يحيى محمد
لقد اشترط البخاري ومسلم ان يكون الراوي معروفاً بالعدالة، وهذا ما جعل كتابيهما - لدى اهل السنة - ذا قيمة لا تقدر، حيث اعتبر كل راو ورد ذكره فيهما عدلاً لا يقبل الطعن فيه الا بقادح واضح او مفسر السبب، وذلك لان أسباب الجرح مختلفة ومدارها لدى علماء الحديث على خمسة أشياء: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع في السند بأن يدعي في الراوي أنه كان يدلس أو يرسل. وعليه اعتبر العلماء انه اذا وجد للغير طعن في احد رواة الصحيحين؛ فان ذلك الطعن سيقابل بتعديل صاحب الصحيح، وبالتالي فالطعن غير مقبول ما لم يكن مبين السبب تفسر فيه علة القدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقاً، أو في ضبطه لخبر بعينه، لأن الأسباب التي تحمل الأئمة على الجرح متفاوتة، فمنها ما يقدح ومنها ما لا يقدح. وكان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الراوي الذي يرد ذكره في الصحيح: هذا جاز القنطرة، وهو يعني أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
وقد ذكر العسقلاني الكثير ممن رمي بالبدعة المفسقة وروى عنه البخاري، وعدّ من ذلك ما اطلق عليه بدعة الإرجاء والتشيع والقدرية والجهمية والنصب والخوارج[1]، ونقل الخلاف بين علماء اهل السنة حول المتصف بالبدعة المفسقة؛ إن كانت روايته مقبولة او لا، وذلك شرط ان يكون متحرزاً من الكذب مشهوراً بالسلامة من خوارم المروءة موصوفاً بالديانة والعبادة، فقيل يقبل مطلقاً وقيل يرد مطلقاً، وهناك رأي ثالث وهو قبول الرواية عمن لم يكن داعية الى بدعته دون غيره، وهو المذهب الذي ايده العسقلاني واعتبره قد آلت اليه الطوائف من الائمة، وان اختلفوا في التفصيل، ومن ذلك اذا اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيد بدعته، هل تقبل الرواية أم لا؟ وعموماً ان ائمة الحديث تقبلوا رواية من اتصف بالبدعة شرط صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلق روايته ببدعته. وعقد العسقلاني فصلاً عن سرد أسماء من طعن فيه من رجال البخاري، ومنهم من اتصف بالبدع المشار اليها، كما منهم من طعن فيه لاسباب مختلفة اعتبرت مردودة؛ كالتحامل أو التعنت او قلة الخبرة في الحديث، كذلك فان منهم من طعن فيه بسوء الضبط أو الوهم أو الغلط ونحو ذلك، لكن البخاري لم يخرج لهذا القسم الاخير الا على نحو التوابع[2].
ومن وجهة نظر الحازمي ان اصحاب الجرح والتعديل يختلفون احياناً حول وثاقة الرواة، فرب راو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي، ومجروح عند يحيى بن سعيد القطان وبالعكس، وهما امامان عليهما مدار النقد في النقل ومنهما يؤخذ معظم شأن الحديث. الامر الذي يبرر ما يراه البخاري من وثاقة الرجال الذين ضعفهم البعض. ومع ذلك اعتبر الحازمي ان للبخاري ان يقول: لا يلزمني اعتراضكم، لاني قلت لم اخرج الا حديثاً متفقاً على صحته، ولم اقل لا اخرج الا حديث من اتفق على عدالته، لان ذلك يتعذر لاختلاف الناس في الاسباب المؤثرة في الضعف[3].
وقيل ان في الصحيحين جماعة مجهولي الحال لدى الحافظ ابي حاتم، لكنهم معروفون لدى غيره، مثل احمد بن عاصم البلخي واسباط ابو اليسع وبيان بن عمرو وعبيد الله بن واصل والحكم بن عبد الله المصري وعباس القنطري ومحمد بن الحكم المروزي. كما قيل ان ابن القطان اعتبر ابراهيم بن عبد الرحمن المخزومي مجهولاً، وانه قال في مالك الزبادي لم تثبت عدالته، او انه لم ينص احد على وثاقته. كما اعتبر ابو القاسم اللالكائي اسامة بن حفص المديني مجهولاً ايضاً، وفي الصحيحين عدد غير قليل لم ينص احد على وثاقتهم[4]. والبعض ممن اخرج عنه البخاري كان ممن يكثر الرواية عن المجهولين، منهم عيسى بن موسى التيمي الملقب بغنجار، حيث احتج به البخاري رغم انه يحدث عن أكثر من مائة شيخ من المجهولين[5].
وذكر الحافظ عبد القادر القرشي بان ما يقوله الناس (ان من روى له الشيخان قد جاوز القنطرة) هو من التجوه، اي طلب الجاه، حيث روى مسلم في صحيحه عن الكثير من الضعفاء رغم انهم يقولون انما روى عنهم للاعتبار والشواهد والمتابعات، وهو توجيه غير صحيح باعتبار ان مسلماً التزم في كتابه الحديث الصحيح فكيف يكون ذلك بطرق ضعيفة؟ كذلك فان البخاري ومسلم لم يسلما من التدليس، فكثيراً ما ورد في كتابيهما اداتا (ان وعن) المقتضيان للانقطاع، ومن ذلك الكثير من الروايات التي رواها مسلم في كتابه عن ابي الزبير عن جابر بالعنعنة وهو تدليس، رغم ان الحفاظ يقولون ان ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول على الاتصال، وذلك على سبيل التجوه[6].
وفعلاً ان البخاري ومسلم قد استخدما اداة العنعنة في اواسط الإسنادات التي غطت رواياتهما، وقلما اخرجا حديثاً لم تتكرر فيه هذه الاداة. ومن الواضح ان ذلك لا يدل على السماع المباشر. ويؤيده ان بعض علماء السلف كان لا يأخذ عن شيخه من التابعين ما لم يؤكد سماعه بلفظ الثنا (حدثنا)، فكما جاء عن شعبة انه قال: كنت أنظر إلى فم قتادة فإذا قال حدثنا كتبنا عنه فوقفته عليه، وإذا لم يقل حدثنا لم أكتب عنه[7].
على ان المشهور لدى الحفاظ هو ان البخاري ومسلم كانا يدلسان احياناً قليلة، ففي بعض الحالات كان البخاري يقول: قال فلان وقال لنا فلان، وهو تدليس، لكن هناك من اعتبر ذلك غير مضر، لانه يكون ضمن الموقوفات او على غير شرطه. كذلك كان مسلم يقول فيما لم يسمعه من مشايخه: قال لنا فلان، وهو تدليس ايضاً[8]. وذكر الحافظ صلاح الدين العلائي في (جامع التحصيل لاحكام المراسيل) ان في الصحيحين وغيرهما من الصحاح الكثير من التدليس، حيث اخرج لبعض المدلسين إما لإمامته او لقلة تدليسه او لانه لا يدلس الا عن ثقة، كالزهري والاعمش وابراهيم النخعي واسماعيل بن ابي خالد وسليمان التيمي وحميد الطويل والحكم بن عتبة ويحيى بن ابي كثير وابن جريج والثوري وابن عيينة وشريك وهشيم. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من رواية عامر الشعبي عن ابي هريرة، وقد انكر احمد بن حنبل سماعه من ابي هريرة، ورواية ابي عبيدة عن ابيه ابن مسعود وهو لم يسمع منه. وكذا جاء في صحيح البخاري من رواية موسى بن عقبة عن الزهري مع انه لم يسمع من الزهري شيئاً، ومثلها رواية ابي اسحاق الفزاري عن ابي طوالة وهو لم يسمع منه. وكذا ما جاء في صحيح مسلم من رواية ابان بن عثمان عن ابيه مع انه كما قال احمد لم يسمع من ابيه شيئاً، ورواية سليم بن عامر عن المقداد بن الاسود مع انه كما قال ابو حاتم لم يدرك المقداد[9].
وقد قيل ان المدلسين طبقات، فأولها من لم يوصف بالتدليس الا نادراً جداً؛ كيحيى بن سعيد الانصاري وهشام بن عروة وابن عقبة. وثانيها من احتمل الائمة تدليسه وخرجوا له في الصحيح، كالذي سبق عرضه. وثالثها من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا الا بما صرحوا فيه بالسماع وقبِلهم آخرون مطلقاً، كالطبقة التي قبلها؛ مثل الحسن وقتادة وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي وأبي سفيان طلحة بن نافع وعبد الملك بن عمير. ورابعها من اتفقوا على انه لا يحتج بشيء من حديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع لغلبة تدليسهم وكثرته عن الضعفاء والمجهولين؛ كابن إسحاق وبقية بن الوليد وحجاج بن أرطاة وجابر الجعفي والوليد بن مسلم وسويد بن سعيد[10].
ومن الملاحظات التي شوهدت عند البخاري ومسلم انهما كما يقول الكوثري لم يخرجا في الصحيحين شيئاً من حديث ابي حنيفة، رغم انهما ادركا صغار اصحاب اصحابه واخذا عنهم، ولم يخرجا من حديث الشافعي شيئاً، مع انهما لقيا بعض اصحابه، كما لم يخرج البخاري من حديث احمد الا حديثين احدهما تعليقاً والاخر نازلاً بواسطة، مع انه ادركه ولازمه، كذلك لم يخرج مسلم في صحيحه عن احمد الا قدر ثلاثين حديثاً، ولا اخرج احمد في مسنده عن مالك عن نافع بطريق الشافعي - وهو اصح الطرق او من اصحها - الا اربعة أحاديث، وما رواه احمد عن الشافعي بغير هذا الطريق لا يبلغ عشرين حديثاً مع انه جالس الشافعي وسمع موطأ مالك منه وعد من رواة مذهبه القديم. وقد علل الكوثري ذلك بالقول: ‹‹والظاهر من ديدنهم وامانتهم ان ذلك من جهة انهم كانوا يرون ان أحاديث هؤلاء في مأمن من الضياع لكثرة اصحابهم القائمين بروايتها شرقاً وغرباً.. ومن ظن ان ذلك لتحاميهم عن أحاديثهم او لبعض ما في كتب الجرح من الكلام في هؤلاء الائمة كقول الثوري في ابي حنيفة وقول ابن معين في الشافعي وقول الكرابيسي في احمد وقول الذهلي في البخاري ونحوها فقد حملهم شططاً››[11].
كذلك جاء ان البخاري لم يرو عن أئمة اهل البيت الا ما ندر، اذ ذكر انه لم يرو شيئاً عن الحسن بن علي بن ابي طالب، وكذا لم يرو عن جعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد والحسن العسكري الذي عاصره، ولم يرو عن الحسن بن الحسن وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن زيد والنفس الزكية محمد بن عبد الله واخيه ابراهيم بن عبد الله والحسين الفخي بن علي بن الحسن ويحيى بن عبد الله بن الحسن واخيه ادريس بن عبد الله ومحمد بن جعفر الصادق ومحمد بن ابراهيم واخيه القاسم الرسي ومحمد بن محمد بن زيد بن علي ومحمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين وغيرهم، مع انه روى عن الخوارج والموالين للسلطة الاموية ومن كانت لهم عداوة مع اهل البيت، مثل عمران بن حطان[12]. وإن كان بحسب المنهجة التي سار عليها أئمة الحديث ومنهم البخاري ان ذلك لا يضر إن كان ثقة في الحديث ولا يدعو فيه الى بدعته[13]. وكما روي ان قاضي بخارى كان قد حبس البخاري وقال له: لِمَ نقلتَ عن الخوارج؟ فقال: لانهم كانوا ثقات لا يكذبون[14]. وهناك من ادعى ان اكثر رواة البخاري كانوا من الخوارج[15]، مع ان ما ذكره ابن حجر هو انهم عشرة رجال تقريباً.
[1] اغلب الرجال الذين رموا بالابتداع وروى عنهم البخاري هم من القدرية، وهم بحسب تعداد العسقلاني ثلاثين رجلاً تقريباً، ويأتي بعدهم من رمي بالتشيع، حيث عدّ العسقلاني منهم عشرين رجلاً تقريباً، وبعدهم من رمي بالارجاء، وهم احد عشر رجلاً، ثم من رموا بالنصب والخوارج وهم عشرة رجال، ولم يذكر للجهمية الا رجلاً واحداً (مقدمة فتح الباري، ضمن فصل في تمييز أسباب الطعن في المذكورين). وفي تعليق للقاسمي ان رجال الجرح والتعديل عدوا في مصنفاتهم الكثير ممن رمي بالبدعة وسندهم في ذلك ما يقال عن الواحد منهم أنه شيعي أو خارجي أو ناصبي أو غير ذلك، مع أن القول عنهم بما ذكر قد يكون تقولاً وافتراء، فالكثير ممن رمي بالتشيع من رواة الصحيحين لا تعرفهم الشيعة أصلاً. واستشهد القاسمي على ذلك بانه راجع كتابي (رجال الكشي ورجال النجاشي) للشيعة ولم ير لهم ذكراً باستثناء راويين هما أبان بن تغلب وعبد الملك بن أعين، أما البقية وعددهم ثلاثة وعشرون فليس لهم ذكر في هذين الكتابين، مع ان السيوطي رماهم بالتشيع في كتابه (التقريب ممن خرج لهم الشيخان) نقلاً عمن سلفه (قواعد التحديث، ص194).
[2] مقدمة فتح الباري، فصل في تمييز أسباب الطعن في المذكورين.
[3] شروط الائمة الخمسة، ص59ـ60
[4] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص46
[5] معرفة علوم الحديث، باب معرفة المدلسين
[6] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص61، وابن ابي الوفا: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، شبكة المشكاة الالكترونية، ص592
[7] التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، ج1، ص268
[8] طبقات المدلسين، مصدر سابق، فقرة 28
[9] تعليق الكوثري على: شروط الائمة الخمسة، ص41، كذلك: التبيين لأسماء المدلسين، ص65
[10] التبيين لأسماء المدلسين، ص65ـ66، وقد حكم العلائي على الذين يكثرون التدليس عن الضعفاء بالضعف، وقال بانه وقع في هذا النوع من التدليس جماعة من الائمة الكبار، وإن بشكل يسير، كالاعمش والثوري. وقال الخطيب البغدادي: كان الاعمش والثوري وبقية بن الوليد يفعلون مثل هذا التدليس. ونقل الذهبي عن أبي الحسن بن القطان في بقية انه يدلس عن الضعفاء ويستبيح ذلك، واعتبر البعض انه إن صح عنه فانه مفسد لعدالته. وقال الذهبي في (الميزان): قلت نعم والله صح هذا عنه انه يفعله، وصح عن الوليد بن مسلم بل وعن جماعة كبار فعله، وهذا بلية منهم ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد (نفس المصدر، ص12ـ13).
[11] شروط الائمة الخمسة، ص49ـ50
[12] عبد الحسين شرف الدين: النص والاجتهاد، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1386هـ ـ1966م، ص339ـ340
[13] يقول العسقلاني عن عمران بانه كان داعية إلى مذهبه في الخوارج، وقد وثقه العجلي، وقال قتادة: كان لا يتهم في الحديث، وقال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج، ثم ذكر عمران هذا وغيره، وقال يعقوب بن شيبة: ان عمران أدرك جماعة من الصحابة وصار في آخر أمره إلى أن رأى رأي الخوارج. وعلق على ذلك ابن حجر بان البخاري لم يخرج له سوى حديث واحد من رواية يحيى بن أبي كثير عنه، حيث قال: سألت عائشة عن الحرير... الخ. وكما يقول ابن حجر: ان هذا الحديث إنما أخرجه البخاري في المتابعات، فللحديث عنده طرق اخرى، وقد رواه مسلم بطرق غيرها (مقدمة فتح الباري، فقرة عمران بن حطان السدوسي). ومعروف ان لعمران بن حطان ابيات من الشعر يشيد فيها بابن ملجم لقتله الامام علي بن ابي طالب، حيث يقول:
يا ضربة من تقي ما أراد بها الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
اني لأذكره يوماً فاحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً.
[14] عن: حسن الصدر: نهاية الدراية، تحقيق ماجد الغرباوي، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص499
[15] نقل حسن الصدر عن ابن يسع في كتاب (معرفة أصول الحديث) قوله: قد صح عند العلماء أن البخاري روى عن ألف ومائتين من الخوارج. كما نسب الى أحمد بن حنبل قوله: لم سميت كتابك بالصحيح وأكثر رواته عن الخوارج؟ (نهاية الدراية، ص.499.