يحيى محمد
ان اكثر راو اعتمد عليه اصحاب الجوامع الحديثية هو علي بن ابراهيم وابوه ابراهيم بن هاشم القمي. فقد كان علي شيخاً للكليني وعاصر عدداً من الائمة المتأخرين، ويعد من اصحاب الامام الهادي وإن لم يثبت انه روى عنه شيئاً ولا عن غيره من الائمة مباشرة[1]. وبلغت رواياته في الكافي وحده اكثر من سبعة الاف (7068) رواية[2]، كان منها اكثر من ستة الاف (6214) رواية منقولة عن والده ابراهيم[3]. وقد وقع في اسناد كثير من الروايات تبلغ سبعة آلاف ومائة وأربعين (7140) مورداً[4]. وهو بنظر القدماء يعد من المشايخ الثقات، فقد عرفه النجاشي بانه ثقة في الحديث، ثبت معتمد صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنف كتباً وأضر في وسط عمره، وله كتاب التفسير والناسخ والمنسوخ وقرب الإسناد والشرائع.. الخ[5].
ووصلنا منه تفسيره للقرآن، وهو تفسير بالرواية عن الامام الصادق، وذكر في مقدمة الكتاب انه روى فيه عن الثقات من مشايخه وسائر الرواة حتى ينتهي الى الائمة، فقال: ‹‹ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي الينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم واوجب ولايتهم ولا يقبل عمل الا بهم››[6].
وقد اعتبر العديد من العلماء ان هذه الشهادة دالة على صحة صدور روايات التفسير عن الامام الصادق، كالذي صرح بذلك الحر العاملي ووافقه عليه العلامة الخوئي، حيث اعتبر أن كل من وقع في إسناد روايات تفسير علي بن إبراهيم المنتهية إلى المعصومين، قد شهد عليه هذا الشيخ بوثاقته. وعلق الخوئي بان علي بن إبراهيم انما اراد إثبات صحة تفسيره، وأن رواياته ثابتة وصادرة عن المعصومين، وإنها إنتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة، وعلى ذلك فلا موجب لتخصيص التوثيق بمشايخه الذين يروي عنهم بلا واسطة كما زعمه بعضهم. ومثل ذلك حكم المحقق الخوئي بوثاقة جميع المشايخ الذين وقعوا في (اسناد كامل الزيارات)[7].
لكن نظرة داخلية للتفسير تظهر ان راوي التفسير عن علي بن ابراهيم هو تلميذه ابو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى الكاظم، وقد مزجه بروايات اخرى عن الامام الباقر مروية عن طريق ابي الجارود. وقد اشار العلماء الى ان ابا العباس لم يذكر في كتب الرجال، وإن ذكر في كتب الانساب.
وشكك بعض المعاصرين بصحة التوثيق الوارد في مقدمة التفسير، وذلك لامتزاج التفسير بين ما يعود الى علي بن ابراهيم القمي وبين ما وضعه تلميذه بسنده الخاص الى الامام الباقر عن طريق ابي الجارود، وكذلك للشذوذ الوارد في متون الروايات، بل انه يبدي تشكيكه بصحة نسخة التفسير الواصلة الينا، تعويلاً على ما ذهب اليه بعض المحققين من ان النسخة المطبوعة تختلف عما نقل عن ذلك التفسير في بعض الكتب، منتهياً الى القول بعدم وجود ما يعتمد عليه من التوثيق سواء من حيث السند او المتن[8].
ولعل اهم ما جاء في هذا التفسير هو الطعن في القرآن والقول بتحريفه، تعويلاً على جملة من الروايات، كتلك التي يرويها علي بن ابراهيم عن الامام الصادق، وهي تتفق مع ما اورده الكليني عنه من روايات في الكافي تشير الى التحريف[9]، فمما جاء في التفسير عن علي بن ابراهيم ان البعض قرأ قوله تعالى: ((كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)) فقال ابو عبد الله الصادق لقارئ هذه الآية ((خير امة)) يقتلون امير المؤمنين والحسن والحسين بن علي عليه السلام؟ فقيل له وكيف نزلت يابن رسول الله؟ فقال: انما نزلت (كنتم خير ائمة اخرجت للناس). ومثل ذلك قرأ البعض قوله تعالى: ((الذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعلنا للمتقين اماماً)) فقال ابو عبد الله الصادق: لقد سألوا الله عظيماً ان يجعلهم للمتقين اماماً، فقيل له يابن رسول الله كيف نزلت؟ فقال انما نزلت (الذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعل لنا من المتقين اماماً). وكذا جاء في التفسير ان الامام الصادق اعترض على ما ورد في المصحف من قوله تعالى: ((له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله)) حيث قال: كيف يحفظ الشيء من امر الله؟ وكيف يكون المعقب من بين يديه؟ فقيل له: وكيف ذلك يابن رسول الله؟ فقال: انما نزلت (له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بامر الله). وعلى هذه الشاكلة جاء في التفسير ايات تشير الى التحريف مثل القول: (لكن الله يشهد بما انزل اليك في علي انزله بعلمه والملائكة يشهدون) والقول: (يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك في علي فان لم تفعل فما بلغت رسالته) والقول: (ان الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم) والقول: (وسيعلم الذين ظلموا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم) والقول: (وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم اي منقلب ينقلبون) والقول: (ولو ترى الذين ظلموا آل محمد حقهم في غمرات الموت)[10].
اما ابراهيم بن هاشم القمي والد علي المشار اليه قبل قليل فهو كوفي الاصل وقد ادرك الامامين الرضا والجواد وروى عن هذا الاخير بعض الروايات، وهو اول من نشر حديث الكوفيين في قم تبعاً لما اشار اليه الطوسي والنجاشي[11]، وقد روى عن مشايخ كثيرة يبلغ عددهم زهاء مائة وستين (160) شخصاً، وبلغت رواياته اكثر من ستة الاف واربعمائة (6414) رواية، ولا يوجد في الناقلين مثله في كثرة الرواية[12]. وقد روى عن محمد بن ابي عمير وحده ما يقارب ثلاثة الاف (2921) رواية[13].
لكن المشكلة هو انه لم ينص احد من القدماء على وثاقته؛ لا بالتعديل ولا بالتجريح والتضعيف، فقد قال العلامة الحلي عنه في (الخلاصة): لم أقف لاحد من أصحابنا على قول في القدح فيه، ولا على تعديل بالتنصيص والروايات عنه كثيرة، والارجح قبول روايته[14]. واعتبر الخوئي انه لا ينبغي الشك في وثاقته، ودلل على ذلك بثلاثة ادلة[15]، وهي قريبة مما ذكره بحر العلوم في فوائده الرجالية[16]: احدها ان ابن طاوس ادعى الاتفاق على وثاقته. ويرد على ذلك بانها مجرد دعوى تفتقر الى الدليل، حيث ان عصر ابن طاوس بعيد عن عصر القمي، ومثل هذا الادعاء يكون حدسياً غير قائم على الحس.
وثاني الادلة هو قوله بانه اول من نشر حديث الكوفيين بقم، والقميون قد اعتمدوا على رواياته، وفيهم من هو مستصعب في أمر الحديث، فلو كان فيه شائبة الغمز لما قبلوا رواياته، ولاسرعوا في قدحه وجرحه وهجره واخراجه كالذي يظهر منهم مع الاخرين بأدنى ريبة. بل ان من المتأخرين من اعتبر العبارة التي نص عليها القدماء من انه اول من نشر أحاديث الكوفيين بقم، هي عبارة دالة على المدح، كالذي نص عليه الداماد معتبراً هذه العبارة كلمة جامعة، وكل الصيد في جوف الفرا[17].
لكن هذا الدليل غير تام، اذ ما يشار اليه عادة من تحفظ القميين هو تحفظهم من المغالين في الائمة او المعروفين بالكذب ووضع الحديث، وان التضعيف لديهم عادة ما يأتي بهذا الطريق، كالذي يظهر مما ينقله ابن الغضائري في رجاله، والذي استند اليه من جاء بعده من اصحاب الرجال كابن داود وغيره، حيث ذكر الكثير من الرجال الذين غمز القميون عليهم بالغلو والارتفاع وفساد المذهب، مثل أحمد بن الحسين بن سعيد وأحمد بن محمد بن سيار وأمية بن علي القيسي والحسن بن علي بن أبي عثمان والحسين بن شادويه القمي وسهل بن زياد الرازي والقاسم بن الحسن بن علي بن يقطين ومحمد بن أحمد الجاموراني ومحمد بن علي بن إبراهيم الملقب بأبي سمينة ويوسف بن السخت ومحمد بن أورمة القمي وغيرهم[18]. فمثلاً جاء حول ابن أورمة القمي ان القميين غمزوا عليه ورموه بالغلو حتى دس عليه من يفتك به، فوجدوه يصلي من اول الليل الى اخره فتوقفوا عنه[19]. كما جاء عن ابي سمينة انه كان من الغلاة الكذابين، وبعد أن اشتهر بالكذب في الكوفة انتقل إلى قم، ونزل على أحمد بن محمد بن عيسى، ثم اشتهر بالغلو فأخرجه أحمد من قم[20].
في حين ان من الرواة من سكن قم وروى عنه القميون رغم ما قيل فيه انه ضعيف جداً لا يلتفت إليه، وفي مذهبه غلو مثل عبد الرحمن بن أبي حماد[21]. بل ان القدماء كما قيل لا يتحاشون عن الرواية عن الضعفاء والمجاهيل فيما لا يتعلق بالحرام والحلال، وان منهم من كان موضع اعتماد القميين وروايتهم عنه[22].
أما ما حدث لأحمد بن محمد بن خالد البرقي حيث ابعده عن قم رئيس القميين احمد بن محمد بن عيسى، وقد جاء ان سبب الابعاد يرجع الى كونه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، ويعود مصدر هذا التعليل الى ابن الغضائري حيث صرح في كتابه (الضعفاء) ان البرقي طعن القميون عليه، وليس الطعن فيه، إنما الطعن فيمن يروي عنه، فإنه كان لا يبالي عمن يأخذ على طريقة أهل الأخبار وكان أحمد بن محمد بن عيسى أبعده عن قم ثم أعاده إليها واعتذر إليه[23]، وقيل ان أحمد بن محمد بن عيسى مشى في جنازته حافياً حاسراً تنصلاً مما قذفه به[24]. مع ان اعادته الى قم واعتذار رئيس القميين اليه لا يتسق مع التعليل الذي ابداه ابن الغضائري، فالامر لا يتعلق بكونه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، والا لما ارجعه واعتذر اليه، بل يتعلق بشيء اخر ظنه رئيس القميين في البرقي لكن ظهر انه لم يثبت عنده، وغالب الظن ان ذلك يتعلق بمسألة الغلو التي كان القميون يولونها جل اهتمامهم في التوثيق، وقد عرف عن هذا الرئيس اخراجه لعدد من العلماء من قم بعلة الغلو والكذب في الرواية، ومن بينهم سهل بن زياد وغيره. حتى اعتبر بعض المتأخرين ان ‹‹حال القميين - سيما ابن عيسى - في التسرع إلى الطعن والقدح والاخراج من قم بالتهمة والريبة، ظاهر لمن راجع الرجال››[25]. كما اعتبر بعض اخر انه قد يكون منشأ جرح القميين للرواة نابعاً عما تتضمنه روايتهم من معاني الغلو والارتفاع والمناكير، بل وان بعض القميين قد ينسبون الراوي الى الكذب ووضع الحديث بعد اتهامه بالغلو، وذلك اعتماداً على روايته التي تتضمن هذا المعنى[26].
يبقى الدليل الثالث فهو ان ولده علياً قد نص على وثاقة مشايخه في مقدمة تفسيره، وكان على رأس هؤلاء المشايخ والده ابراهيم حيث روى عنه معظم كتابه من الاحاديث، مما يدل على كونه ثقة لدى ابنه، والا لما اعتمد عليه في الرواية.
لكن لو اخذنا بالتوثيق الذي ادلى به الابن، لكان يعني التسليم بصحة التفسير رغم ما فيه من روايات عديدة تشير الى تحريف القرآن صراحة، فضلاً عما ورد فيه من روايات اسطورية، والعجيب رغم ان العلامة الخوئي لا يقر القول بتحريف القرآن كما ابان ذلك في بعض كتبه[27]، الا انه مع ذلك يرى تفسير علي ابن ابراهيم تفسيراً صحيح الصدور باعتبار التوثيق الذي ذكره صاحبه في المقدمة، مع ان قوله هذا يناقض متبناه، وذلك لان تصحيح التفسير يعني قبول مقولة التحريف كما هو واضح.
وبيت القصيد من كل ما عرضناه في هذه الفقرة هو اننا بين امرين: إما قبول كون التفسير مروياً عن الامام الصادق حسب روايات علي بن ابراهيم رغم ما فيه من القول بالتحريف وسائر الاساطير، او التشكيك فيه ومن ثم التشكيك في وثاقة ابراهيم بن هاشم القمي وتضعيف رواياته على ضخامة عددها كما قدمنا.
[1] معجم رجال الحديث، ج12، ص208
[2] المصدر السابق، ج19، ص59
[3] المصدر السابق، ج1، ص292، وج12، ص213
[4] المصدر السابق، ج12، ص213
[5] رجال النجاشي، ص260
[6] تفسير القمي للقرآن، مكتبة: الكوثر الالكترونية، ج1، ص4
[7] معجم رجال الحديث، ج1، ص49ـ50
[8] كليات في علم الرجال، ص316ـ317
[9] لاحظ مثلاً: الاصول من الكافي، ج1، كتاب الحجة، نكت ونتف من التنزيل في الولاية، الاحاديث المرقمة: 25 و26 و27 و47
[10] تفسير القمي، ج1، ص6ـ11
[11] فهرست الطوسي، ص4، ورجال النجاشي، ص16، كذلك: خلاصة الاقوال، ص49، ومعالم العلماء، ص40
[12] معجم رجال الحديث، ج1، ص290 و291
[13] معجم رجال الحديث، ج1، ص292
[14] خلاصة الاقوال، فقرة 9، ص49، وانظر ايضاً: بحر العلوم: الفوائد الرجالية، ج1، ص464
[15] معجم رجال الحديث، ج1، ص291
[16] الفوائد الرجالية، ج1، ص462ـ464
[17] الرواشح السماوية، مصدر سابق، ص48
[18] الفقرات الواردة بالاسماء المذكورة نقلاً عن رجال ابن الغضائري، لاحظ: القهپائي: مجمع الرجال، ج1، عن مكتبة اهل البيت الالكترونية : www.ahl-ul-bayt.org/newlib/Rejal/Ghazaery ، وانظر ايضاً: ابن داود: كتاب الرجال، مكتبة الجعفرية الالكترونية، الفقرات المرقمة: 423 و431 و469 و486 وغيرها.
[19] رجال النجاشي، ص329، كذلك: مجمع الرجال، ج1، فقرة محمد بن أورمة أبو جعفر القمي.
[20] خاتمة المستدرك، ج4، ص14
[21] مجمع الرجال، ج1، فقرة عبد الرحمن بن أبي حماد.
[22] نهاية الدراية، ص416
[23] مجمع الرجال، ج1، فقرة أحمد بن محمد بن خالد.
[24] ابن داود: كتاب الرجال، فقرة 122
[25] بحر العلوم: الفوائد الرجالية، ج3، ص23ـ25
[26] الوحيد البهبهاني: الفوائد الرجالية، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص38ـ39
[27] ابو القاسم الخوئي: البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء، بيروت، الطبعة الاولى، 1412هـ ـ1992م، ص197 وما بعدها.