يحيى محمد
معلوم أن هناك اربعة جوامع لكتب الحديث تعود الى من عرفوا بالمحمدين الثلاثة الاوائل، وذلك خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة، وهي كتاب (الكافي في الاصول والفروع) لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني (المتوفى سنة 329هـ) وكتاب (من لا يحضره الفقيه) لابي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الملقب بالشيخ الصدوق (والمتوفى سنة 381هـ) وكتاب (التهذيب) وكتاب (الاستبصار) وكلاهما لابي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي الملقب بشيخ الطائفة (والمتوفى سنة 460هـ). وتعد هذه الجوامع أهم ما لدى الشيعة من مصادر للحديث، لكن الملاحظ بأن أصحابها قد تقبلوا الروايات الضعيفة، ومنهم من اعتبرها مقطوعة الصدور، كما ان منهم من تعبد بالعمل بها ضمن شروط. وكان موقفهم من الرواة يستند الى مبدأ المسامحة، فاكثرهم تشدداً هو الشيخ الطوسي الذي مارس مهمة الجرح والتعديل دون سابقيه، وهي المهمة التي ورثها عنه الفقهاء الاصوليون فيما بعد، لكنه مع ذلك لم يمانع من الاخذ بالروايات الضعيفة حين تسلم من المعارض الاقوى ولم يكن رواتها معروفين بالكذب. فهو يقبل كون الراوي ثقة من حيث تحرزه عن الكذب في الرواية وان كان فاسقاً بجوارحه، وادعى ان الطائفة كانت تعمل بالاخبار التي يرويها من هكذا صفته وحاله[1]. كما انه يقبل الروايات المرسلة اذا ما كان الراوي معروفاً بأنه لا يروي الا عن ثقة، وكذا يقبل الروايات المرسلة بشرط ان لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة، واحتج بان الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما تعمل بالمسانيد من دون فرق[2]. كذلك رغم اعترافه بان الكثير من المصنفين القدماء كانوا ينتحلون المذاهب الفاسدة، الا انه اعتبر كتبهم واصولهم معتمدة[3]. ويؤيد هذا المعنى ما آل اليه المحقق الحلي حين انتقد الجماعة التي تعمل بمبدأ صحة السند، فاعتبر ذلك طعناً بعلماء الطائفة وقدحاً في المذهب، مؤكداً على ان ما من احد فيهم الا ويعمل بخبر المجروح[4].
هذا مع الشيخ الطوسي، اما الكليني والصدوق فلا شك انهما لم يباليا بالجرح والتعديل، فقد كان الصدوق يعول في توثيقه على شيخه ابي الوليد، وجاء في كتابه الكثير من الروايات الضعيفة حسب اصطلاح المتأخرين. اما الكليني فمن الواضح انه لم يشترط على نفسه ضابطاً في انتخابه للروايات التي جمعها، وان اتخذ صورة المسامحة في العمل، بعد ان اعترف باللبس الذي يحيط بالروايات المتداولة انذاك، كالذي اشار اليه في مقدمة الكافي، حيث كان عمله شبيهاً بعمل المتأخرين فيما اصطلحوا عليه بالاصول العملية، كما انه لم يعول على الجرح والتعديل؛ فكان يروي عن الضعفاء من المنحرفين والغلاة وغيرهم. وبنظر بعض المحققين المعاصرين ان الكليني ربما كان يكتفي بوجود بعض الموثوقين في سند الرواية[5].
على ان عدم اهتمام الكليني بالتوثيق جعل الاخباريين يظنون ان ذلك دليل على صحة صدور أحاديثه عن الائمة. وهو على خلاف ما استنتجه الاصوليون، وقد وصل الحال بجماعة منهم الى عدم الاطمئنان بمثل هذه الاحاديث المدونة بعد طول الزمان وضعف القرائن، فشكلوا بذلك اتجاهاً يعرف باصحاب دليل الانسداد.
ولا بأس ان نقارن هنا بين الكافي وصحيح البخاري من حيث توثيق السند والرواية. فمنهج الاخير واضح وان شروطه التي حاول ان يلتزم بها قوية. وكان نتيجة ذلك ان وجد المتأخرون من التابعين ان الضعف لدى روايات البخاري او رجاله قليل جداً مقارنة مع عدد أحاديثه، خلافاً لما حصل مع الكافي، حيث اتصفت طريقة صاحبه بعشوائية لا تستند الى اساس من التدقيق والتمحيص. فالكليني يروي عمن يعدون من الضعفاء والموثوقين، كما انه يتسامح في السند والاخذ بما هو موجود من الكتب دون تحقيق، لذلك وجد المتأخرون ان اغلب أحاديثه ضعيفة. فنسبة الاحاديث المنتقدة او الضعيفة لدى البخاري مقارنة مع العدد غير المكرر من أحاديثه هي اقل من (3%) وهي نسبة ضئيلة. في حين ان نسبة الضعف في أحاديث الكافي هي اكثر من (66%) وهي نسبة كبيرة جداً.
وتبعاً لهذه المقارنة يلاحظ ان علماء السنة لم يجدوا انفسهم قادرين على تحقيق الرواية بالشكل الذي كان يفعله سلفهم البخاري، وذلك لبعد الزمان، وهو ما جعلهم يعتمدون على توثيقه ويعتبرونه كافياً في الاطمئنان. في حين ان المتأخرين من علماء الشيعة وان كانوا لم يجدوا انفسهم قادرين على تحقيق الرواية مثلما كان بوسع سلفهم الكليني وغيره من القدماء، الا ان اغلبهم لم يتبعوا طريقته ولا خضعوا الى غيره بنحو التقليد، بل اجتهدوا بانفسهم في التوثيق وتصحيح الحديث، فكان من جراء ذلك اختلافهم في اعتبارات التوثيق والتصحيح، وذهب عدد منهم الى الاقرار بالعجز عن التحقيق لبعد الزمان وغياب القرائن.
[1] معالم الدين، ص230ـ231
[2] معالم الدين، ص245ـ246
[3] الفهرست، ص2
[4] المعتبر في شرح المختصر، مصدر سابق، ج1، ص6
[5] دراسات في الحديث والمحدثين، ص192