دونها في الاتقان، وذلك لانها لم تلازم الزهري الا مدة يسيرة فلم تمارس الحديث مثل الاولى، وهذه الطبقة هي شرط مسلم، ومن امثالها كل من الأوزاعي والليث بن سعد وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر وابن أبي ذئب. وهناك طبقة ثالثة كانت ممن لزمت الزهري كالطبقة الاولى، الا انها لم تسلم من غوائل الجرح، فهم بين الرد والقبول، وهي شرط ابي داود والنسائي، ومن امثالها كل من جعفر بن برقان وسفيان بن حسين وإسحاق بن يحيى الكلبي. وكذا هناك طبقة رابعة تشترك مع الطبقة الثالثة في الجرح والتعديل، لكنها لم تصاحب الزهري كثيراً وتفردت بقلة ممارستها لحديثه، وهي شرط ابي عيسى الترمذي الذي اعتمدها في الشواهد والمتابعات، ومن امثالها كل من زمعة بن صالح ومعاوية بن يحيى الصدفي والمثنى بن الصباح. اما الطبقة الخامسة فهي نفر من الضعفاء والمجهولين، نحو عبد القدوس بن حبيب والحكم بن عبد الله الأيلي ومحمد بن سعيد المصلوب. وتعد الطبقة الاولى شرط البخاري، وقد يخرج من حديث أهل الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب، وهي التي يعتمدها في التعليق، كما قد يخرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقاً أيضاً. أما مسلم فيخرج أحاديث الطبقتين الأولتين على سبيل الاستيعاب، ويخرج أحاديث الطبقة الثالثة على النحو الذي يصنعه البخاري في الثانية[2]، ويتضح ذلك من العلامات التالية:
1ـ ان الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم اكثر من (430) رجلاً، وقد نقد الحفاظ منهم (80) رجلاً عدوا ضعفاء . اما الذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري فهم (620) رجلاً، وقد نقد الحفاظ منهم (160) رجلاً وصفوهم بالضعف[3].
2ـ ان اكثر الذين نقدوا من رجال البخاري ممن انفرد بتخريج أحاديثهم هم شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم، وذلك بخلاف الرجال الذين نقدوا ممن انفرد مسلم بتخريج أحاديثهم، حيث اكثرهم ممن تقدم عن عصره. ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم منهم[4].
3ـ ان الإسناد المعنعن عند مسلم - كما حكاه في مقدمة صحيحه - له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن ومن عنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما، وذلك ما لم يكن المعنعن مدلساً. وبعبارة اخرى ان مسلماً لم يشرط ثبوت اللقاء، بل اشرط امكان لقاء من اضيفت اليه العنعنة. اما البخاري فهو انه يشرط ثبوت اللقاء ولا يعول على امكانه؛ لانه لا يدل على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة. وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه[5]، وذلك على شاكلة كل من علي بن المديني وابي بكر الصيرفي الشافعي[6]، وهذا التشديد من قبل البخاري جعل مسلماً يعرّض به في النقد دون ذكر اسمه، فقد ذكر في مقدمة صحيحه ضمن باب (صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن) معتبراً ان ذلك الشرط - الذي وصفه بالطعن في الاسانيد - هو قول مخترع ومستحدث لم يسبق ان عوّل عليه اهل العلم من قبل، وهو أقل من أن يعرج عليه ويثار ذكره لما فيه مخالفة مذهب العلماء[7]. فبحسب ادعاء مسلم ان الاجماع قائم على ان المعاصرة كافية ولا يتوقف الامر على العلم باللقيا[8].
مع انه سواء اخذنا بما ذهب اليه مسلم او حتى بما اشرطه البخاري من شرط ثبوت اللقاء، ففي كلا الحالين ليس هناك ما يدل على السماع المباشر، كما لا توجد قرينة خارجية تدل عليه؛ مثل ان يدلي الراوي بأن عنعنته تفيد السماع المباشر اختصاراً للثنا كلفظة حدثنا او اخبرنا.
4ـ لقد بلغت الأحاديث التي انتقدت في الصحيحين (210) حديث، اختص البخاري منها بـأقل من ثمانين حديث منفرداً، والباقي يختص بمسلم. اما ما اختص به البخاري وشاركه مسلم في بعضها فهي (110) حديث، حيث اختص البخاري منها منفرداً بـ (78)، وشاركه مسلم بـما تبقى، وهو (32) يضاف الى ما اختص به مسلم منفرداً[9]. فيكون مجموع ما يتعلق بمسلم (132) حديث. وبالتالي فاكثر الاحاديث التي انتقدت هي في صحيح مسلم لا البخاري. ونقل ان مسلماً اقر بفضل البخاري ومكانته في الحديث، وانه اقدم عليه فقبّل ما بين عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله[10]. والعلماء يقدرون حجم ما استفاده مسلم من البخاري، حتى كان الدارقطني يقول: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء[11]. وإن كان من جهة اخرى ان مسلماً لم يذكر للبخاري حديثاً ولا سماه في صحيحه[12]، بل اعتبر ابو بكر الخطيب ان مسلماً لحدة في خلقه انحرف عن البخاري فافتتح كتابه بالحط على من اشترط اللقاء لمن روى عنه بصيغة (عن) ووبخ من قال بذلك، والبخاري هو القائل بذلك مع شيخه علي بن المديني[13].
5ـ لقد وجد كتاب البخاري استحساناً لدى فرسان الحديث في زمانه عند عرضه عليهم، لكن الامر مع صحيح مسلم يختلف، ذلك ان البعض انتقده كما هو الحال مع ابي زرعة الرازي وغيره، فقد ذم ابو زرعة مسلماً وقال عند ذكر كتابه: هؤلاء قوم ارادوا التقدم قبل اوانه فعملوا شيئاً يتسوقون به، الفوا كتاباً لم يسبقوا اليه ليقيموا لانفسهم رياسة قبل وقتها. وان ابا زرعة جاء ذات يوم فنظر في الكتاب فوقعت عينه على حديث عن اسباط بن نصر، فقال: ما يعد هذا من الصحيح يدخل في كتابه اسباط بن نصر، ثم رأى في الكتاب قطن بن نسير فقال: وهذا اطم من الاول، حيث ان قطن وصل أحاديث عن ثابت جعلها عن انس، ثم انه اشار الى احمد بن عيسى بانه من المتهمين بالكذب وقد اورده مسلم في صحيحه، فقال ابو زرعة: أيحدث عن هؤلاء ويترك محمد بن عجلان ونظراؤه؟ ويطرق لاهل البدع عليها فيجدوا السبيل بأن يقولوا للحديث اذا احتج عليهم به: ليس هذا من كتاب الصحيح[14] . كما جاء ان مسلماً لما وضع كتابه الصحيح عرضه على ابي زرعة فانكر عليه هذا الاخير وتغيظ، وقال سميته الصحيح فجعلت سلماً لاهل البدع وغيرهم، فاذا روى لهم المخالف حديثاً يقولون هذا ليس في صحيح مسلم![15]!
بمثل هذه المقارنة استنتج علماء الحديث ان كتاب البخاري اصح من كتاب مسلم، وان كانت عبارات القليل منهم تفيد تفضيل كتاب مسلم، كما هو الحال مع ما ورد عن ابي علي النيسابوري وجماعة من علماء المغرب. فقد قال النيسابوري: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج. وقد رأى ابن حجر ان النيسابوري قدم صحيح مسلم على غيره لاعتبارات فنية لا علاقة لها بدرجة الصحة، بل لأن مسلماً صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الاحكام الفقهية والسيرة والتفسير ليبوب عليها؛ والذي لزم منه تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتون، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات، حيث لم يعرج عليها الا نادراً وعرضاً غير مقصود، وانه اراد تقريب السنة النبوية الى الاذهان وتسهيل الاستنباط منها[16]. وعلى مثل هذه الصورة يمكن تفسير قول مسلم بن قاسم القرطبي في ترجيح كتاب مسلم على غيره باطلاق، حيث اعتبره ابن حجر انه محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب[17]. كما ذهب ابن الصلاح الى ان صحيح مسلم يفضل صحيح البخاري في بعض الامور، وهو ان كتاب مسلم لم يمازجه غير الصحيح، اذ ليس فيه بعد خطبته الا الحديث الصحيح مسروداً غير ممزوج، وذلك بخلاف ما في كتاب البخاري من أشياء لا تتصف بالشرط الذي اشرطه على نفسه، كالمعلقات وما اليها. لكن لا يلزم ذلك - على رأيه - ترجيح كتاب مسلم على كتاب البخاري من حيث النظر الى نفس الصحيح ودرجته[18].
[1] تعد صفة الحافظ من اعلى المراتب، فقد يمتاز الثقة بالضبط والاتقان لكنه لا يكون حافظاً ما لم يضف الى ذلك المعرفة والإكثار. والحفاظ طبقات، وهي بحسب تحديد الذهبي كالاتي: في ذروتها أبو هريرة، وفي التابعين كابن المسيب، وفي صغارهم كالزهري، وفي أتباعهم كسفيان وشعبة ومالك، ثم ابن المبارك ويحيى بن سعيد ووكيع وابن مهدي، ثم أصحاب هؤلاء كابن المديني وابن معين وأحمد وإسحاق، ثم البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي داود ومسلم، ثم النسائي وموسى بن هارون وصالح جزرة وابن خزيمة، ثم ابن الشرقي (المـوقظـة في علم مصطلح الحـديث، فقرة الثقة).
[2] شروط الائمة الخمسة، ص43ـ47، ومقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.}. ويمكن القول أن البخاري يخرج من أحاديث الطبقة الثانية انتقاء، اما مسلم فيخرجها أصولاً. وأما الطبقتان الرابعة والخامسة فلا يعرج عليهما الشيخان. وبهذا يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالاً وأشد اتصالاً { مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.
[3] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني. وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، ج1، ص40
[4] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني. وتوضيح الأفكار، ج1، ص41
[5] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.
[6] صحيح مسلم بشرح النووي، ج1، ص32
[7] مقدمة صحيح مسلم، ضمن الباب المذكور
[8] اعلام النبلاء، ج12، ص573
[9] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني. وتوضيح الأفكار، ج1، ص41.
[10] طبقات الحنابلة، ج2، مادة: محمد بن إسماعيل البخاري، ودليل أرباب الفلاح.
[11] توضيح الأفكار، ج1، ص41
[12] ظن ابن الصلاح ان مسلماً اخذ عن البخاري واستفاد منه وشاركه في كثير من شيوخه (مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني) وهو خلاف ما نص عليه الخطيب البغدادي. ومعلوم ان البخاري هو ايضاً لم يرو عن مسلم شيئاً
[13] اعلام النبلاء، ج12، ص573
[14] شروط الائمة الخمسة، ص60، وجاء عن مسلم انه قال: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته (مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثامن).
[15] الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، ص592، وتعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص62.
[16] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني. وحجة الله البالغة، ج1، ص151
[17] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.
[18] مقدمة فتح الباري، ضمن الفصل الثاني.