يحيى محمد
لقد وصلتنا أربعة أصول رجالية في علم الرجال لدى الشيعة، وهي الكتب الاساسية الوحيدة التي بقيت خلال القرن السابع الهجري والتي اعتمد عليها المتأخرون بدءاً من ابن طاوس وتلميذيه العلامة الحلي وابن داود وحتى عصرنا الحاضر. وهي كل من اختيار رجال الكشي ورجال النجاشي ورجال وفهرست الطوسي. يضاف اليها رجال ابن الغضائري المسمى (كتاب الضعفاء) وهو كتاب شكك العلماء فيه. ويمكن وصف هذه الأصول كالتالي:
1ـ رجال الكشي
ان الاصل في (اختيار رجال الكشي) هو كتاب (معرفة الناقلين) لعمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، وهو تلميذ العياشي واستاذ جعفر بن قوليه شيخ المفيد، ويعد من طبقة الشيخ الكليني. وقد ذكره النجاشي في رجاله بانه ثقة عين روى عن الضعفاء كثيراً[1]. اما كتابه فهو مفقود سوى ما انتخبه الشيخ الطوسي بعد تهذيبه وتلخيصه، وسماه (اختيار معرفة الرجال). وقيل ان النسخ التي وصلتنا من الكتاب تختلف بالزيادة والنقصان. اما (معرفة الناقلين) فقد ذكر النجاشي ان فيه اغلاطاً كثيرة[2]، وهو ما دعا الطوسي الى القيام بتهذيبه وتجريد ما فيه من اغلاط[3]. وهذا يعني ان (اختيار معرفة الرجال) الذي وصلنا لا يعكس تمام الصورة لكتاب الكشي المفقود، فربما اجرى الطوسي اضافات وتغييرات جوهرية على الكتاب دون ان نعرف حقيقتها. كما تغلب على الكتاب الاسانيد المعلقة، وقد ذكرها الطوسي من غير اصلاح. وكما يرى بعض المحققين انه لم يصح من نصوص الكتاب المقدرة (1150) نصاً الا اقل من ثلاثمائة نص فقط[4]. هذا بالاضافة الى وجود مشكلتين اخريتين، احداهما ان الكتاب يعتمد التوثيق المروي عن الائمة بحق الرواة، وهو ليس معنياً بالغالبية العظمى ممن لم يرد فيهم شيء عن الائمة. اما المشكلة الاخرى فهي ان الكثير من روايات التوثيق التي ينقلها الكتاب عن الائمة هي روايات متعارضة من المدح والذم، ولم يسلم من ذلك حتى اولئك الموصوفين بقوة الوثاقة والمعتمد عليهم في النقل. الامر الذي اضطر العلماء الى تعليل روايات الذم بانها صادرة للتقية.
2ـ كتاب الضعفاء
يُنسب كتاب (الضعفاء) الى الشيخ احمد بن الحسين بن عبيد الله المعروف بابن الغضائري، ونسبه بعض المتأخرين الى والده الحسين (المتوفى سنة 411هـ). وقد عاصر ابن الغضائري كلاً من الطوسي والنجاشي، وحضر برفقة هذا الاخير دروس والده. ويعتقد البعض انه أصبح شيخاً للنجاشي بعد وفاة ابيه. اما الكتاب المذكور فلم تثبت نسبته الى ابن الغضائري لعدد من الادلة، ابرزها ان ابن طاوس، الذي يعد العمدة في نقل الكتاب، قد شكك بصحة نسبته، اذ صرح بان له روايات متصلة بجميع الكتب الرجالية التي وصلته عدا هذا الكتاب، حيث لم يجد له طريقاً في نسبته الى ابن الغضائري[5]. فرغم انه نقله في كتابه (حل الإشكال في تراجم الرجال) والذي جمع فيه الكتب الرجالية الخمسة، لكنه افرده بالتحذير والبراءة من العهدة في صحة النسب، وعلل نقله له في كتابه الجامع؛ وذلك ليكون شاملاً لكل ما قيل في حق ابن الغضائري، حيث وجده منسوباً اليه من غير ان يكون له فيه سماع او رواية او اجازة من مشايخه، اما ما تبقى من الكتب المعبر عنها بالاصول الرجالية الاربعة فقد ذكرها ابن طاوس بطرقه الى مشايخه. وقد اعتمد عليه كل من جاء بعده مباشرة او غير مباشرة، حيث اتبعه في ادراج ما نقله كل من تلميذيه الحلي وابن داود، وذلك في كتابيهما (الخلاصة والرجال) ولم يكن للمتأخرين طريق مستقل عنه، فلولا انه ادرجه في كتابه (حل الاشكال) لما عرف للكتاب من اثر[6]. وقد استند المتأخرون بعضهم الى البعض الاخر في ذكر طريق الكتاب. فمثلاً ان الآغا حسين الخونساري ذكر طريقه اليه عبر الشهيد الثاني، في حين ان هذا الاخير ذكر طريقه عبر العلامة الحلي، مع ان الحلي لا طريق له اليه غير ابن طاوس. لكن مع هذا فللشهيد الثاني طريق اخر الى الكتاب عبر النجاشي، الا ان هذا الاخير لم يذكر وجود هكذا مصنف رغم تعرضه الى ترجمة ابن الغضائري ومصنفاته، ولم يورد ما يشعر به في كتابه كله[7].
نعم، ذكر الشيخ الطوسي في مقدمة فهرسته بانه كان لابن الغضائري الذي وافته المنية كتابان لهما علاقة بذكر المصنفات من الكتب والاصول المروية، حيث كان احدهما يخص المصنفات، والاخر يخص الاصول، لكنه اعقب ذلك بقوله ان هذين الكتابين لم ينسخهما احد من الاصحاب، ونقل عن البعض انه عندما مات ابن الغضائري عمد بعض ورثته الى اتلافهما بمعية عدد من الكتب[8].
كما هناك من شكك بوجود هكذا كتاب في زمن الشيخين الطوسي والنجاشي، والا لما غفلا عن ذكره لصاحبه او حتى لوالده، رغم ان الشيخين كانا حريصين بصدد بيان الكتب التي صنفها الامامية بما فيها تلك التي سمعا عنها من غير رؤية[9]. وبحسب رأي بعض المحققين ان الكتاب لم يكن له اثر قبل عصر ابن طاوس[10]. ورأى بعض اخر ان الكتاب قد وضعه بعض المخالفين ونسبه الى ابن الغضائري لاغراض واضحة، وهو ان الكتاب يتصف بشدة تضعيف رجال الشيعة ممن يعتمد عليهم في الرواية، فقليل ما يسلم منه احد، الامر الذي اثر على توثيقات المتأخرين، والاعتماد عليه يوجب رد اكثر اخبار الكتب المشهورة كما صرح بذلك بعض المتأخرين[11]، حتى قيل إن السالم من رجال الحديث من سلم منه، وأن الاعتماد على كتابه في الجرح طرح لما سواه من الكتب[12].
وقد حاول الشيخ الطهراني ان يبرئ ساحة ابن الغضائري مما جاء في الكتاب، فاعتبره اجل من ان يكون له هكذا كتاب، واجل من ان يقحم نفسه في هتك اساطين الدين المعروفين بالتقوى والعفاف والصلاح، ورجح ان يكون واضع الكتاب من المعاندين لكبراء الشيعة فاراد الوقيعة فيهم بكل وجه وحيلة، فألف الكتاب وأدرج فيه بعض مقالات ابن الغضائري تمويهاً ليقبل عنه جميع ما أراد إثباته من الوقائع والقبائح[13].
في حين ذهب بعض المعاصرين الى ان كتاب الضعفاء هو فعلاً لابن الغضائري، وأن تضعيفه وجرحه للرواة والمشايخ لم يكن مستنداً إلى الشهادة والسماع، بل كان اجتهاداً منه حسب ما يراه من روايات الراوي، فإن رآها مشتملة على الغلو والارتفاع، وصفه بالضعف ووضع الحديث، لذلك صحح روايات عدة رواها القميون لانه وجدها خالية من ذلك[14].
3ـ رجال النجاشي
لم يبق لدينا في التوثيق الا ما قدمه الشيخان المتعاصران النجاشي والطوسي خلال القرن الخامس للهجرة. فقد وصلنا من الاول كتاب واحد يسمى (رجال النجاشي). وعرف الرجل بضبطه وتخصصه في علم الرجال، واعتمد عليه كل من تأخر عنه، فهو اضبط الجماعة واعرفهم بحال الرجال كما يقول الشهيد الثاني. ولم يستبعد البعض ترجيح قوله على قول معاصره الطوسي عند التعارض[15]. بل ذهب العديد من العلماء الى تقديمه في فن الرجال على غيره؛ تعويلاً على كتابه الذي عدّ لا نظير له في هذا الباب كما صرح السيد بحر العلوم في فوائده الرجالية[16]. واعتبر الطهراني كتاب النجاشي عمدة الاصول الرجالية الاربعة نظير الكافي بين كتب الحديث الاربعة[17].
واول ما يلاحظ في كتاب النجاشي هو انه يستهدف البحث عن اصحاب المصنفات من الشيعة وليس الكشف عن احوال الرجال، وان الاسم الحقيقي للكتاب هو (الفهرست) حيث صنفه ليثبت ان في قدماء الشيعة الكثير من المصنفين الذين كثرت كتبهم ومصنفاتهم، فحاول جهده ان يجمع ما امكنه من اسماء المصنفين المعروفين بالكتب، فكان كتابه من الفهارس التي تخص معرفة المصنفات واصحابها، وليس فيه ذكر لمن ليس له كتاب او تصنيف. ومع ذلك فغالباً ما تضمن الكتاب توثيق الرجال المصنفين، فاعتبر لهذا من كتب علم الرجال، وإن خلا من التفصيل عن الاحوال عادة. فقد تناول فيه النجاشي اكثر من ألف ومائتي (1269) مادة رجالية رغم صغر حجمه بحيث لا يعطي صورة كافية للتوثيق، وعبّر عن اغلب رجاله بلفظة (ثقة) مفردة او مقترنة بالفاظ اخرى، وفي بعض الاحيان انه يذكر اسم الراوي مع كتابه او مصنفاته فحسب، او يذكر عنه انه روى عن الامام الفلاني، او يذكر اسمه دون شيء اخر، وغالباً ما لا يزيد ذكره عن المادة الواحدة اكثر من ثلاثة او اربعة اسطر حسب الطبعة الحديثة التي اعتمدناها، ويتخلل ذلك نقله للسند او الثنا والعنعنة.
فقد لاحظنا ان عدد المصنفين الذين اورد اسماءهم دون ذكر شيء عنهم تماماً هم اكثر من عشرة رجال، وان الذين تحدث عنهم بما لا يتجاوز السطر الواحد هم سبعون رجلاً تقريباً، وبما لا يتجاوز السطرين يقاربون مائة وثمانين رجلاً، وبما لا يتجاوز الثلاثة اسطر يقاربون مائتين وسبعين، وبما لا يتجاوز الاربعة اسطر يقاربون مائتين وستين، وبما لا يتجاوز الخمسة اسطر يقاربون مائة وثمانين. والمجموع الكلي لهذه التقديرات يقارب تسعمائة وسبعين رجلاً. اي ان هناك ما يقارب ألف مادة رجالية هي بين ان تكون مذكورة بسطر واحد او اثنين او ثلاثة او اربعة او خمسة او لم يذكر عنها شيء بالمرة، واغلبها يتخللها ذكر السند والعنعنة، وما تبقى، وهو ما يقارب ثلاثمائة مادة رجالية، فقد تجاوز كل منها الخمسة اسطر، فقد تكون ستة او سبعة او صفحة او اقل او اكثر قليلاً.
ويتضح مما سبق ان الغالب في المواد الرجالية لم يذكر عنها شيء يفيد التفصيل، وان التفصيل الذي يذكره النجاشي عادة ما يكون عبارة عن تعداد اسماء المصنفات والكتب للراوي، فكما قلنا ان كتابه لم يوضع للكشف عن احوال الرواة، بل لذكر من لهم كتب ومصنفات، وان كان قد جرى له التوثيق والجرح والتعديل في اغلب ما عرضه من مواد.
وفي الكتاب غالباً ما تتكرر لفظة (ثقة) منفردة، ويفوق تكررها ما قد تقترن بغيرها من اوصاف. ومن هذه الاوصاف التي ذكرها النجاشي مقترنة بتلك اللفظة؛ قوله مثلاً: كان ثقة صدوقاً، او انه ثقة ثقة، او ثقة عين، او ثقة ثقة عين، او ثقة ثبت، او ثقة في الحديث، او ثقة صحيح الحديث، او ثقة صحيح الحديث معتمد عليه، او ثقة قليل الحديث، او ثقة صحيح المذهب صالح، او ثقة صحيح السماع، او ثقة كثير الحديث صحيح الرواية، او ثقة كثير الرواية، او ثقة في الحديث، او ثقة جليل في اصحابنا، او ثقة جيد الحديث نقي الرواية معتمد عليه، او ثقة في اصحابنا سمع واكثر وعمر وعلا اسناده، او ثقة في نفسه ويروي عن الضعفاء ويعتمد على المراسيل، او كان ثقة قارئاً اديباً، او كان ثقة في حديثه متقناً لما يرويه فقيهاً بصيراً بالحديث والرواية، او كان ثقة في حديثه ورعاً لا يطعن عليه، او ثقة في حديثه مسكوناً الى روايته غير ان قيل فيه يروي عن الضعفاء، او ثقة في حديثه مسكوناً الى روايته لا يعترض عليه بشيء من الغمز حسن الطريقة، او انه ثقة في الحديث واقفي، او كان فطحياً وثقة في الحديث، او هو مضطرب المذهب وكان ثقة فيما يرويه، او شيخ من اصحابنا ثقة، او كوفي ثقة لا بأس به، او احد اصحابنا ثقة فيما يرويه، او هو من زهاد اصحابنا وعبادهم ونساكهم وكان ثقة، او كان يبيع الخرق ثقة... الخ.
كما هناك صفات اخرى ذكرها النجاشي تدل على مدح الراوي او المصنف، مثل قوله: شيخ من اصحابنا روى عن فلان مثلاً، او هو رجل من اصحابنا، او وجه في هذه الطائفة من بيت جليل بالكوفة، او له محل عند الائمة، او كان خيراً، او كان خيراً فاضلاً، او له اطلاع بالحديث والرواية والفقه، او كان فقيهاً متكلماً، او من اجلاء الطائفة وفقهائها، او هو من وجوه اصحابنا مشهور، او كان وجهاً في اصحابنا قارئاً فقيهاً نحوياً لغوياً راوية وكان حسن العمل كثير العبادة والزهد، او كان صحيح الحديث والمذهب، او رجل جليل في اصحاب الحديث مشهور بالحفظ، او حديثه ليس بالنقي وان كنا لا نعرف منه الا خيراً، او سيد في هذه الطائفة لكن بعض اصحابنا يغمز عليه في بعض رواياته، او كان عظيم المنزلة عند الامام، او كان من اهل الفضل والادب والعلم، او صالح الرواية يعرف منها وينكر، او لا بأس به... الخ.
كذلك وصف النجاشي عدداً من رجاله بالضعف والكذب والمغالات، مثل قوله: هو ضعيف، او هو ضعيف في الحديث، او كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد فيه، او كان ضعيف الحديث فاسد المذهب، او كان فاسد المذهب، او هو ضعيف في مذهبه، او انه ضعيف جداً لا يلتفت اليه، او انه ضعيف لكن له كتاب حسن، او هو ضعيف يقال ان في مذهبه ارتفاعاً، او ضعّفه اصحابنا، او انه روى عن المجاهيل أحاديث منكرة رأيت اصحابنا يضعفونه، او هو كثير السماع ضعيف في مذهبه، او كان واقفياً، او فيه غلو وترفع، او كان غالياً كذاباً، او هو ممن طعن عليه ورمي بالغلو، او غمز اصحابنا فيه، او قالوا هو غال وحديثه يعرف وينكر، او كان مختلطاً يعرف منه وينكر، او هو معدن التخليط له كتب في التخليط... الخ.
يضاف الى ان النجاشي لم يذكر شيئاً من التوثيق في حق الكثير من رجاله، فاحياناً يذكر اسم الرواة فقط، واخرى لا يذكر في حق الرجل الا ان له كتاباً او مجموعة من الكتب، او يذكر انه روى عن الامام الفلاني، او ان له مسائل الى الامام، او انه من بلاد كذا... الخ.
وتبعاً لما سبق يمكن ان نسجل الملاحظات النقدية التالية:
1ـ ان اغلب الرجال الذين ذكرهم النجاشي قد حكم عليهم بالثقة، سواء كانت هذه اللفظة منفردة او مقترنة مع غيرها من الصفات المتعلقة بالتوثيق. على ان لفظة الثقة المنفردة قد فاق تكررها كثيراً تلك التي وردت مقترنة مع غيرها من الاوصاف الاخرى. لكن ما ورد من هذه الاوصاف يجعل اللفظة المنفردة لا تكفي لأنْ يعوّل عليها في توثيق ما ينقله الراوي. فمثلاً ان النجاشي رغم توثيقه لبعض رجاله الا انه يقرن ذلك بصفات تمنع الاعتماد عليه احياناً، مثل ان يصفه بانه يروي عن الضعفاء او يعتمد المراسيل، وقد يصف الرجل بالثقة ويقرن مع هذا الوصف انه صحيح الحديث، او يصف الرجل بانه ثقة في الحديث... الخ، وكل ذلك ينبئ عن ان انفراد لفظة الثقة لا تدل على وثاقة الرجل في النقل والرواية، فقد يكون ثقة لا يكذب لكنه ضعيف الحافظة او غير دقيق وضابط للحديث، لذلك وصف النجاشي البعض بالثقة واقرن معه انه صحيح السماع او الرواية. مما يدل على ان اغلب رجال النجاشي لم يتعين في حقهم التوثيق الخاص بالنقل والرواية، ولم ترد حولهم علامات دالة على الحفظ والاتقان.
2ـ لقد اقتصر كتاب النجاشي على المصنفين الشيعة، وهو بذلك لا يغطي مساحة الرواة الذين لم يعرف لهم مصنفات. فكما مر معنا ان عدد المصنفات التي ظهرت في عصر الامام الصادق كانت تقدر باربعمائة مصنف، في حين ان الذين رووا عن الصادق كانوا اربعة الاف رجل، فعدد هؤلاء اعظم من عدد المصنفين باضعاف كثيرة، وهم غائبون عن مطلب الكتاب. يضاف الى ان الكتاب قد شمل علماء ومصنفين لا علاقة لهم بالرواية والنقل، كالشعراء والادباء والمتكلمين وما اليهم، وان كان غالب ما تضمنه الكتابُ هو أصحاب الرواية والحديث.
3ـ يغلب على طريقة النجاشي الاهتمام بالسند المتصل، واحياناً لا يذكر السند، كما يصدّر سنده احياناً بعبارة (اخبرنا عدة من اصحابنا) او ما يقابلها من معنى مثل الجماعة وما اليها، وذلك على شاكلة ما الفه اصحاب الحديث؛ مثل الكليني والطوسي. مع هذا فان اهتمام النجاشي بالسند جعله ينقل كيفية مختلفة من الاتصال بين الرواة، فهو عادة ما يصدر السند بلفظة (اخبرنا) وبعد ذلك قد يخلل اواسطه بعبارة العنعنة ثم يعقبها بعبارات دالة على الاتصال والسماع المباشر، مثل عبارة (قال حدثنا..) ويذكر اسم الراوي، او قد يكون العكس فيروي بمثل هذا السماع المباشر ثم يعقبه بالعنعنة، واحياناً يمتزج الحال باشكال من التعاقب في سلسلة السند الواحد، مثل قوله في احد رجاله: (اخبرنا به احمد بن محمد عن احمد بن محمد قال: حدثنا عمر بن احمد بن كيسبة عن علي بن الحسن الطاطري قال: حدثنا محمد بن زياد عن عبد الله)[18]. وهذا يعني ان هناك تمايزاً بين العنعنة وبين السماع المباشر، وان وجود الاولى دال على المسامحة في النقل، كالذي يحصل في نقل الاحاديث، حيث هو الاخر قائم على المسامحة بفعل غياب ما يدل على الاتصال والسماع المباشر.
4ـ فهرست الطوسي
أما ما قدمه الشيخ الطوسي في علم الرجال فهو ان له كتابين يعرفان برجال الطوسي والفهرست. ويسمى الكتاب الاول بالابواب، حيث انه مرتب على ابواب بعدد رجال صحابة النبي واصحاب كل واحد من الائمة ممن روى عنهم مباشرة او بواسطة، وقد جاء في مقدمة الكتاب قول الطوسي: ‹‹اني قد أجبت الى ما تكرر سؤال الشيخ الفاضل فيه، من جمع كتاب يشتمل على اسماء الرجال، الذين رووا عن رسول الله (ص) وعن الائمة (ع) من بعده الى زمن القائم (ع)، ثم أذكر بعد ذلك من تأخر زمانه من رواة الحديث أو من عاصرهم ولم يرو عنهم. وارتب ذلك على حروف المعجم، التي اولها الهمزة وآخرها الياء، ليقرب على ملتمسه طلبه، ويسهل عليه حفظه››[19]. وفي اخر الكتاب وضع الطوسي باباً لمن لم يرو عنهم. وهو قد يذكر اسم الرجل في بعض الابواب ثم يكرر ذكره في باب من لم يرو عنهم، فيبدو في الامر تناقض، مما جعل المتأخرين يوجهونه بعدد من التوجيهات؛ كالحكم بتعدد الاشخاص مع اتفاق الاسم[20].
لكن تبقى مشكلة الكتاب هو انه يكاد يخلو من التوثيق ويقتصر على ذكر اسماء الرجال ونسبهم وطبقاتهم، حيث الفه الطوسي لهذا الغرض، وإن اشار في النادر الى كلمة ما من التوثيق.
اما كتاب الفهرست فهو العمدة لدى علماء الرجال والتوثيق، ونظرة داخلية له ترينا بان مجموع مواده الرجالية تقارب تسعمائة (888) مادة. والغالب في طريقة الطوسي انه يذكر السند بالعنعنة، لكنه يصدره بعبارة الثنا حدثنا او اخبرنا، واحياناً يذكر عبارة (اخبرنا عدة من اصحابنا) وما شاكلها، كما قد لا يذكر السند تماماً. وحديث الطوسي في اغلب مواده مختصر وقليل، الى درجة قد لا يتجاوز حد السطرين لكل مادة، بما فيها ذكر اسم الراوي وسلسلة السند، وذلك حسب الطبعة الحديثة التي اعتمدناها، وان حوالي ثلاثة ارباع المواد لا يتجاوز كل منها الثلاثة اسطر. وتعد كلمات التوثيق في الرجال عند الطوسي قليلة، واغلب ما كان يذكره في رجاله هو الاكتفاء بتعريف الرجل ان له كتاباً؛ دون ان يعرّف باسم الكتاب. وهو في كثير من الاحيان لا يهتم بنقل السند، كما قد يذكر ان للرجل اصلاً دون ذكر اسمه، او ان له روايات او نوادر او مسائل، واحياناً قليلة يكتفي بان يقول ان له كتباً او اخباراً او مصنفات، لكنه في حالات كثيرة ايضاً يشير الى اسماء الكتب والمصنفات. وفي كتاب الطوسي هناك جماعة كثيرة لم يعرفوا باسمائهم سوى الكنية او اللقب او القبيلة او البلد، واغلب ما كان يذكره عن الواحد منهم ان له كتاباً، وقد يذكر السند، كما قد لا يذكره، او يكتفي بعبارة رواه فلان وما الى ذلك. كما في الكتاب حالتان لم يذكر فيهما شيء غير الاسم فحسب، وهما حالة زيد البرسي[21]، وحالة اخرى عرفها بالكنية واللقب، دون ان يذكر حولها شيئاً اخر، وهي تخص ابا حفص الرماني[22].
لو اردنا ان نقارن بين فهرست الطوسي وفهرست النجاشي، برؤية داخلية للكتابين، سنجد ان الاول اقل قيمة من الثاني، فعدد الرجال في الاول اقل مما جاء في الثاني، وان ما ذكره الطوسي من اسطر لاغلب المواد هو اقل مما ذكره النجاشي. والاهم من ذلك هو ان الطوسي قلما تعرض لتوثيق رجاله بخلاف ما فعله النجاشي. كما ان الطوسي غالباً ما كان يعرف الرجل بان له كتاباً او اصلاً او روايات او غير ذلك دون ان يحدد اسماءها، وهو خلاف ما فعله النجاشي، وايضاً فان سلسلة السند التي ذكرها الطوسي تمتلئ بالعنعنة بعد التصدير بلفظة اخبرنا وما على شاكلتها.
اما لو اردنا ان نقارن بين الكتابين برؤية خارجية فسنجد ان هناك من قدم رجال النجاشي على كتابي الطوسي (الفهرست والرجال) لاعتبارات عدة كتلك التي ذكرها السيد مهدي النجفي في فوائده الرجالية. فمن جهة هو ان النجاشي تأخر في تصنيف كتابه بعد ان صنف الطوسي كتابيه، وقد ذكرهما في رجاله، مما ينبئ انه استوفى ما لم يستوفه الطوسي. كما من جهة ثانية عرف هذا الاخير بكثرة المشاغل وتعب العلوم بخلاف النجاشي الذي لم يتشعب في العلوم ولم تكن له المشاغل التي كانت لقرينه. كذلك يعد النجاشي افضل من الطوسي في علوم التاريخ والسير والانساب، ثم انه من اهل الكوفة التي اكثر الرواة منها. يضاف الى ما اتفق له من صحبة الشيخ ابن الغضائري الذي عرف بتخصصه في هذا الفن، والذي ذكره الطوسي في مقدمة (الفهرست) بانه الوحيد الذي استوفى الحديث في علم الرجال بخلاف غيره من مصنفي المذهب. واخيراً فان النجاشي قد ادرك الكثير من المشايخ العارفين بفن الرجال ممن لم يدركهم الطوسي[23].
وهناك من اضاف وجهاً اخر من وجوه تقديم رجال النجاشي على كتابي الطوسي، وهو ان الاول يعد من اواخر كتب النجاشي، اي انه نتج بعد كمال مهارة صاحبه وقوة اطلاعه، وليس هو الحال مع كتابي الطوسي، خاصة فيما يتعلق بالفهرست الذي الّفه في شبابه قبل ان تتبلور مهارته ويقوى اطلاعه[24]. كذلك فان جماعة من العلماء رجحوا رجال النجاشي على الطوسي، لتسرع هذا الاخير وكثرة تأليفه في العلوم الكثيرة، مما جعل الخلل في كلامه عظيماً[25].
يضاف الى ان النجاشي انما صنف كتابه بامر من استاذه المرتضى، مما قد يعني ان هذا الاخير لم يكن مقتنعاً بما قدمه الطوسي في هذا المجال، فقد اشار النجاشي الى ذلك في بدء مقدمته للكتاب، مصوراً العلة التي دفعته الى تصنيف كتابه، فقال: ‹‹اما بعد فاني وقفت على ما ذكره السيد الشريف - اطال الله بقاءه وادام توفيقه - من تعيير قوم من مخالفينا انه لا سلف لكم ولا مصنف، وهذا قول من لا علم له بالناس ولا وقف على اخبارهم، ولا عرف منازلهم وتاريخ اخبار اهل العلم، ولا لقي احداً فيعرف منه، ولا حجة علينا لمن لا يعلم ولا عرف››[26]. وكأن النجاشي بفعله هذا قد تبنى مهمة تصحيح ما قدمه الطوسي من تحقيق وتوثيق، خاصة انه لم يعلق على كتابي الطوسي حين تعرض الى ترجمته سوى ان عدهما ضمن مصنفاته، وانه في المقدمة نفى ان يكون هناك كتاب للاصحاب استوفى جمع مصنفات علماء المذهب[27].
[1] رجال النجاشي، ص372
[2] نفس المصدر والصفحة السابقة.
[3] الذريعة، الطبعة الثالثة، 1403هـ ـ1983م، ج1، ص365، وج10، ص141، كذلك: اعيان الشيعة، ج9، ص165
[4] معرفة الحديث، ص56
[5] الذريعة، الطبعة الثانية، 1403هـ، ج4، ص288.
[6] الذريعة، ج10، ص89 و81
[7] معجم رجال الحديث، ج1، ص44ـ45
[8] الفهرست، ص1ـ2
[9] معجم رجال الحديث، ج1، ص44
[10] الذريعة، ج10، ص89
[11] اعيان الشيعة، ج6، ص84
[12] خاتمة مستدرك الوسائل، ج1، ص66
[13] الذريعة، ج10، ص89
[14] جعفر السبحاني: كليات في علم الرجال، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الثالثة، 1414هـ، ص94، عن مكتبة التبيان الالكترونية : http://hozeh.tebyan.net
[15] روضات الجنات، ج1، ص69، وبحر العلوم: الفوائد الرجالية، ج2، ص45ـ46
[16] الفوائد الرجالية، ج2، ص46
[17] الذريعة، ج10، ص154.
[18] رجال النجاشي، ص221
[19] رجال الطوسي، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، 1415هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، المقدمة، ص17.
[20] الذريعة، ج10، ص120، واعيان الشيعة، ج9، ص165.
[21] الفهرست، ص71
[22] الفهرست، ص191
[23] روضات الجنات، ج1، ص70ـ71.
[24] الذريعة، ج10، ص155
[25] نهاية الدراية، ص382
[26] رجال النجاشي، المقدمة، ص3
[27] رجال النجاشي، ص 3 و403