-
ع
+

السؤال عن فهم الخطاب الديني وعلم الطريقة

يحيى محمد 

من الواضح إن طرح سؤال على مستوى كيف نفهم الخطاب الديني نصاً وشريعة، وكيف يمكن إبداء النظر فيما نطق وما لم ينطق به، كسؤال منهجي يطلب الإيضاح ويسلك مسلك الإجتهاد من غير قطع دوغمائي ولا إدعاء مسبق.. إن طرح سؤال كهذا لو أمكن تصوره في القرون الخالية لعُدّ من السذاجة والبلاهة، ما دام التصور العام قائماً - آنذاك - على الوضوح والبيان المستند إلى «الدليل والبرهان»، رغم ما يحفل به هذا الوضوح من تهافت وتناقض.

نعم، إن طرحاً كهذا ليس بإمكانه العيش وسط قرون الوضوح والبيان، وسط الثبات الحضاري. أما اليوم فقد أصبح الطرح ملحاً لا يسعه البقاء حبيساً في صدور الباحثين من المخلصين والملتزمين، الواعين بموجات التناقض التي انتابت الفكر الإسلامي قديماً وحديثاً.

والواقع أن الأحداث السياسية والإجتماعية التي عصفت بالعالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة هي ما حفّزت على هذا الطرح المنهجي لفتح بابٍ ظل مغلقاً منذ قرون. فعلاوة على أن فترة ما قبل «الوعي النهضوي الحديث» لم تشهد تحركاً جاداً ومقصوداً بإتجاه السؤال المشار إليه بين العلماء والمفكرين والفلاسفة والفقهاء وغيرهم، لغياب المحفّز بغياب التطور الحضاري قياساً بما شهدته فترة القرنين الأخيرين.. فكذلك أن الأحداث الكبيرة التي ألمّت بالعالم الإسلامي خلال هذين القرنين؛ لم تشهد هي الأخرى مثل ذلك التحرك، وإنْ عملت على الضغط والتمهيد للدفع نحو السؤال السابق، وما زالت الحاجة تدعو إلى مزيد من الدفع والتنبيه نحو خلق متكامل لذلك الطرح. فلا الإحتكاك الحضاري أفضى للعمل بموجب السؤال الآنف الذكر، ولا إنتهاء نظام (الخلافة) أدى إلى ذلك النوع من التحرك، ونفس الشيء نقوله حول النزاع الذي استمر - وما زال - بين القديم والحديث، بين التمسك بحرفية «النص» وسيرة «السلف الصالح» من جهة، وبين الخضوع لمتطلبات الحاضر من جهة أخرى، أو بين الوقوف في طرف التراث واستصحاب الحاضر عليه، وبين التطلّع إلى هذا الحاضر وجرّ التراث إليه بالتأويل والأدلجة طبقاً لجعل الحاضر مفتاحاً للماضي كالذي يقوم به علماء طبقات الأرض.. كل ذلك لم يعمل على إبراز مضمون السؤال المنهجي الآنف الذكر. فكل ما صنعته تلك الأحداث هو التحفيز على مشاريع فكرية تنتمي إلى المضامين والمفاصل الجزئية دون أن تبعث على إيجاد مشاريع عضوية من النوع الكلي، على نحو ما نطلق عليه فهم الروح والطريقة العامة التي يتحدد بموجبها النظام المفصلي للرؤية والفكر.

لقد ظهر الصراع حول المرأة بظهور كتابي (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) لقاسم أمين، لكنه كان مقطعاً من مسرحية يعجز الذهن فهمها منه. كما ظهر الصراع حول نظرية الحكم الذي فجّره علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، فجرّ إلى دراسات عديدة تدخل في مسلسل هذا الصراع؛ كما هو الحال مع كتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) للشيخ محمد الخضر حسين، وكتاب (النظريات السياسية الإسلامية) لمحمد ضياء الدين الريس، وغيرهما. ثم ظهر صراع على مستوى فقهاء الشيعة في هذا الدرب، والذي فجّره الإمام الخميني في كتابه (الحكومة الإسلامية) فساهم في بث الوعي أولاً، وبعد ذلك تمّ إنجاز صيغة للحكم أفضت إلى إيجاد دراسات فقهية تسير على هذه الطريق، مثل كتاب (دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية) للشيخ منتظري، وكتاب (أساس الحكومة الإسلامية) للسيد كاظم الحائري. وقد أدى هذا الحال إلى خلق صراع جديد بين ما يُعرف بنظرية «ولاية الفقيه المطلقة» وطرف آخر أفرزته الظروف الخاصة بالحكم وأخذ يعلن عن نفسه بحمله لنظرية «الشورى» المقيدة بالفقهاء، كما هو واضح مما جاء في كتاب (شورى الفقهاء) للسيد مرتضى الشيرازي وبعض الدوريات الشيعية الأخرى، فهو مشروع مضاد لمشروع «الحكومة الإسلامية» أو «ولاية الفقيه المطلقة».

وقد صنعت مثل هذه الظروف طرفاً ثالثاً سعى للمصالحة بين الديمقراطية ونظام الحكم الإسلامي، لكنه لم ينضج بعد. كما وظهر صراع نظري عام يتعلق بالموقف من التراث في قبال الحداثة، وهو موضوع غطى على غيره من الصراعات الأخرى في الساحة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

والملاحظ أنه رغم تجذّر تلك الصراعات المعرفية بفعل تطورات الظروف؛ فقد ظلت مفصلية لا تعبّر عن حقيقة الصراع الجوهري، فهي كأغصان الشجرة وأوراقها التي تخفي الجذور تحت سطح الأرض، مع أن هذه الجذور هي التي تمدّها بالحياة والنمو، أي أن ما خفي من الشجرة أهم وأعظم مما بدا منها. فما خفي هو أساس ما ظهر ويظهر، وإن أطمسه أصحاب الصراع أو غفلوا عنه، كجبل الثلج الراسخ في أعماق المحيط. مما يعني أن مظاهر الصراع الفكري المفصلي تعكس نزاعاً خفياً يمسّ النظام الكلي لفهم الخطاب الديني، وأن الصور البادية على ساحل بحر الفكر؛ ما هي إلا تجليات أعماق روحه الكلية.

هكذا فالصراعات التي شهدتها الساحة العربية والإسلامية هي صراعات تمسّ البناء الفوقي للفهم دون بنائه التحتي، رغم تعذّر الحكم والبتّ في الأول ما لم يعالج الأخير. فالبناء الفوقي للفكر بكافة مظاهره وأشكاله، ومنها ما يتعلق بالفهم الديني، قائم على البناء التحتي، وأن هذا الفهم بتجلياته المختلفة، سواء تعلّق بالقضايا السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية أو غيرها، كلها رهينة الفهم المتجذر تحتياً والمتصف بالكلية والشمول.. وإن بدا خفياً على مَن إنشدوا إليه في الفهم وتوليد المعرفة.

بالفعل هناك مشاريع هامة جريئة ظهرت مؤخراً، وعالج بعضها الفكر الإسلامي من زاوية علاقته بفهم الخطاب مباشرة، لكن عيبه أنه تناول الفكر بطريقة تجزيئية تفتقر إلى المنهجة الكلية والشمول، كما هو الحال مع أعمال (نصر حامد أبو زيد)[1]. وحاول بعض آخر أن يلمّ بمفاصل الفكر الإسلامي ابرازاً ونقداً، لكن آفته أنه لم يمارس نشاطه المعرفي بحسب ما يقتضيه النظام الكلي للفكر، مما جعله يظهر وكأنه يدور على ما دار عليه التراث؛ بلا ضوابط تمسك به وتسيطر عليه روحاً وطرقاً، كما يظهر من مشروع (حسن حنفي) ذي الجبهات الثلاث. وقد كان هذا المفكر يلوّح بإشاراته المتعددة إلى منهجه الخاص والجديد حول فهم الخطاب؛ كتتويج للمشروع الذي بدأه منذ مدة طويلة، لذا توقّعنا عند الطبعة الأولى من كتابنا هذا أن يظهر لديه الأهم مقارنة بما شاهدنا له من دراسات، بإعتباره يجد طريقه الخاص إلى فهم الخطاب كما هو واضح من الإشارات التي أثارها صاحب المشروع هنا وهناك. ولما ظهر هذا المنهج في كتابه (من النص إلى الواقع) سنة 2005م وجدناه لم يخرج عن شكليات أصول الفقه ومضامينه التراثية دون أن يقدّم جديداً؛ سوى الدعوة إلى تغليب العقل والواقع – لا سيما المصلحة منه - على النص، ومن ذلك أنه إعتبر نفسه قد كتب كتابه (من النص إلى الواقع) لأجل الفقيه ودفعاً للشبهة حول تطبيق الشريعة الإسلامية. فقد وضع الكتاب للفقيه «من أجل أن يحسن الإستدلال ويغلّب المصلحة العامة، وهي أساس التشريع، على حرفية النص، وإعطاء الأولوية للواقع على النص». كما استهدف في الوقت ذاته العمل «ضد شبهة أن التشريعات الإسلامية حرفية فقهية تضحي بالمصالح العامة؛ قاسية لا تعرف إلا الرجم والقتل والجلد والتعذيب وقطع الأيدي، والصلب والتعليق على جذوع النخل وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وتكليف بما لا يطاق. كما أن من ضمن مآسينا خروج بعض الحركات الإسلامية المعاصرة من النص الحرفي وتطبيق شعاراته حول الحاكمية لله وتطبيق الشريعة الإسلامية والبديل الإسلامي دون رعاية لواقع متجدد او لتدرج في التغير». وبالتالي فقد أراد أن يعيد قراءة النص «طبقاً لروح العصر واكتشاف بنيته في تحليل الشعور»[2].

لكن في جميع الأحوال فإن حسن حنفي لم يتناول إشكالية الواقع بالبحث والدراسة، وعلاقتها بالنص، بل ظل عالقاً ببحث موضوعات أصول الفقه، سيما شكليات كتب هذا العلم وعناوينه على مرّ العصور، كما في الجزء الأول من كتابه الآنف الذكر.

ويمكن اعتبار طريقته إمتداداً للطريقة التراثية، إذ وضع مشروعه حول «التراث والتجديد» وضعة «تراثية» أراد منه أن يكون خليفة لكتاب (المغني في أبواب التوحيد والعدل) أو كتاب (المحيط بالتكليف) للقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي، معتبراً مشروعه تطويراً «للتيار العقلي الطبيعي الإعتزالي مع إدخال عنصر الثورة والتحرر عليه، وهي مكتسبات في حياتنا المعاصرة»[3]. الأمر الذي يتفق مع وسمه للمشروع سمة «التراث والتجديد»، فهو بالأساس لم يوضع لغرض فهم الخطاب الديني كاستراتيجية مركزية[4].

مع ذلك ففي هذا المشروع بعض المؤشرات صادف أن وجدناها تتفق مع ما نميل إليه مبدئياً، رغم الاختلاف في التفصيل، سيما فيما دعا إليه حول «الواقع» كأساس منهجي للتفسير والنظر. فهناك وعي تام يظهر لأول مرة على الصعيد المنهجي مؤسس على «الواقع» في قبال كل من العقل والنص[5].

كما هناك بعض آخر بنى طريقته على المنهجة والإمساك بالنظام الكلي للفكر الإسلامي كشاغل أساس يمكن من خلاله السيطرة على مفاصل الفكر وتحديد جهاته، مستعيناً في ذلك بالنقد المعرفي الإبستيمي، وإن لم يشغله مشكل فهم الخطاب، ولم يفعل سوى إبداء النقد الجذري للأجهزة الفكرية التي تكونت ومارست نشاطها معرفياً وآيديولوجياً، كما هو الحال مع مشروع محمد عابد الجابري الذي نحسبه أنضج المشاريع العلمية لمعالجة التراث على الصعيد المنهجي، لإهتمامه بتلك المنهجة من الامساك بحبال الفكر العربي الإسلامي[6]، مما جعلنا نصدّر كتاباً مستقلاً لمعالجة ما قدّمه من مشروع، وهو كتاب (نقد العقل العربي في الميزان)[7]. أما ما قدّمه هذا المفكر مؤخراً حول فهم الخطاب، وبالذات حول القرآن بجزئيه المدخل والفهم، فلا يعدّ شيئاً مهماً يستحق الذكر والمعالجة مقارنة بمشروعه المنهجي السابق.

وبالرغم من وجود مثل تلك المشاريع، إلا أن الساحة العربية والإسلامية ما زالت تشهد غياباً لتنظيم الفكر الإسلامي تنظيماً منهجياً وكلياً يأخذ بعين الإعتبار استراتيجية فهم الخطاب كشاغل أول وأساس، وبالتالي فإنها تشهد - كذلك - غياب النظر في وضع الخطط الممكنة إبستيمياً (أي المعرفة العلمية) لصياغة التصورات المنهجية الجديدة من النظام الكلي، على النحو الذي يكون شاغلها التخلص من أزمات الفكر والوقوف كأطراف كلّية تنافس الأطراف المتجذرة التي مارست دورها المعرفي طيلة قرون عديدة من الزمان.

وعلى العموم يلاحظ أن مسلك الفكر المعاصر يتبع في كثير من جوانبه روح التفكير العامة للأجهزة المعرفية في التراث، فهو في الغالب لا يقدم منهجاً كلياً لفهم الخطاب الديني مباشرة، بل يعمد لينتظم كتابع ومؤيد لجانب من جوانب هذا التراث، وإن كان ما يستهدفه من هذا الانتظام هو اتباع الروح العامة لا المفاصل، خلافاً للطريقة التي سادت في التراث ذاته، إذ كان الهم محدداً بالمفاصل لا الروح العامة للتفكير.

فالفكر المعاصر منقسم على ذاته في الغالب بين محيٍ للغزالي وإبن رشد والمعتزلة وغيرهم، وهو في هذا الإنقسام لا تهمه المفاصل المعرفية بقدر ما تهمه الروح العامة من التفكير، فكأن ما كان غائباً أو ضعيفاً في الماضي قد أصبح حاضراً اليوم. كل ذلك للدواعي الآيديولوجية الحاضرة بوعي وقوة لإستهداف النهضة والتغيير عبر عمليات الانتظام بجوانب التراث. وكأن الإتجاه المعاصر لجأ للماضي كهمزة وصلٍ لفتح الحاضر، خلافاً لنهج (ماركس) الذي جعل من تحليل الأخير قنطرة منصوبة لفتح الماضي؛ على شاكلة ما قاله العالم الجيولوجي (جيمس هتون) خلال القرن الثامن عشر: إن الحاضر هو مفتاح الماضي[8].

أما الطرائق التقليدية الحالية فقد ظلت مستصحبة الماضي كما هو، وهي منقسمة بإنقسام التراث ذاته. أو يمكن القول أن الإنقسام المنهجي للتراث ظل وما زال كما هو لم يتغير. فما زال الحاضر يشكل تجسيداً حياً لإنقسام الفكر التراثي من قبل. فهناك الفكر الفلسفي؛ كما تمسكت به بعض التيارات في ايران، كما هناك الفكر الصوفي؛ كما في ايران وتركيا وبعض الاقطار العربية؛ كمصر والسودان والمغرب. يضاف إلى الفكر السلفي البياني كما في السعودية واليمن وغيرها، فضلاً عن الفكر العقلي الأصولي كما يحضر في بلدان إسلامية عديدة، كمصر والعراق وغيرهما.

***

إن الغرض من السؤال المطروح «كيف نفهم الخطاب؟» هو لطلب الوضوح «المنهجي» وتأسيس المعرفة كمسعى للقضاء على اضطراب الفكر وتناقضاته في الماضي والحاضر. وربما يُظن من هذا السؤال ـ باستفهامه ومعناه ـ البساطة والسذاجة لما ألفناه من السلوك الاستصحابي والتكراري للعلماء إزاء موقفهم من الخطاب الديني. فالإجتهاد محددة مصادره وأصوله، والنص مبينة معايير فهمه والتعامل معه، وليس هناك ما يحتاج إلى استئناف نظر. وربما يضيف البعض إلى هذا، فيحسب أن ذلك العمل من سلوك العلماء هو عمل تعبدي سلفي يحرم تجاوزه، فأي بحث فيه علامة تجديد كلية هي بمثابة البدعة المحرمة. وينطلق هذا التصور من وجود برنامج صحيح وكامل يفي بجميع المتطلبات ويجيب على مختلف التساؤلات ويسدد كافة الاحتياجات.

ولا شك أن من الخطأ أن نشغل أنفسنا بمناقشة مثل هذا الرأي، فهو يحكم على نفسه بمثل ما يحكم به على غيره. فالطريقة التي أوصلته إلى قناعة لتأسيس النظر وتشييد الفهم وإنتاج المعرفة، هي وحدها تكفي لمنح مبرر ومشروعية مثل ذلك التأسيس والفهم والإنتاج عند المقابل. بل الواقع إن مقالة كتلك تفضي إلى السقوط في الدور، حيث لا تتأسس حجية التعبد ما لم تثبت عملية الفهم. إذ لما كانت تلك الحجية متوقفة على فهم الخطاب، فإن الفهم ـ أي فهمٍ كان ـ يتعذر أن يضاد بالتعبد، وإنما بفهم مثله. فحجية التعبد هي قضية معرفية متوقفة على فهم الخطاب، وهذا الأخير يتوقف بدوره على تأسيس النظر القبلي، كشرط من شروط الإمكان المعرفي، وبالتالي فالسير بالإتجاه المعاكس يفضي - من الناحية المنطقية - إلى الدور لا محالة.

ومن الناحية الإبستيمية (المعرفة العلمية) لا ينحصر التعامل مع الخطاب الديني بحدود الفهم، فهناك عمليتان أخريان، إحداهما تسبق الفهم وظيفتها تأسيس المعرفة القبلية، وتكاد تتداخل معه أحياناً إلى حدّ التماهي والتعبير عن نفس هذا الفهم، كالذي يجري مع طريقة النقليين أو البيانيين. أما الأخرى فمتفرعة عن إحدى العمليتين أو كليهما معاً، وظيفتها توليد وإنتاج الهيكل المفصلي للفكر في جميع ميادين العقل والكون والميتافيزيقا وسائر الأمور المعيارية الأخرى، بما فيها تلك التي تستند إلى فهم الخطاب، إذ تجعل منه مصدراً للإجتهاد والإستنباط.

من هنا كان لا بد من التمييز بين هذه المستويات الثلاثة للمعرفة. فهناك فهم النص أو الخطاب. كما هناك التأسيس القبلي للنظر والمتمثل بالقبليات الأساسية التي تسبق الفهم، وهي تشكل شرطاً لإمكان الفهم والتفكير. وأخيراً هناك التوليد والإنتاج المعرفي المستنتج من التأسيس أو الفهم أو منهما معاً.

وتعد هذه المستويات مترابطة فيما بينها، إذ بعضها يتأسس على البعض الآخر. فالفهم متأسس على التأسيس القبلي للنظر، كما أن التوليد والإنتاج المعرفي يتأسس بدوره على كل من المستويين الآخرين. لكن مع لحاظ أن التوليد والإنتاج المعرفي قد يُبنى على التأسيس القبلي للنظر فحسب، كما قد يُبنى على الجامع المشترك بين التأسيس القبلي والفهم. بيد أنه من المحال أن يُبنى على مجرد الفهم فحسب؛ باعتبار أن الأخير مبني على الأول بالحتم واللزوم.

بعد هذه الإشارة نعود لنتساءل عن الوضوح السائد في القرون الخالية، فهل هناك برنامج متفق عليه يستوعب مستويات التأسيس والفهم والإنتاج المعرفي كما أشرنا إليها سابقاً؟ أم هناك برامج متنافسة ومتضاربة، بعضها يدعو لتكذيب البعض الآخر؟

واقع الأمر ـ وكما هو واضح ـ هناك برامج متعددة بعضها يضاد وينافس البعض الآخر. فهناك إتجاه يعدّ الخطاب الديني واضحاً وكافياً بذاته، مبرراً هذا الأمر تارة بمقالة «بيان الخطاب» وأن فيه كل شيء، إذ يعدّه معبراً عن حقيقة واضحة ومتجلية لا تحتاج إلى تأويل ولا إلى توجيه.. وأخرى بمقالة «الظاهر»، إذ يعتبر الخطاب ظاهراً ليس فيه باطن ولا خفاء.. وثالثة بمقالة «الناطق عن الخطاب» وذلك من حيث إعتبار الخطاب القرآني والسنة النبوية ليسا محلاً للبيان، أي هما متشابهان لا تعرف حقيقتهما إلا بواسطة الناطق المفسّر لهما، وهو أمر يختص بالامام المعصوم، إذ وحده يمكنه الكشف عن حقيقة ما يتضمنه الخطاب، بل هو ملهم بجميع الطبقات الظاهرة والباطنة التي يشتمل عليها الأخير.

وفي القبال هناك برنامج لا يعترف - في كثير من الأحيان – ببيانية الخطاب ووضوحه، بل يرد «الوضوح» إلى ركيزة خارجية متعلقة بنوع محدد من العقل هو ما نطلق عليه «العقل المعياري»، كأداة مؤسسة للنظر ومقومة للفهم ومن ثم منتجة للمعرفة والفكر.

كما هناك إتجاه يجعل مفتاح الوضوح مؤسساً على «العقل الوجودي الفلسفي» كمصدر للتأسيس والفهم والإنتاج المعرفي، وليس على الخطاب الديني. يضاف إلى وجود إتجاه آخر يجعل مصدر الوضوح قائماً على الكشف والشهود القلبي الذي يختص به الأولياء والعرفاء، كمسلك ينقذ من الضلال ويفتح للعارف طريق الهداية والبيان.

لا شك أن السؤال المطروح «كيف نفهم الخطاب؟» لا معنى له في عصر النص أو الخطاب، فكل شيء يبدو واضحاً مباشرة، لما تكشف عنه اللغة وقرائن الحال ولسان الأحداث...الخ. فبمثل هذه القرائن وقياساً بما عليه الظروف آنذاك يكون الخطاب واضحاً ومغطياً لحاجات الواقع الذي نزل فيه. حتى عُرف عن الصحابة بأنهم كانوا لا يسألون النبي (ص) عن أمور دينهم إلا ما ندر، بل كانوا يفعلون ما يفعل من غير سؤال إن كان هذا ركناً أو فرضاً أو أدباً، فكان يصلي وهم يرونه فيصلون مثله، وكذا الحال في الوضوء والحج وغير ذلك من العبادات والمعاملات. لذلك جاء عن إبن عباس قوله: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله (ص) ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلّهن في القرآن، منهن: يسألونك عن الشهر الحرام...الخ[9]. كما قال بعض السلف وهو يخاطب معاصريه: انكم تسألون عن أشياء ما كنّا نسأل عنها، وتنقّرون عن أشياء ما كنّا ننقّر عنها، وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي. وعن عمر بن اسحاق أنه قال: لمن أدركت من أصحاب رسول الله (ص) أكثر ممن سبقني منهم؛ فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم[10].

أما بعد العصر السابق، فلسان حال السؤال عن الفهم أخذ يظهر أكثر فأكثر، كلما امتدّ الزمان واشتدت الظروف وكثرت الأحداث وتطورت الحياة، حتى جاء اليوم الذي أصبح لهذا السؤال منحى آخر لم يرد في العصور القديمة. فما هو المعنى الذي يحمله السؤال الآنف الذكر؟ وما هو الفرق بين تصور ما قبل «الوعي النهضوي» وما بعده؟

لقد تميزت إشكالية عصر ما قبل «الوعي النهضوي» بأنها ذات طابع مزدوج للعقل والنص، وأحياناً يضاف إلى ذلك الطابع العرفاني. فتارة كان التعامل المعرفي جارياً ضمن دائرة «العقل»، وأخرى ضمن دائرة «النص»، وثالثة ضمن إعتباراتهما معاً. ولم يظهر ما يدعو لطرح السؤال الآنف الذكر لإعتبارات الوضوح والبيان التي أشرنا إليها، فالسؤال من هذه الناحية يقع أو يكاد يقع في قائمة ما يطلق عليه «اللامتفكر فيه»، إلا أن التنافس على التمثيل الحقيقي للخطاب بين الإتجاهات المعرفية كان يعبّر بشكل مبطّن وغير صريح عن مضمون ذلك السؤال، رغم أن هذا الأمر لم يُلحظ إلا بمنظار يقع خارج دائرة تلك الإتجاهات المتنافسة.

ومع أن السيادة في الصراع الدائر بين الإتجاهات المعرفية كان للطريقة التي مزجت بين إعتبارات «النص والعقل»، إلا أن الأحداث والتطورات التي شهدها العالم الإسلامي منذ ما يقارب المائتين سنة الأخيرة جعلت من تلك الإشكالية المطروحة غير كافية للتأسيس والفهم والإنتاج المعرفي. فهناك «عامل» خرج ليعبّر عن نفسه كعنصر ضروري للدخول والتفاعل ضمن لائحة التأسيس والفهم والإنتاج، وهو ما يتمثل بـ «الواقع». مما جعل طرح السؤال الآنف الذكر ضرورياً وسط ما قلبته الأحداث من مفاهيم، ومهّد لنوع جديد من التعامل، لا مع الخطاب الديني أو الشريعة فقط، بل مع القنوات الفكرية التي تصدّت لفهمه عبر عمليات تأسيس النظر والإنتاج المعرفي. فقد أصبح الهمّ ليس في المنظومات التي انتجتها وأفرزتها تلك القنوات، بل في طرائق وأدوات التأسيس والفهم والإنتاج، سيما وأن الصراع والتنافس بين المذاهب قد أفضى إلى بلورة وتحديد هذه الأدوات والطرائق من الناحية الإبستيمية (المعرفة العلمية). وهو ما سمح لنا بأن نرى وراء ذلك الصراع المذهبي اللاهوتي، صراعاً آخر يمتزج معه، فيظهر حيناً ويختفي حيناً آخر، وهو النزاع المنهجي الإبستيمي الناشئ عن أجهزة الفكر وأدواتها المعرفية، والذي يختلف عن الهياكل المفصلية للصراعات المذهبية.

حاجة الفهم الديني لعلم الطريقة

يعتبر علم الطريقة منطقاً تحتاجه العلوم البشرية كافة، وبالتالي جاز تطبيقه على الفهم الديني وغيره من الدراسات. ومن الطبيعي أن يكون متأخراً زماناً عن العلوم المستندة إليه، رغم أنه يقتضي - من الناحية المنطقية - تقدّمه عليها. فتاريخ أي علم يبدأ بغير ما يراد له البدء به فيما بعد، أي يبدأ خارج حدود المقتضيات المنطقية. وإذا كان (البحث البراني) يمكنه أن يحدد لنا البداية التاريخية، فإن (البحث الجواني) كفيل بتحديد البداية المنطقية. ففي العلوم الطبيعية والرياضية، لم يعرف علم الطريقة إلا متأخراً، وقيل أن (عمانوئيل كانت) هو أول من أشار إلى وجود علم لا هو من العلوم الطبيعية ولا من العلوم الرياضية، وهو الذي عُرف فيما بعد بعلم المناهج.

فالعلوم البشرية لا تكتمل ما لم تُستحكم وينضبط التفكير فيها وفقاً لعلم الطريقة. لهذا أدرك القدماء ما لهذا العلم من ضرورة في العديد من نواحي المعرفة. وعادة ما يُلتفت إليه بعد الأثر الذي تحدثه فوضى النتاج المعرفي واضطرابه، فهو – من هذه الناحية - كالخفاش أو البومة لا ينشط ويطير إلا بعد أن يفقد النهار بريقه ويرخي الظلام سدوله، كالذي تؤكده العلوم الآتية التي سنختصر الحديث عنها.

فمن الناحية التاريخية يبدو أن أول العلوم التي يشملها علم المناهج هو المنطق كما وضعه أرسطو مستهدفاً به إحكام التفكير الفلسفي بعد أن عَلتْه فوضى التراكمات التي خلّفتها المذاهب الفلسفية آنذاك. ويعد المنطق منهجاً للنظر والتفكير المناط بالمعرفة البشرية عامة. رغم أن تعلم المنطق لا يحتم على المتعلم ممارسة التفكير المنطقي.

ومن العلوم المنهجية الأخرى ما شهدته الحضارة الإسلامية، كعلم الأصول للفقه، والنحو للغة، والعروض للشعر، وغيرها. فقد وضع الشافعي أصول الفقه ليحكم به اسلوب إستنباط الأحكام الشرعية حسب القواعد المعتبرة. وقيل أن علة إقدام الشافعي للتكلم في أصول الفقه دون من سبقه من الفقهاء، هو لأن الفقهاء كانوا منشغلين بالأحاديث التي ترد كل واحد منهم في بلاده، فإذا تعارضت عليه أدلة هذه الأحاديث حكم عليها بحسب ما لديه من فراسة. أما في عصر الشافعي فقد تفاقم الأمر حين اجتمعت أحاديث البلدان جميعاً، فكان التعارض مضاعفاً، تارة بين أحاديث البلاد الواحدة، وأخرى بين أحاديث البلدان المختلفة، فأوقع ذلك حيرة لدى العلماء لكثرة التعارض والإختلاف، فانبرى الشافعي ليضع حداً للتعارض عبر رسالته في أصول الفقه، فوضع قواعد الجمع والترجيح بين الادلة المتعارضة[11]. كما ذكر إبن خلدون بأن السلف لم يكونوا بحاجة إلى النظر في الأسانيد لقرب عصرهم وممارسة النقلة وخبرتهم بهم، لكن «لما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها إلى صناعة؛ احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه»[12].

ويصدق الحال على النحو بالنسبة إلى اللغة، إذ ذُكرت روايات عديدة تؤكد بأن وضع النحو كان بسبب الفساد الذي حلّ في اللغة بين الناس. وجميع الروايات تشير إلى أن واضع هذا العلم هو أبو الأسود الدؤلي، منها أنه جاء الدؤلي إلى زياد بن أبيه فقال: أرى العرب قد خالطت العجم فتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاماً يقيمون به كلامهم؟ قال زياد: لا، فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير توفي أبانا وترك بنون، فقال زياد: ادعُ لي أبا الأسود، فدعي فقال: ضع للناس الذي نهيتك عنه. وفي رواية أخرى عن المازني أنه قال بأن السبب الذي وضعت له أبواب النحو أن بنت أبي الأسود قالت له: ما أشدُّ الحر؟ فقال: الحصباء بالرمضاء، قالت: إنما تعجبت من شدته، فقال: أو قد لحن الناس، فأخبر بذلك علياً (ع) فأعطاه أصولاً بنى منها وعمل بعده عليها[13].

وفي جميع الأحوال تتقدم العلوم تاريخياً على المناهج الموضوعة لإحكامها، وأن صناعة هذه المناهج تأتي بعد أن تمر العلوم بظاهرة الفوضى والفساد. فالأخيرة هي التي تلفت نظر العلماء للبحث عن المناهج الكفيلة بإحكام التفكير في العلوم؛ تجنباً لتراكمات هذه الظاهرة.

ويصدق هذا الحال من وجه على تاريخ الفلسفة التي يشكل بحث «المعرفة» فيها منطقاً لضبط وإحكام البحثين الآخرين المتمثلين بالوجود والقيم. فقد نشأت الفلسفة كبحث في «الوجود»، ومن ثم ظهر البحث في «المعرفة»، مع أن النظر المنطقي يفترض أن يكون هذا المجال متقدماً على الأول وعلى بحث القيم المفترض تأخره عن البحثين الآخرين معاً. فالنسق العلمي إن كان ذا طبيعة قيمية فلا بد من أن يسبقه نسق يناسبه على صعيد الوجود، وهذا الأخير ينبغي أن يسبقه نسق ثالث على صعيد المعرفة. مما يعني أن إشكالية المعرفة يجب أن تتقدم منطقياً على إشكالية الوجود، وأن هذه الأخيرة ينبغي بدورها التقدم على إشكالية القيم.

***

لكن على الرغم مما سبق فإن قنوات المعرفة المتعلقة بفهم الخطاب، والتي يتأسس عليها الفكر الإسلامي بعمومه، مازالت إلى الآن لم تتشكل وتترعرع بوصفها أجهزة «طرقية» لها فروعها وعلومها المختلفة، بل نشأت وترعرعت بعنوان علوم ومذاهب، إبتداءاً من مرحلة التدوين والتنظير خلال القرون الأولى للهجرة وحتى عصرنا الحاضر. بمعنى أن هذه الظاهرة أخذت تلازم تاريخ الفكر الإسلامي إلى يومنا الحالي، إذ ما زال هذا الفكر هيكلاً مفصلياً مجزّءاً لم يتسنَّ له القيام بتأسيس علم الطريقة كمنهج أساس لفهم القنوات الكلية للمعرفة التي تستهدف فهم النص أو الخطاب، رغم تراكم المشاكل الخاصة بفوضى النتاج المعرفي وفساده.

نعم، لا ننكر وجود تقسيمات وتصانيف أُجريت على العلوم منذ بداية مرحلة التدوين. ومع أن علم الطريقة لا يمكنه الاستغناء عن التصنيف، إلا أن ما حدث لا علاقة له فيما نحن بصدد بحثه. فهي مجرد تصانيف تخلو من توضيح الظاهرة النظامية أو النسق الأكسيومي (axiomatic system) لعلاقة الأداة أو الآلية بالإنتاج المعرفي. ويتضمن مفهوم هذا النسق بعض الإفتراضات النظرية التي تتأسسس عليها جملة من النتائج المشتقة أو المستنبطة، وهو منهج مطبق في كل من الرياضيات والفيزياء. كما أنه موظّف لدى النظريات المعرفية أو الفلسفية. وأبرز الأمثلة عليه ما يتعلق بالبديهات الإقليدية ومشتقاتها الهندسية المعروفة.

كذلك فإن معظم التقسيمات والتصانيف المشار إليها تتصف بالعموم ولا تترصد أخذ إعتبار استراتيجية فهم النص أو الخطاب، بل همّها حمل العلوم على منحاها العام. فأقدم ما وصلنا منها ما يعود لعالم الكيمياء الباطني جابر بن حيان الكوفي (المتوفى حوالي سنة 199هـ)، والذي يقيم تصنيفه تبعاً لإعتبارات النزعة اللاهوتية، إذ يرى العلوم منقسمة إلى ضربين، فهي إما علم دين أو علم دنيا. ثم أنه يقسّم علم الدين إلى ما هو شرعي وما هو عقلي، والشرعي عبارة عن ظاهر وباطن، أما العقلي فهو قسمان، علم حروف وعلم معان، وعلم الحروف ينقسم إلى طبيعي وروحاني، والروحاني ينقسم إلى نوراني وظلماني، أما الطبيعي فينقسم عنده إلى أربعة أقسام هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وأما علم المعاني فعبارة عن فلسفي وإلهي. وكل ذلك يعود إلى علم الدين، أما علم الدنيا فينقسم عنده إلى شريف ووضيع[14].

وقد استمر مثل هذا التقسيم الثنائي، فتارة تقسم العلوم إلى علوم الأوائل وعلوم المسلمين، وأخرى إلى علوم نقلية وعقلية. والتقسيم الأخير هو الذي ساد على غيره، كتقسيم إبن خلدون الذي ضم في مقدمته علم التصوف إلى العلم النقلي. وكذا فعل الغزالي قبله، إذ قسّم العلم إلى شرعي وعقلي وعدّ أحدهما يداخل الآخر، كما في رسالته (اللدنية)[15]، وفي (المستصفى) اعتبر العلوم منقسمة إلى دينية وعقلية ـ غير دينية ـ[16]، كما قام بتقسيم آخر في نفس هذا الكتاب، فاعتبرها ثلاثة أصناف، عقلية محضة كالحساب والهندسة والنجوم، ونقلية محضة كالأحاديث والتفاسير وما إليها، ومزدوجة كالفقه وأصوله[17].

وهناك تصانيف أخرى كما في التقسيم الذي وضعه الفقيه إبن عبد البر النمري (المتوفى سنة 463هـ) والذي جاء على غرار تقسيم أهل الفلسفة، فهو يرى أن «العلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط، فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزل الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم نصاً، والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة، والعلم الأسفل هو أحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والزي والتزويق والخط وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتي عليها وصف وإنما تحصل بتدريب الجوارح فيها. وهذا التقسيم في العلوم كذلك هو عند أهل الفلسفة إلا أن العلم الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العلوية التي ترتفع عن الطبيعة والفلك ...»[18].

كذلك قسّم اخوان الصفا العلوم إلى رياضية وشرعية وفلسفية، والشرعية منها ستة علوم: علم التنزيل، وعلم التأويل، وعلم الروايات والأخبار، وعلم الفقه والسنن والأحكام، وعلم التذكير والموعظة والزهد والتصوف، وأخيراً علم المنامات[19].

وأيضاً فهناك تصنيف سباعي يعود إلى إبن حزم الاندلسي (المتوفى سنة 456هـ)، فهو يرى أن «العلوم تنقسم أقساماً سبعة عند كل أمة وفي كل زمان وفي كل مكان، وهي: علم شريعة كل أمة، فلا بدّ لكل أمة من معتقد ما، إما إثبات وإما إبطال، وعلم أخبارها وعلم لغتها، فالأمم تتميز في هذه العلوم الثلاثة، والعلوم الأربعة الباقية تتفق فيها الأمم كلها، وهي علم النجوم، وعلم العدد والطب، وهو معاناة الأجسام، وعلم الفلسفة، وهي معرفة الأشياء على ما هي عليه من حدودها من أعلى الأجناس إلى الأشخاص، ومعرفة إلهية.. وعلم شريعة الإسلام ينقسم أقساماً أربعة: علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الفقه، وعلم الكلام. فعلم القرآن: ينقسم إلى معرفة قراءته ومعانيه. وعلم الحديث: ينقسم إلى معرفة متونه ومعرفة رواته. وعلم الفقه: ينقسم إلى أحكام القرآن، وأحكام الحديث، وما أجمع المسلمون عليه وما اختلفوا فيه، ومعرفة وجوه الدلالة وما صحّ منها وما لا يصح. وعلم الكلام: ينقسم إلى معرفة مقالاتهم ومعرفة حجاجهم وما يصح منها بالبرهان وما لا يصح. وعلم النحو: ينقسم إلى مسموعه القديم وعلله المحدثة. وعلم اللغة: مسموع كله فقط. وعلم الأخبار ينقسم على مراتب...» [20].

لكن مهما قيل عن تلك التقسيمات، إن كانت متعسفة أو دقيقة، فإنها لا توضح لنا العلاقة الرابطة بين الطريقة المعرفية ومنتجاتها الخاصة، كما لا توضح لنا العلاقة بينها وبين فهم النص الديني. فهي تتجاوز من حيث العموم هذا المضمار، وبعضها يقوم بتشتيت ما ينبغي لمّه طبقاً لاستراتيجية فهم النص أو الخطاب. ففي هذه الحالة يتحدد منطق التقسيم طبقاً لروح العملية المعرفية وطبيعة استدلالاتها، بغض النظر عن موضوع العلم الذي تعالجه، كإن يكون فقهاً أو كلاماً أو تفسيراً أو غير ذلك. يضاف إلى أن منها ما ينطوي على إدغام بعض الأقسام وأحياناً على التقييد والحذف، كالعلم العقلي، إذ تارة يؤخذ كدلالة على علم الكلام وما إليه، وأخرى على علم الفلسفة، وشتّان بين العلمين، فأحدهما من عالم مغاير للعالم الذي ينتمي إليه الآخر رغم ما حصل بينهما من تبادل أثر وتأثير على أرض الواقع.



[1] أهم أعمال نصر حامد أبو زيد، ما يلي: الإتجاه العقلي في التفسير/ دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة. فلسفة التأويل/ دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي. مفهوم النص/ دراسة في علوم القرآن.

[2] حسن حنفي: من النص الى الواقع، ج1 (تكوين النص)، دار المدار الإسلامي، المقدمة، ص13 و14 و15.

[3] حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة، دار التنوير والمركز الثقافي العربي في بيروت، الطبعة الأولى، 1988م، ج1، ص214ـ215.

[4]يقسم الدكتور حسن حنفي مشروع (التراث والتجديد) إلى ثلاث جبهات أو أقسام، هي: موقفنا من التراث القديم، وموقفنا من التراث الغربي، وموقفنا من الواقع (نظرية التفسير). ولكل جبهة بيان نظري يخصها. وتتكون الجبهة الأولى من سبعة أجزاء كالتالي:

 1 ـ من العقيدة إلى الثورة/ محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين.

 2 ـ من النقل إلى الإبداع/ محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة.

 3 ـ من الفناء إلى البقاء/ محاولة لإعادة بناء علوم التصوف.

 4 ـ من النص إلى الواقع/ محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه.

 5 ـ من النقل إلى العقل/ محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية (القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، الفقه).

 6 ـ العقل والطبيعة/ محاولة لإعادة بناء العلوم العقلية (العلوم الرياضية والطبيعية).

 7 ـ الإنسان والتاريخ/ محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية (اللغة، الأدب، الجغرافيا، التاريخ).

أما الجبهة الثانية فتنقسم إلى ثلاثة أجزاء كما يلي:

 1 ـ مصادر الوعي الاوروبي

 2 ـ بداية الوعي الاوروبي.

 3 ـ نهاية الوعي الاوروبي.

كذلك تنقسم الجبهة الثالثة إلى ثلاثة أجزاء هي: 1ـ المنهاج. 2ـ العهد الجديد. 3ـ العهد القديم.

وقد نشر أغلب أجزاء الجبهات السابقة.

[5] انظر حول ذلك المصادر التالية: حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة، دار التنوير ـ المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1988م، ج1، ص372ـ375، وج5، ص531. ومقدمة في علم الاستغراب، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992م، ص9ـ10. ومن النص الى الواقع، ج1 (تكوين النص)، دار المدار الإسلامي، المقدمة، ص13. ومن النص إلى الواقع، ج2 (بنية النص)، موقع الكتب العربية الإلكتروني www.kotobarabia.com، عن مكتبة الموقع الإلكتروني www.4shared.com، ص259 و269 و492. كذلك: مصطفى الفيلالي: الصحوة الدينية الإسلامية: خصائصها، أقوالها، مستقبلها، ضمن ندوة الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 1989م، ص367. كذلك الفصل الأول من كتابنا: جدلية الخطاب والواقع، دار أفريقيا الشرق، المغرب، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2012م.

[6] بخصوص المشروع المنهجي لدراسة التراث تتحدد أعمال الجابري الأساسية بالكتب التالية: نحن والتراث، التراث والحداثة، نقد العقل العربي (تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي). وهناك كتب أخرى لها بعض العلاقة بهذا الشأن ككتاب: الخطاب العربي المعاصر، وإشكاليات الفكر العربي المعاصر.

[7] صدرت الطبعة الأولى لكتاب نقد العقل العربي في الميزان سنة 1997م، عن مؤسسة الإنتشار العربي في بيروت، ثم أعقبتها الطبعة الثانية سنة 2009م، عن دار أفريقيا الشرق في الدار البيضاء بالمغرب.

[8] فرانك كلوز: النهاية: الكوارث الكونية وأثرها في مسار الكون، ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي، عالم المعرفة (191)، 1415هـ ـ 1994م، ص86، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية www.www.al-mostafa.com.

[9] إبن القيم الجوزية: أعلام الموقعين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف، دار الجيل ببيروت، 1973م، ج1، ص71. والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكاتب العربي، مصر، الطبعة الثالثة، 1387هـ ــ 1967م، ج1، ص333. ومحمد علي المكي: تهذيب الفروق، مطبوع في هامش الفروق للقرافي، نشر عالم الكتب، بيروت، ج1، ص180.

[10] شاه ولي الله الدهلوي: رسالة الإنصاف في بيان سبب الإختلاف، طبعة حجرية، ص2. وحجة الله البالغة، دار التراث في القاهرة، 1355هـ، ج1، ص141.

[11] الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف، ص83ـ84.

[12] مقدمة إبن خلدون، ص455.

[13]  كما رويت أخبار أخرى تفيد ذات السبب، مثل ما جاء عن أبي الأسود أنه قال: دخلت على علي فرأيته مطوقاً فقلت: فيم تتفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: سمعت ببلدكم لحناً فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية. فقلت: إنْ فعلت هذا أحييتنا. فأتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها الكلام كله: إسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم قال لي: زده وتتبعه. فجمعت أشياء ثم عرضتها عليه. وفي رواية أخرى أنه قدم أعرابي في زمان عمر فقال: من يقرئني مما أنزل الله على محمد؟ فأقرأه رجل سورة براءة فقال: (أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ) بالجر. فقال الأعرابي: أو قد برىء الله من رسوله؟! إنْ يكن الله قد برىء من رسوله فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله؟... ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: ((أن الله بريء من المشركين ورسولُه)). فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب إلا يقرىء القرآن إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو (انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج4، مادة: أبو الأسود الدؤلي. والسيوطي: سبب وضع علم العربية، دار الهجرة، دمشق، الطبعة الأولى، 1988م، عن الموسوعة الشاملة الإلكترونية http://islamport.com ، ج1، ص30 وما بعدها).

[14] مختار رسائل جابر بن حيان، عني بتصحيحها ونشرها: پ. كراوس، مكتبة الخانجي، 1354هـ، كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، ص100.

[15] الرسالة اللدنية، ضمن رسائل القصور العوالي للغزالي، دار الطباعة المحمدية بالأزهر، الطبعة الثانية، 1390هـ ـ 1970م، ج1، ص106 وما بعدها.

[16] الغزالي: المستصفى من علم الأصول، المطبعة الأميرية بمصر، الطبعة الأولى، 1322هـ، ج1، ص5.

[17] المصدر السابق، ص3.

[18] إبن عبد البر النمري: جامع بيان العلم، شبكة المشكاة الإلكترونية: www.almeshkat.net ، باب العبارة عن حدود علم الديانات وسائر العلوم المنتحلات (لم تذكر أرقام صفحاته). كذلك: مقدمة احسان عباس على رسائل إبن حزم الاندلسي، ج4، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، ص11.

[19] رسائل اخوان الصفا، طبعة المانيا، 1984م ـ1986م، ص246.

[20] رسالة مراتب العلوم من رسائل إبن حزم الأندلسي، تحقيق احسان عباس، ج4، ص70ـ78.

comments powered by Disqus