يحيى محمد
لقد انفرد الكافي دون بقية الكتب الاربعة المعروفة بضمه روايات كثيرة تشير الى تحريف القرآن الكريم. وكان الغرض من ذلك هو الدفاع عن نظرية الولاية وتبريرها، رغم ان الكليني اعترف ان من بين المرجحات المعتمدة في الرواية هو العرض على القرآن كما في مقدمة كتابه، ووضع بابين ضمن الجزء الاول من اصوله؛ اطلق على احدهما (الرد الى الكتاب والسنة) وعلى الاخر(الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب) وجاء فيهما عدد من الروايات التي تأمر بعرض الحديث على القرآن وترك ما ينافيه واعتباره زخرفاً[1]. الامر الذي حير عدداً من المحققين لما في القضية من تناقض، اذ كيف يمكن العمل بما حشده من روايات دالة على التحريف، هل يضرب بها عرض الحائط؟ مع انه رواها بكثرة ودلل عليها بما اورده من روايات مفسرة للايات تصب في ذات الهدف، وانه ابدى في مقدمة كتابه انه اخذ بما وسع له الامر. والغريب انه صرح في المقدمة ان العلم بمصاديق الترجيحات، ومنها الترجيح بالقرآن، هو علم قليل. وقد توحي عبارته هذه انه لا يعد ما اورده من روايات التحريف هي مما يصح عرضها على القرآن، فهي على هذا الفرض مستثناة، بل وحاكمة على القرآن لا العكس.
وقد يقال ان تشبث الكليني بروايات التحريف، رغم التناقض المشار اليه، يعود الى كثرتها. وهو تعليل صحيح، لكن الاهم منه هو ان بدون هذه الروايات يصعب تماماً تقبل نظرية كون الولاية تمثل اساس الدين وجوهره، اذ كيف يمكن ان تكون بنية الدين بنية امامية ومع ذلك لا يشار لها بايات صريحة مثلما يشار الى النبوة وما على شاكلتها؟ وهذا يعني ان هناك اتساقاً بين القول بجوهرية الولاية للدين وبين القول بالتحريف، وان التعويل على الاول دون الثاني متهافت وغير معقول، والعكس بالعكس، حيث ان نفي التحريف يقتضي نفي البنية الولائية للدين[2].
بل ان هذين الركنين يكملهما ثالث بنحو من العلاقة العضوية، وهو تجريم عموم الصحابة بتواطئهم ورضاهم بما افترض من تحريف. فهذه الاركان الثلاثة بعضها يدعو الى البعض الاخر، وان انتفاء احدها يدعو الى انتفاء الاخرين. وقد استقطب هذا الثالوث روايات العقائد، حيث انها تؤكد على الولاية بجنب النبوة، وان الصحابة لم يعجبهم ذلك فارتدوا بعد النبي الا عدد قليل؛ كإن يكون ثلاثة رجال او اربعة او اكثر، كما ان ذلك استدعى تحريف الايات الدالة على الامامة صراحة او ازالتها كلية. وهذا ما تمسكت به الاخبارية باتساق، حيث القول ببعضه يفضي الى القول بالبعض الاخر، مثلما ان انكار احدها يدعو الى انكار البقية. فالقول بسلامة القرآن يعني انكار ان تكون الولاية هي اس الدين؛ لأن القرآن لا يدل عليها، كما يعني الشهادة بالثناء على المهاجرين والانصار؛ لأن القرآن يدل عليها، وكذا فان الشهادة بالثناء على هؤلاء يبرئهم من الجرم العظيم في التحريف واطماس معالم الولاية، وكذا فان انكار الولاية بالشكل المطروح لا يجد مساغاً للقول بالتحريف المتعمد، كما لا يجد مساغاً لاتهام الصحابة بارتكاب الجريمة العظمى التي اقل ما يقال فيها انهم قد كفروا وارتدوا كما يقول الاخباريون وتؤكده الكثير من الروايات[3]، خاصة تلك المنقولة عن الامام الصادق وابيه الباقر، حيث تتهم بعض الكبار منهم بابشع التهم وتضع عليهم اللعنات[4]، والامر يطال غيرهم من الصحابة سواء بحسب ما تنص عليه الروايات، او بحسب التحليل السابق.
اما ما رواه الكليني بصدد التحريف، فهناك رواية عن الامام الصادق تقول: إن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد (ص) هو سبعة عشر ألف آية[5]. اي ان الايات تقارب ثلاثة اضعاف ما موجود في المصحف، وهي تتفق مع ما جاء في رواية اخرى تتحدث عن مصحف فاطمة وكيف انه يعادل ثلاث مرات المصحف الموجود[6]. لكن هذه الزيادة المذكورة وجدت نوعاً من التأويل لدى النافين للتحريف، وقد يكون الشيخ الصدوق هو اول من باشر هذا الفعل، حيث يقول: ‹‹انه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع الى القرآن لكان مبلغه مقدار سبعة عشر ألف آية››[7]. وعلى ما يبدو ان غرض الصدوق هو تأويل معنى الرواية السابقة لكونه لا يقر التحريف.
وعموماً ان روايات التحريف كثيرة لدى كتب الحديث القديمة، ولدى عدد من العلماء انها متواترة، وانها بلغت اكثر من ألف رواية، وان القدماء قد اطبقوا على صحتها والتصديق بها[8]، وان طرحها جميعاً يوجب رفع الإعتماد على الأخبار رأساً، بما في ذلك تلك الخاصة بالامامة، حيث في كلا الحالين ان الاخبار متواترة، كالذي اكد عليه الشيخ المجلسي في (مرآة العقول)[9]. وكذا ما صرح به الشيخ يوسف البحراني من ان الطعن باخبار التحريف على كثرتها يفضي الى الطعن باخبار الشريعة كلها، حيث الاصول والطرق والرواة هي نفسها في كلا الحالين.
وقد ذهب الكثير من القدماء الى القول بالتحريف، منهم الكليني وشيخه علي بن ابراهيم القمي ومحمد بن الحسن الصفار والعياشي والطبرسي صاحب (الاحتجاج) وغيرهم، في حين خالفهم في ذلك كل من الشيخ الصدوق والمرتضى والطوسي والطبرسي صاحب التفسير المعروف.
ولعل اعظم خطأ يقع به المحققون هو ظنهم ان الكثرة في الاخبار الموثقة تفيد التواتر، وهو خطأ، اذ قد يكون منشأ الكثرة بسبب الدس في الكتب، او لوجود مصلحة غالبة تدفع الى الكذب في الحديث، كالذي كان يفعله الزهاد من علماء السنة على ما اطلعنا عليه من قبل، او لغير ذلك من الاسباب التاريخية التي نجهلها. ولو صح التواتر بهذا المعنى الاعتباطي لحصل التناقض في الكثير من القضايا المتعارضة التي يستشهد عليها بكثرة الحديث، ومن ذلك التعارض الحاصل بين تواترات اهل السنة، وتواترات الشيعة، وكلا الطرفين يدعي ان رواته ثقات، مع ان التحقيق الوارد لدى علماء الحديث هو تحقيق تاريخي مختزل ضعيف وغير مباشر. فهو بالصورة المتاحة لنا من وجود السلاسل الرجالية الطويلة يمنع ان يفضي الى قطع في الاقوال المنقولة هنا او هناك، بل يمكن ان ينحصر القطع او الاطمئنان في حدود القضايا المجملة للحوادث الكبرى والممارسات المتعددة الكثيرة التي تشهد عليها قرائن مختلفة كثيرة، وبشرط العلم بعدم وجود مصلحة مشتركة في النقل، وكذا ان لا يعارضها معارض يعتد به، كإن يكون المنقول هو مما يثبت كونه مستحيل الحدوث. لذلك كان الشهيد الثاني ينفي تحقق خبر خاص بلغ حد التواتر، لكنه استثنى من ذلك حديث النبي (ص): (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)[10]، وكذا كان ابن الصلاح من اهل السنة يرى ان من اراد مثالاً للحديث المتواتر غير هذا الحديث أعياه الطلب. وقد عرفنا ما فيه، ومع انه لا علم للمتأخرين الا بما دوّنه المتقدمون، فالصلة بين الطرفين غير مباشرة، والتواتر المذكور هو تواتر نقلي وغير حسي، فاحتمالات الدس والوضع في كتب الاوائل واردة، مثلما ان احتمالات الكذب ودوافع اشاعة الحديث واردة هي الاخرى، وكل ذلك يقف مانعاً عن القطع، بخلاف ما لو كان التواتر تواتراً حسياً؛ حيث كل شيء فيه ظاهر بلا خفاء.
[1] من الاحاديث التي وردت في الباب الاخير ما جاء عن الامام الصادق من اقوال، مثل قوله: كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف (حديث 3) ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله (حديث 5) إن على كل حق حقيقةً وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه (حديث 1).
[2] لكن علمنا ان هذه الاخيرة تكون بمعنى ما من المعاني فرعاً من الفروع الدينية وليس الاس الذي يقوم عليها غيرها من القضايا.
[3] من ذلك ما قاله الشيخ الاخباري نعمة الله الجزائري: ‹‹ان أغلب الصحابة كانوا على النفاق، لكن كانت نار نفاقهم كامنة في زمنه (ص)، فلما انتقل الى جوار ربه برزت نار نفاقهم لوصيه ورجعوا القهقرى، ولذا قال - الإمام - (ع) إرتد الناس كلهم بعد النبي (ص) إلا أربعة، سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار . وهذا مما لا اشكال فيه›› (الأنوار النعمانية، ج1، ص81)
[4] ومن هذه الروايات ما ورد بهيئة ادعية وزيارات، يتعبد بها بعض الجهلة والعوام، وفي بعضها ما يدل على تحريف القرآن، كما هو الحال مع ما يطلق عليه (دعاء صنمي قريش) ولم يرد ذكره في الكتب الاربعة المعتبرة.
[5] الاصول من الكافي، ج2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، حديث 28
[6] باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة، حديث 1
[7] الاعتقادات للصدوق، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، عدد (5)، عنوان العدد: تصحيح اعتقادات الامامية، ص84ـ85
[8] نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية، طبعة تبريز، إيران، ج2، ص357
[9] محسن بن حسين العصفوري البحراني: اتحاف الفقهاء في تحقيق مسألة اختلاف القراءات والقراء، عن مكتبة الرافد الالكترونية، ص95
[10] نهاية الدراية، ص99