يحيى محمد
المعروف ان العلماء المتأخرين قد ارتبطوا بالطوسي اكثر من غيره في معرفة حال المتقدمين، فقد اعتبروه حلقة الوصل بين المتأخرين والمتقدمين من اصحاب الاصول الاربعمائة، وذلك لكثرة ممارسته التوثيق في كتب الحديث والفقه التي ألفها، ولهيمنة شخصيته على من جاء بعده من العلماء في مختلف العلوم النقلية؛ حتى أصبح تقليده من المسلمات خلال قرن من الزمان تقريباً. فقد كانت توثيقاته وفتاويه هي العمدة لمن جاء بعده، واعتبر العلماء ان اصول المذهب كلها راجعة اليه، خاصة وقد انقطعت السلسلة بعده فاصبح اغلب الناس يقلدونه ويعملون بفتاويه، بل ويستدلون بها كما يستدل بالرواية على ما صرح به ابن ادريس الحلي وغيره. فهم حين يذكرون طرقهم الى أرباب الاصول والكتب المعاصرين للائمة يتوسلون بطرقهم الى الطوسي ثم يحيلون الامر بعد ذلك الى طرقه[1].
لكن مع ان الطوسي هو الرابط الاعظم بين المتأخرين والمتقدمين كما عرفنا، الا ان فيه جملة من نقاط الضعف والتناقض، الى الدرجة التي قد يصعب معها الاعتماد عليه في التوثيق والنقل والادعاء. فقد وصفه البعض بانه كان يضعف الرجل في موضع ويوثقه في موضع اخر، واراؤه في هذا وغيره لا تكاد تنضبط[2]. ومن ذلك انه كان يصرح بصحة الاعتماد على روايات اصحاب العقائد المنحرفة ما لم يعرفوا بالكذب[3]، وهو في مقدمة (الفهرست) اشار الى ان الكثير من ارباب الاصول هم ذوي عقائد فاسدة وان كانت كتبهم معتمدة، لكنه مع هذا لا يتقبل احياناً روايات بعض الثقات منهم بعلة الانحراف في المذهب والاعتقاد، كما هو الحال في طرحه بعض الاخبار التي رواها سماعة معللاً ذلك بانه واقفي، وقد عرف الرجل بقوة الوثاقة والجلالة[4]. وفي كتابه (الرجال) تارة انه يذكر الرجل في رجال احد الائمة، وأخرى في رجال غيره، وثالثة فيمن لم يرو. فمثلاً انه ذكر يحيى بن زيد بن علي بن الحسين مع أصحاب الصادق ومع أصحاب الكاظم مع أنه استشهد في زمان الصادق، وذكر قتيبة بن محمد الاعشى مرة في رجال الصادق، وأخرى فيمن لم يرو، وكذا ذكر كليب بن معاوية الاسدي مرة في أصحاب الباقر، ومرة في أصحاب الصادق، وأخرى فيمن لم يرو، والشيء نفسه مع فضالة بن أيوب فانه ذكره تارة في أصحاب الصادق، وأخرى في أصحاب الرضا، ومرة فيمن لم يرو، ومثل ذلك محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين، حيث ذكره مرة في أصحاب الرضا، ومرة في أصحاب الهادي، وأخرى في أصحاب العسكري، ومرة فيمن لم يرو، ومثله القاسم بن عروة، حيث ذكره مرة في أصحاب الصادق، وأخرى فيمن لم يرو، وعلى هذه الشاكلة رجال مثل معاوية بن حكيم والقاسم بن محمد الجوهري وغيرهم. مع أنه أخذ على نفسه في أول كتابه أن يذكر أصحاب النبي (ص) والائمة (ع) الى القائم الذين رووا عنهم كلاً في بابه، ثم يذكر من تأخر عنهم من رواة الحديث أو عاصرهم، ومن لم يرو عنهم. مع هذا احتمل بعض العلماء صدق ما ذكره الطوسي بحسب التأويل وخلاف الظاهر، وهو انه قد يصحب الرجل الواحد إمامين أو ثلاثة فيذكره في رجال الكل، وربما يصحب ولا يروي فيذكره في الاصحاب وفيمن لم يرو[5].
وتبعاً للاضطراب المعروف عن الطوسي فقد نقل الخوانساري كلاماً للمحقق اسماعيل الخاجوئي يقول فيه: ‹‹لا يسوغ تقليد الشيخ (الطوسي) في معرفة احوال الرجال، ولا يفيد اخباره بها ظناً، بل ولا شكاً في حال من الاحوال، لان كلامه في هذا الباب مضطرب، ومن اضطرابه انه يقول في موضع ان الرجل ثقة، وفي اخر انه ضعيف، كما في سالم بن مكرم الجمال، وسهل بن زياد من رجال علي بن محمد الهادي (ع). وقال في (الرجال): محمد بن علي بن بلال ثقة، وفي كتاب (الغيبة) انه من المذمومين، وفي عبد الله بن بكير: انه ممن عملت الطائفة بخبره بلا خلاف، وكذا في (العدة) وفي (الاستبصار) في اواخر الباب الاول من ابواب الطلاق منه صرح بما يدل على فسقه وانه يقول برأيه، وفي عمار الساباطي انه ضعيف لا يعمل بروايته، وكذا في (الاستبصار) وفي (العدة) ان الطائفة لم تزل تعمل بما يرويه، وامثال ذلك منه كثير جداً. وانا الى الان لم اجد احداً من الاصحاب غير الشيخ في هذا الكتاب يوثق علي بن ابي حمزة البطائني، او يعمل بروايته اذا انفرد بها، لانه خبيث واقفي كذاب مذموم... ومن اضطرابه انه رحمه الله تارة يشترط في قبول الرواية الايمان والعدالة، كما قطع به في كتبه الاصولية، وهذا يقتضي ان لا يعمل بالاخبار الموثقة والحسنة، واخرى يكتفي في العدالة بظاهر الاسلام، ولم يشترط ظهورها؛ ومقتضاه العمل بهما مطلقاً كالصحيح. ووقع له في الحديث وكتب الفروع غرائب، فتارة يعمل بالخبر الضعيف، حتى انه يخصص به اخباراً كثيرة صحيحة حيث يعارضه باطلاقها، وتارة يصرح برد الحديث لضعفه، واخرى يرد الصحيح معللاً انه خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً كما عليه المرتضى علم الهدى واكثر المتقدمين››[6].
كما عرّضه الشيخ يوسف البحراني الى النقد، فذكر انه قد وقع للشيخ الطوسي، سيما في التهذيب ‹‹من السهو والغفلة والتحريف والنقصان في متون الاخبار واسانيدها، وقلما يخلو خبر من علة من ذلك كما لا يخفى على من نظر في كتاب (التنبيهات) الذي صنفه العلامة السيد هاشم في رجال التهذيب، وقد نبهنا في كتابنا (الحدائق الناضرة) على ما وقع له من النقصان في متون الاخبار، حتى ان كثيراً ممن يعتمد في المراجعة عليه ولا يراجع غيره من كتب الاخبار وقعوا في الغلط وارتكبوا في التفصي منه الشطط كما وقع لصاحب (المدارك) في مواضع من ذلك››[7].
وعموماً ان ما ورثه المتأخرون عن معرفة المتقدمين هي تلك التي قدمها لهم الطوسي ومعاصره النجاشي رغم الفاصلة الكبيرة التي تفصل زمانهما عن عصر المتقدمين، وعادة ما تكون سلسلة السند في توثيقات هذين الرجلين للرواة طويلة تبعاً لتعدد الوسائط من خبر الواحد، وهي في النتيجة لا تعطي المادة الكافية. واذا عرفنا ان اغلب نصوص الحديث رويت عن الامام الصادق، فان الفاصلة التي تفصل بين عصر هذا الامام وعصر النجاشي والطوسي تقارب الثلاثمائة سنة، حيث توفي الصادق في منتصف القرن الثاني للهجرة (148هـ) وتوفي النجاشي في منتصف القرن الخامس للهجرة (450هـ) وكذا توفي الطوسي قريب هذه الفترة، وبين المدتين فاصلة كبيرة، فكيف يمكن الاطمئنان الى توثيقهما للرواة الذين عاصروا الصادق ورووا عنه مع طول هذه المدة وقصر العبارات التي اورداها واقتضابها، اذ غالباً ما لا تفي بشيء مهم في التعرف على الراوي؟!
علماً بان الشرط الزمني في التوثيق ليس غائباً عن اعين بعض المحققين. فهذا ابو القاسم الخوئي يرى ان من شروط التوثيق هو أن يكون من أخبر عن وثاقته معاصراً للمخبر او قريب العصر منه، ولا عبرة بتوثيق من كان بعيداً عن عصره، لأنه يكون مبنياً على الحدس والاجتهاد فحسب[8]. ولا شك ان هذا الحال ينطبق تماماً على توثيق الشيخين الطوسي والنجاشي ومن عاصرهما. وفيه يتبين انسداد علم التوثيق سواء اخذنا الامر من حيث اجتهاد هؤلاء الموثقين، او اعتبرنا انهم انما بنوا توثيقاتهم تبعاً للنقل والرواية، حيث الوسائط الكثيرة، وفي كلا الحالين ان ذلك لا يعد بينة شرعية من باب الشهادة ولا يقبل مثله في الحقوق كالذي اشار اليه الشيخ الانصاري[9]. بل وحتى التعديل فيه لا يتعدى عادة حدود العدل الواحد، ولو اشرط التعديل بعدلين لأوجب ذلك خلو الاحكام والنصوص المروية عن الدليل[10].
ولا يصح ما قاله بعض العلماء من ‹‹ان تحصيل العلم بعدالة كثير من الماضين وبرأي جماعة من المزكين أمر ممكن بغير شك من جهة القرائن الحالية والمقالية، إلا أنها خفية المواقع متفرقة المواضع، فلا يهتدي الى جهاتها ولا يقدر على جمع أشتاتها إلا من عظم في طلب الاصابة جهده، وكثر في تصفح الاثار كده››[11]. ذلك انه اذا كانت كتب الرجال قد ذهبت وان الاخبار حول القدماء متضاربة، وهي فضلاً عن ذلك لا تعطي في كثير من الاحيان التفصيل حول حياة القدماء فكيف يكون بالامكان الوصول الى العلم بعدالة القدماء او توثيقهم. بل ان التعديل قائم على المسامحة، وعلى ما يرى الشيخ الهمداني انه لا يكاد يوجد خبر يمكن إثبات عدالة رواته على سبيل التحقيق لولا البناء على المسامحة والعمل بظنون غير ثابتة الحجية. الامر الذي دعاه الى ترك الفحص عن حال الرجال ومعرفة احوالهم، وذلك تعويلاً عما سلكه الاصحاب من الاعتناء بالاحاديث المدونة في الكتب المعتبرة وعدم اعراضهم عنها[12]، وهي النزعة التي يؤكد عليها الاخباريون. بل ذهب البعض الى ان الظن الحاصل من الخبر الذي استفيدت عدالته من تزكية الواحد قد يكون أضعف مما يحصل من أصالة البراءة او عموم الكتاب[13].
وبهذا يكون العلم بتوثيق الرواة متعذراً تماماً تبعاً للمبررات التي سبق عرضها.
[1] معجم رجال الحديث، ج1، ص43
[2] روضات الجنات، ج6، ص222
[3] معالم الدين، ص230ـ231
[4] رسالة الاجتهاد والاخبار، ص59.
[5] نهاية الدراية، ص382ـ384.
[6] روضات الجنات، ج6، ص245ـ246، كذلك: نهاية الدراية، ص283
[7] لؤلؤة البحرين، ص298، وروضات الجنات، ج6، ص218
[8] معجم رجال الحديث، ج1، ص43
[9] فرائد الاصول، ج1، ص215
[10] فرائد الاصول، ج1، ص188، كذلك: محمد حسين الأصفهاني: الفصول الغروية في الاصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية، قم، 1404هـ، ص402
[11] منتقى الجمان، ج1، ص21، ونهاية الدراية، ص373
[12] ابو القاسم الخوئي: التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الاجتهاد والتقليد، تحرير الميرزا علي الغروي التبريزي، مقدمة عبد الرزاق الموسوي المقرم، مطبعة الآداب، النجف، ص26
[13] منتقى الجمان، ج1، ص22، ونهاية الدراية، ص373