يحيى محمد
تتصف الروايات الشيعية المعتمد عليها بكثرة التعارض في مختلف ابواب الفقه والعقيدة، وهي حقيقة اعترف بها العلماء وجعلت البعض يرتد عن مذهبه، كما اودت ببعض اخر الى ان ينأى بنفسه عن الفتوى لتضارب الاحكام بعضها مع البعض الاخر، كالذي يشير اليه ابن طاوس بقوله: ‹‹اني كنت قد رأيت مصلحتي ومعاذي في دنياي وآخرتي من التفرّغ عن الفتوى في الاحكام الشرعية، لاجل ما وجدت من الاختلاف في الرواية بين فقهاء أصحابنا في التكاليف الفعلية، وسمعت كلام الله جلّ جلاله يقول عن أعزّ موجود عليه من الخلائق محمد (ص): ((ولو تقول علينا بعض الاقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه عاجزين)) فلو صنّفت كتاباً في الفقه يعمل بعدي عليها كان ذلك نقضاً لتورّعي عن الفتوى ودخولاً تحت حظر الاية المشار إليها، لانّه جلّ جلاله إذا كان هذا تهديده للرسول العزيز الاعلم لو تقوّل عليه، فكيف يكون حالي إذا تقوّلت عليه وأفتيت أو صنّفت خطأً وغلطاً يوم حضوري بين يديه››[1].
وربما يكون الطوسي هو اول من شغل نفسه بهذا المشكل، فكتب كتابه (تهذيب الاحكام) بناء على ما علمه من ان عدداً من علماء الشيعة قد تركوا المذهب لاجل ما رأوه من اختلاف الرواية وتعارضها. فقد صنف الطوسي كتابه كشرح لكتاب (المقنعة) العائد الى شيخه المفيد، وذلك لما سمعه يقول ان ابا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحق ويدين بالامامة فرجع عنها لما التبس عليه الامر في اختلاف الاحاديث وترك المذهب ودان بغيره لما لم يتبين له وجوه المعاني فيها، لذا عد الاشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الاخبار المختلفة والاحاديث المتنافية هو من اعظم المهمات في الدين. فهو في مقدمة التهذيب اشار الى هذا المعنى وقال: ‹‹إن أحاديث أصحابنا فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا، وذكروا أنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذى يدينون الله تعالى به ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع، ويذكرون أن هذا مما لا يجوز أن يتعبد به الحكيم، ولا أن يبيح العمل به العليم، وقد وجدناكم أشد اختلافاً من مخالفيكم وأكثر تبايناً من مباينيكم، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الاصل››. واعتبر انه بسبب ذلك رجع جماعة عن اعتقاد الحق[2].
والسبب المعقول الذي يقف خلف تلك الكثرة من التعارض انما يعود في معظمه الى الكذب والدس والتزوير، حيث تفنن الوضاعون في اساليب الوضع والاختلاق، فعلى ما ذكره بعض المحققين ان الوضاعين تارة يأخذون اصلاً معروفاً او كتاباً مشهوراً وينتسخون منه نسخاً عديدة ويدسون خلالها أحاديث من موضوعاتهم او يحرفون كلماتها طبقاً لاهوائهم، وبعد اتمام النسخة يسجلون على ظهرها (قرئ على فلان في الشهر الفلاني بمحضر من اصحابه) ثم يفرقون هذه النسخ في دور الوراقين او يجعلونها في متناول الضعفاء من المحدثين. وتارة كانوا يختلقون صحيفة كاملة فيها الغلو والاكاذيب ويكتبون على ظهرها (اصل فلان) او (كتاب فلان) ثم يدسون هذه النسخ المفتعلة في كتب الوراقين، او يبيعونها بايدي الصبيان والعجائز الاميين كأنها موروثة من اكابر المحدثين[3].
وهناك من الروايات ما يشير الى هذا الصنيع من الكذب على الائمة الكرام، فمثلاً جاء في (رجال الكشي) انه اشتكى الفيض بن المختار الى الامام الصادق فقال: جعلني الله فداك، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ قال الامام: وأي الاختلاف يا فيض؟ قال: إني أجلس في حلقهم بالكوفة وأكاد أشك في اختلافهم في حديثهم حتى ارجع الى المفضل بن عمر فيوقفني من ذلك على ما تستريح به نفسي، فقال الامام: أجل كما ذكرت يا فيض، ان الناس أولعوا بالكذب علينا، كأن الله افترض عليهم ولا يريد منهم غيره، إني أحدث أحدهم بحديث، فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله وانما يطلبون به الدنيا، وكل يحب أن يدعى رأساً[4]. كما جاء ان يونس بن عبد الرحمن اخذ أحاديث كثيرة من اصحاب الصادقين عليهما السلام وعرضها على الامام ابي الحسن الرضا فانكر منها أحاديث كثيرة، وقال: ان ابا الخطاب كذب على ابي عبد الله، وكذلك اصحاب ابي الخطاب يدسون الاحاديث الى يومنا هذا في كتب اصحاب ابي عبد الله[5]. ومنها ان هشام بن الحكم سمع الامام الصادق يقول: كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه وكان اصحابه المستترون بأصحاب ابي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها للمغيرة، فكان يدس فيها الكفر والزندقة، ويسندها الى ابي ثم يدفعها إلى اصحابه ويأمرهم ان يبثوها في الشيعة، فكلما كان في كتب اصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم[6]. وكذا روي عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن، ان بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر، فقال له: يا أبا محمد ما أشدك في الحديث، وأكثر انكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الاحاديث؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله الصادق يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً الا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فان المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا (ص) فإنا إذا حدثنا قلنا قال الله عز وجل، وقال رسول الله (ص)[7].
وقد اعترف المرحوم هاشم معروف الحسني في (الموضوعات في الاثار والاخبار) بحجم الضرر الذي اصاب الحديث الشيعي جراء فعل الدس والتزوير الذي قام به جماعة كثيرة تظاهروا بالولاء لأهل البيت واندسوا بين الرواة واصحاب الائمة مدة طويلة حتى استطاعوا ان يتقربوا من الامامين الصادقين واطمأن اليهم جمع من الرواة، فوضعوا مجموعة كبيرة من الاحاديث ودسوها بين أحاديث الائمة وفي اصول كتب الحديث، ولم يسلم من فعلهم هذا حتى القرآن الكريم الذي اوهموا بتحريفه، تفسيراً وتنزيلاً، وظهرت اثر ذلك كتب الحديث والتفسير وهي مشحونة بمثل هذا الزور والتضليل.
وكان من نتائج الدس والكذب ان ظهرت اعداد كبيرة من الاحاديث المخالفة لظواهر الكتاب والسنة. وكما ذكر الانصاري ان الاخبار المخالفة لظواهر الكتاب والسنة كثيرة جداً، معلقاً على ذلك بانه لا يصدر من الكذابين ما هو مباين للكتاب كلية كي لا ينكشف الوضع[8]. ومثل ذلك ما اشار اليه الاخوند الخراساني، وهو ان الاخبار المخالفة لعموم الكتاب كثيرة جداً[9]. وعليه ان من الصعب الوثوق بمثل هذه الاخبار، ناهيك عن ان تكون حاكمة على نص الكتاب القطعي، سواء بالتخصيص او التقييد او النسخ، او اي شكل من اشكال التغيير في المعنى والحكم.
والعجيب من الشيخ الانصاري كيف امكنه التوصل الى الاطمئنان بصدور جميع الروايات عن الائمة في تصانيف الشيعة باستثناء القليل منها، وهو مع ذلك يلوح الى ظاهرة الوضع في هذه الروايات، كالذي عرضناه قبل قليل؟!
ويكفي دلالة انه رغم الاهتمام الكبير الذي حظي به كتاب الكافي من قبل العلماء والفقهاء، فانه مع ذلك لم يسلم - على الارجح - من الدس، حيث تتضمن نسخه الحديثة زيادة في الابواب مقارنة مع ما ذكره الشيخ الطوسي، كالذي اشرنا اليه من قبل، فكيف هو الحال مع الكتب القديمة التي من الواضح انها لم تحظ بالعناية الخاصة؟!
لذلك لم ينفع الاصطلاح المستحدث في تقسيم الحديث، فهناك روايات تعد من الصحاح رغم انها متهافتة او ظاهرة الوضع. ففي رواية في اصول الكافي عدّت صحيحة رغم ما تتضمنه من تناقض، اذ جاء ان معنى الذكر في قوله تعالى: ((وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون)) هو رسول الله، وان قومه هم اهل بيته[10]. مع ان في هذا الحديث تناقضاً، اذ كيف يكون الذكر رسول الله وهو المخاطب الذي اضيف اليه الذكر؟! بل جاء بعده مباشرة حديث اخر عدّ صحيحاً ايضاً رغم انه يخالف الاول، حيث ورد فيه ان الذكر هو القرآن[11].
وفي رواية اخرى عدت عالية الصحة باعتبار ان رواتها كلهم معدلون بتعديل امامين من ائمة الرجال بخلاف المعروف من الاكتفاء في تصحيح الحديث بامام واحد فحسب، ومع ذلك فقد اظهر المحقق محمد باقر البهبودي كذب الرواية بعدد من الادلة، وهي التي تعرف بصحيحة حماد بن عيسى الجهني في آداب الصلاة وكيفيتها، فقد اعتمد عليها العلماء ووضعوها في كتبهم ورسالاتهم العملية للعمل بها. وجاء فيها ان حماد بن عيسى روى ان الامام الصادق قال له يوماً: تحسن ان تصلي يا حماد؟ فأجابه حماد: يا سيدي انا احفظ كتاب حريز في الصلاة، فقال الامام: لا عليك قم فصلي، فقام حماد وصلى بين يديه، فقال الامام: يا حماد لا تحسن ان تصلي؛ ما اقبح بالرجل ان يأتي عليه ستون سنة او سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة، قال حماد: فأصابني في نفسي الذل وقال: جعلت فداك فعلمني الصلاة... الخ.
وفي هذه الرواية اظهر المحقق البهبودي كذبها واختلاقها بأدلة ثلاثة كالاتي:
1ـ ان النجاشي نقل في رجاله ان حماد بن عيسى قال: سمعت من ابي عبد الله الصادق سبعين حديثاً، فلم ازل أدخل الشك على نفسي حتى اقتصرت على هذه العشرين. والعشرون حديثاً هي الموجودة في كتاب (قرب الإسناد) وليس فيها تلك الرواية المذكورة، مما يعني انها موضوعة عليه.
2ـ لقد مات حماد بن عيسى (سنة 209هـ) وله نيف وسبعون سنة كما نص على ذلك ابو عمرو الكشي، مما يعني ان ولادته كانت حوالي (سنة 135هـ) وان له من العمر عند وفاة الامام الصادق ثلاثة عشر سنة تقريباً، فاذا كان لقاؤه للامام الصادق في صغره فكيف يقول الامام لغلام مثل حماد: ‹‹ما اقبح بالرجل ان يأتي عليه ستون سنة او سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة››؟!
3ـ علمنا ان حماد بن عيسى قال حسب الرواية المذكورة بانه يحفظ كتاب حريز في الصلاة[12]، وانه تبعاً لذلك قام فصلى حسب ما حفظه من الكتاب المشار اليه، وان الامام الصادق اعترض على صلاته وعلمه الصلاة الصحيحة بادابها، لذا يفترض ان يكون تعليم الامام الصادق جاء على خلاف ما هو مسطور في كتاب حريز للصلاة كما حفظه حماد، لكن واقع الامر ان ما جاء في هذا الكتاب هو نفس الاداب المذكورة في الرواية، بل واحسن منها واوفى. مما يعني ان مضمون الرواية من اعتراض الامام الصادق لا يتسق مع ما ورد في كتاب حريز في الصلاة[13].
وبهذا يتضح ان قضية ابعاد الروايات المختلقة ومعالجة التعارض بين الاحاديث هي اكبر من ان يطالها علم التوثيق كما تكفل به التقسيم المستحدث والذي عمل به العلماء وما زالوا.
[1] رضي الدين بن طاوس: سعد السعود للنفوس، تحقيق فارس تبريزيان الحسّون، ص155، عن مكتبة العقائد الالكترونية www.aqaed.com
[2] تهذيب الاحكام، المقدمة، ص2
[3] معرفة الحديث، ص44
[4] اختيار معرفة الرجال، حديث 216، وفرائد الاصول، ج1، ص153
[5] اختيار معرفة الرجال، حديث 401، كذلك: فرائد الاصول، ج1، ص169، والحدائق الناضرة، ج1، ص10
[6] اختيار معرفة الرجال، حديث 402، كذلك: فرائد الاصول، ج1، ص169، والحدائق الناضرة، ج1، ص11
[7] اختيار معرفة الرجال، حديث 401، كذلك الحدائق الناضرة، ج1، ص11.
[8] فرائد الاصول، ج1، ص111.
[9] محمد كاظم الخراساني: كفاية الاصول، مؤسسة النشر الاسلامي لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الاولى، 1412هـ، ص276
[10] الاصول من الكافي، ج1، كتاب الحجة، باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة، حديث 4
[11] انظر التصحيح الوارد في الحديثين: الشافي في شرح اصول الكافي، المجلد الثالث، ص133.
[12] علماً ان حماد بن عيسى هو راوية كتاب حريز في الصلاة عن الامام الباقر، ولم يرو علماء المذهب هذا الكتاب الا عنه (معرفة الحديث، ص4).
[13] معرفة الحديث، المقدمة، ص3ـ5