يحيى محمد
ترد جملة من الروايات التي تسقط الصفات البشرية على الباري جل وعلا، وقد ذهب بعض السلف الى اثباتها بالقرآن الكريم، حيث جاء عن سلام بن أبي مطيع - وهو شيخ شيوخ البخاري - أن رد على الناكرين لها بقوله: ويلهم ماذا ينكرون من هذه الاحاديث؟ والله ما في الحديث شيء الا وفي القرآن مثله، يقول الله تعالى: ان الله سميع بصير.. ويحذركم الله نفسه.. والارض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.. ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي.. وكلم الله موسى تكليماً.. الرحمن على العرش استوى.. ونحو ذلك. وقيل ان هذا الشيخ لم يزل يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس[1].
مع انه لم يرد من الصفات في القرآن ذكر الاصابع ولا القدم ولا الرجل ولا الصورة ولا الهرولة ولا النزول ولا الضحك ولا التردد ولا العجب ولا الغيرة، وهي الصفات التي وردت في الصحيحين، دعك عن سائر الصفات التي لم ترد فيهما. اما ما ورد في القرآن من صفات (التشبيه) فهي مجملة غير صريحة ولا مفصلة كتلك التي وردت في الروايات، وبعضها ظاهر انه لا يفيد المعنى الحقيقي للفظ، كالوجه واليد والعين، وبعض الالفاظ او الصفات لم ترد اضافته الى الله في القرآن، كلفظ الساق في قوله تعالى: ((يوم يكشف عن ساق ويدعون الى السجود فلا يستطيعون)) (القلم/42) وذلك بخلاف ما ورد في الاحاديث، وهي ايضاً مؤولة بحسب ما جاء عن بعض الصحابة والتابعين[2]، وبعض اخر يمكن ان يفهم خلاف الظاهر بحسب لحاظ الاساليب المستخدمة في القرآن ذاته، وكذا بحسب الاستخدام اللغوي المتعارف عليه، كالاتيان والمجيء والاستواء على العرش والكرسي، بدلالة ما عرف عن بعض الصحابة والسلف من تأويل هذه الصفات طبقاً للاستخدام القرآني تارة، واللغوي تارة اخرى، او لاعتبارات اخرى عقائدية وغيرها.
ومن ذلك ما نقل عن ابن حنبل انه فسّر الاتيان في قوله تعالى: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام)) (البقرة/210) بانه قدرته وأمره، مثلما هو موضح في قوله تعالى: ((أو يأتي أمر ربك)) وكذا فان معنى المجيء في قوله تعالى: ((وجاء ربك)) (الفجر/22) هو قدرته[3]. وفي رواية اخرى عن ابن حنبل ان المقصود بالاية هو جاء ثوابه[4].
كما روي عن ابن عباس انه قام بتأويل لفظة الكرسي في اية ((وسع كرسيه السموات والارض)) بانه العلم[5]. وكذا اورد الطبري معاني كثيرة للفظ الاستواء المستخدمة في اللغة عند العرب[6].
ويشير البعض الى ان الصفات المذكورة في القرآن لها دلالة واضحة على المعنى الحقيقي للاثبات، خاصة فيما يتعلق بصفة العلو التي دلل عليها بعدد من الايات التي بعضها يسند البعض الاخر، حيث قال الله جلّ وعلا: ((الرحمن على العرش استوى)) (طه/5) وقال: ((خلق السموات والأرض في ستة ايام ثم استوى على العرش)) في سبعة مواضع، وقال تعالى: ((يخافون ربهم من فوقهم)) (الأعراف/54) وقال: ((إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)) (فاطر/10) وقال: ((بل رفعه الله إليه)) (النساء/158) وقال: ((أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء ان يرسل عليكم حاصباً)) (الملك/16ـ17) وقال ((قل نزّله روح القدس من ربك بالحق)) (النحل/102) وقال: ((من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) (المعارج/4) وقال عن فرعون: ((يا هامان ابن لي صرحاً لعليّ أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباًً)) (غافر/36ـ37) وهذا يدل على أن موسى أخبره بأن ربه تعالى فوق السماء ولهذا قال وإني لأظنه كاذباً، ثم ان الرسول (ص) لما أراد الله ان يخصه بقربه عرج به من سماء إلى سماء حتى كان قاب قوسين أو أدنى[7].
بالفعل ان معنى العلو والفوقية المكانية ظاهر لا غبش فيه.. لكن لم ينحسم الامر بعد! حيث انه معارض بمعنى اخر ظاهر في ايات اخرى، مثل قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) (ق/16) وقوله: ((الم تر ان الله يعلم ما في السماوات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم، ولا خمسة الا هو سادسهم، ولا ادنى من ذلك ولا اكثر الا هو معهم أين ما كانوا)) (المجادلة/7) وقوله: ((وهو معكم أين ما كنتم)) (الحديد/4) وقوله: ((وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله)) (الزخرف/84) وقوله: ((وهو الله في السماوات وفي الارض)) (الأنعام/3) وقوله: (( ألا إنه بكل شيء محيط)) (فصلت/54)... الخ.
والعديد من السلف واتباعهم من البيانيين اخذوا يعتمدون على الظهور الخاص بالمجموعة الاولى من الايات، ويأولون المجموعة الثانية، في حين التزم اغلب المتكلمين بتأويل كلا المجموعتين من الايات، بينما سلك العرفاء مسلكاً مضاداً وذلك بالاخذ بظاهر جميع هذه الايات لاعتقادهم بوحدة الوجود، وانها على رأيهم تدل على هذا المعنى كالذي يشير اليه ابن عربي في عدد من نصوصه، حيث يرى ان دلالات تعدد تقييده وتحديده بالامكنة، وكذلك تنزيهه احياناً، كلها تفيد عدم التقييد والتحديد[8].
ومن الطريف ان الجهمية - اصحاب جهم بن صفوان وقد عرفوا بكثرة التأويل - يعولون على ظواهر تلك الايات، ومنها ايات المعية ضمن المجموعة الثانية، في حين يقوم السلف واهل البيان بتأويلها، فالجهمية تقول بان الله في كل مكان، ويستشهدون بقوله تعالى: ((وهو معكم أينما كنتم)) في حين ان السلف يأولون هذه الاية بان معناها ان الله مع الجميع بعلمه لا بذاته[9]، حتى قال نعيم بن حماد عنها بان معناها هو انه لا يخفى عليه خافية بعلمه، مثل قوله: ((ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم))[10]، وسئل سفيان الثوري عنها فأجاب: بعلمه[11].
اذن ليس في القرآن الدلالة الصريحة على ما جاء في الروايات من معاني التشبيه في الصفات، ويكفي ان ايات التنزيه في القرآن قوية ومحكمة لا تتسق ومثل تلك المعاني. ويخطئ من يرى هذه المعاني صحيحة لكن من غير تشبيه ولا تكييف كما ورد عن جماعة من السلف والمتأخرين. اذ يمكن ان يقال ذلك فيما ورد من الصفات الموهمة للتشبيه في القرآن لا الحديث، وذلك باعتبار ان الاول مجمل بخلاف الاخر الذي اخذ على عاتقه التفصيل.
على ان بعض ائمة الحديث انكروا عدداً من الاحاديث انكاراً شديداً، ربما لما تبديه من التشبيه والتجسيم. فعلى ما رواه الضراب عن عبد الرحمن بن القاسم انه قال: سألت مالك بن انس عمن حدّث بالحديث (إن الله خلق آدم على صورته) والحديث الذي جاء (إن الله يكشف عن ساقه وأنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد) فأنكر مالك ذلك انكاراً شديداً ونهى أن يحدث بها أحد، فقيل له إن ناساً من أهل العلم يتحدثون به، فقال من هو؟ قيل ابن عجلان عن أبي الزناد، قال: لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الاشياء، ولم يكن عالماً، وذكر أبا الزناد فقال: لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات[12]. وروى الضراب قول مالك هذا عن طريق ابن وهب ايضاً[13].
كذلك تمنى بعض رجال السلف ان يترك أصحاب الحديث عشرة أحاديث في الرؤية، كالذي يروى عن يحيى بن صالح، وعلق عليه احمد بن حنبل بقوله: كأنه نزع إلى رأي جهم[14]. ومن الحنابلة من لم يتقبل أحاديث الصفات؛ لكونها أخبار آحاد، كما هو الحال مع ابن سنينة (المتوفى سنة 610هـ)[15].
[1] فتح الباري، ج13، ص304
[2] جاء عن ابن عباس ان لفظ الساق في الاية له دلالة عن شدة من الامر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه قد سن أصحابك ضرب الاعناق وقامت الحرب بنا على ساق. وجاء عن أبي موسى الاشعري في تفسير الساق انه نور عظيم. قال ابن فورك: معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والالطاف، وقال المهلب: كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة، وقال الخطابي: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس ان الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة (فتح الباري، ج13، ص359، والنووي: المنهاج شرح صحيح مسلم، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج1، كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية (لم تذكر ارقام صفحاته). ودفع شبه التشبيه، ص118). وقد روي عن عدد من التابعين وغيرهم ان المقصود بالساق في الاية المذكورة هو الشدة، كالذي عليه مجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء (دفع شبه التشبيه، ص118).
[3] دفع شبه التشبيه، ص141
[4] البداية والنهاية، ج10، ص361
[5] علق الطبري على ذلك بقوله: أصل الكرسي العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كراسة، ومنه قول الراجز في صفة قانص: حتى إذا ما احتازها تكرسا يعني علم. ومنه يقال للعلماء: الكراسي، لانهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الارض، يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الارض، ومنه قول الشاعر: يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالاحداث حين تنوب، يعني بذلك علماء بحوادث الامور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شيء: الكرس، يقال منه: فلان كريم الكرس: أي كريم الارض (الطبري: جامع البيان، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج3، ص15ـ17).
[6] يقول الطبري: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل، ومنها استقامة ما كان فيه أود من الامور والاسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيم: طال على رسم مهدد أبده وعفا واستوى به بلده يعني: استقام به. ومنها الاقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الاحسان إليه. ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها. ومنها العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه (جامع البيان، ج1، ص276ـ277).
[7] الواسطي: النصيحة في صفات الرب جل وعلا، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص11ـ12
[8] مؤيد الدين الجندي: شرح فصوص الحكم، تعليق وتصحيح جلال الدين اشتياني، انتشارات دانشگاه مشهد، ايران، ص432، كذلك كتابنا: مدخل الى فهم الاسلام، طبعة مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 1999م، ص179
[9] سير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 402، وابن أبي شيبة: كتاب العرش، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص50
[10] سير اعلام النبلاء، ج10، فقرة 610ـ611.
[11] سير اعلام النبلاء، ج7، فقرة 274، وانظر حول ذلك ايضاً: ابن تيمية: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، المكتب الاسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1390هـ، ص96ـ97، ومحمد بن الموصلي: مختصر الصواعق المرسلة لإبن القيم الجوزية، تصحيح زكريا علي يوسف، مطبعة الامام 13، مصر، ص411.
[12] سير اعلام النبلاء، ج8، فقرة 103 و104
[13] السيف الصقيل، ص129ـ130
[14] سير اعلام النبلاء، ج10، فقرة 455
[15] ابن رجب الحنبلي: ذيل طبقات الحنابلة، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج2، فقرة محمد بن عبد الله بن الحسين السامري (لم تذكر ارقام صفحاته).