يحيى محمد
لا شك أن النتائج التي تسفر عن العملية المعرفية للفقيه هي ظنون إجتهادية بيانية ماهوية في الغالب. فالفقيه يعي أن ثمرة جهده في استنطاق النص واستنباط ما امكن له من معارف وأحكام لا تتعدى دائرة الظن في الغالب، وهو ظن يتصف بنمط خاص من المعرفة هو الظن البياني الماهوي، بإعتباره نتاج المولد المعرفي للعقل الفقيه، لهذا نطلق عليه الظن البياني.أما الحصيلة التي تسفر عن الممارسة المعرفية للمفكر فيلاحظ أنها ليست بيانية بل عقلائية خبروية، استناداً إلى طبيعة المولد الذي يحتكم في تكوينه المعرفي إلى ما عليه الخبرة البشرية واستنطاق الواقع؛ سواء كانت النتائج ظنية أو قطعية، مع ما تتظلل به هذه النتائج من الموجهات الكلية للنص.
وحيث أن هناك نوعين من الحصيلة المعرفية؛ فالمتوقع أن تكثر حالات التعارض والتقاطع بينهما. لكن أيهما أقوى ترجيحاً وتقديماً؟ ما نراه في غالب الأمر هو أن الظنون الخبروية هي المقدمة ترجيحاً على الظنون البيانية؛ لإعتبارين مهمين كالتالي:
أولاً: إن العملية المعرفية في حالة الظنون الخبروية تمر بطرق قريبة وقصيرة للكشف عن الحقيقة، حيث يسهل عليها مراجعة قضايا البحث طبقاً لما تعتمده من مولدات قائمة على خبرة الواقع وهدي الموجهات العامة للنص. في حين تتأسس العملية المعرفية في حالة الظنون البيانية عبر سلسلة طويلة ومعقدة من الطرق الإستدلالية بما تتضمن من مدارات إحتمالية متشعبة، الأمر الذي يجعلها أضعف قوة وجاذبية مقارنة مع ما تتصف به الظنون الخبروية. فمثلاً حينما يتأسس الحكم الظني طبقاً للعملية البيانية؛ فإن على الفقيه أن يراعي جملة أمور لتفضي قضيته إلى المطلوب. فحيث أن مادته الرئيسة مستمدة من نصوص الحديث؛ لذا فإن عليه أن يبحث في الشروط الخارجية لصحة النص قبل النظر في شروطه الداخلية؛ فيقوم بفحص السند للتعرف على سلسلة رجال الرواية، وهو في هذه المرحلة يسعى للحصول على نوع من الظن في وثاقة الجميع، مع الأخذ بعين الإعتبار أن السلسلة الطويلة تضعف من القيمة الإحتمالية لوثاقة الجميع، كذلك فإن التعامل غير المباشر في معرفة رجال السند هو الآخر يعمل على إضعاف هذه القيمة. وكل ذلك يواجهه الفقيه، إذ يلاقي أمامه سلسلة ليست قصيرة من الرواة، وهو من حيث التوثيق يعتمد على آخرين تناولوا تراجم الرجال بالإجمال المخل، خاصة وأنه لم تكن بين الطرفين معاصرة وإحتكاك مباشر. فالتوثيق غالباً ما يكون توثيقاً للغائب دون الحاضر.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن المنقول من الرواية قد لا يخلو من الزيادة والنقصان خلال مروره في السلسلة، وأن أغلب المنقول هو منقول بالمعنى لا باللفظ، وهو عادة ما يكون مقطوع الصلة عن ملابسات الخبر، الأمر الذي يبعث على إحتمال كون المراد له خصوصية ظرفية غير قابلة للتعميم والإطلاق. فضلاً عن أن للفظ أحياناً وجوهاً من الإحتمالات، مع وجود ما يعارضه من نصوص أخرى هي بدورها تخضع إلى نفس ما مرّ علينا من تعقيدات إحتمالية. فكل ذلك لا يدع مجالاً لإحراز الثقة بالظن البياني عادة[1]. فهناك تردد في سلامة نقل الخبر كما هو، وهناك تردد آخر في مضمونه ومعناه، وكذا في علاقته بغيره من النصوص؛ إن كانت علاقة نسخ أو تخصيص وتقييد أو غير ذلك من مشاكل متراكبة عديدة تتجمع على محور إضعاف القيمة المعرفية. إذ يصبح الظن الناتج في الحصيلة النهائية عبارة عن ضرب مجموعة كبيرة من الظنون والإحتمالات الواردة، كالتي صورناها قبل قليل، مع أنه كلما ازداد عدد أطراف الضرب في المحتملات كلما زاد ضعف النتيجة. ولا شك أن هذه الحصيلة لا نجدها تحدث - عادة - لدى الظنون الخبروية العقلائية، بإعتبارها لا تمر بذلك الكم من التفريعات الإحتمالية التي بعضها يتوقف على البعض الآخر، فكثيراً ما يجري التعامل مع قضايا الواقع ضمن دلالات وبينات قابلة لمنح المزيد من الوضوح؛ طالما أنه يمكن النظر في هذه الدلالات والبينات بالتفصيل وبشكل مباشر أو شبه مباشر.
ثانياً: إن الظنون الخبروية تتقبل المراجعة والفحص والتحقيق بدرجة أقوى كثيراً مما عليه الظنون البيانية. حيث من السهل معاودة الواقع ومراجعته عندما يمر بسلسلة من التغيرات والتغايرات. إذ أن كل تنويع جديد يعبّر عن بينة ودلالة اضافية يمكن توظيفها في سلك الممارسة المعرفية، وبالتالي فإن لها أثراً على الحصيلة النهائية من العملية المعرفية. وهو أمر يختلف كلياً عن حال النظر في النص، لاتصافه بالمحدودية والثبات وعدم التغيير، وبالتالي فإن الخبرة المستمدة منه هي خبرة محدودة وثابتة، وأن الدلالات المعطاة عنه هي دلالات لا تقبل الإضافة الجديدة باستثناء ما يمكن أن يستكشفه الباحث من جديد غير ملتفت إليه من قبل، وحتى في هذه الحالة فإن الغالب في الأمر يعود إلى فضل التأثر بحقائق الواقع في الكشف عن مضامين النص، كالذي يلاحظ في الإشارات المتعلقة بالعلوم الطبيعية والتي لم تُدرك في النص إلا بعد أن شاعت الإكتشافات العلمية الحديثة في الغرب. الأمر الذي يعني بأن التوليد الخبروي، أو مراجعة الواقع، له دور في تصحيح الأفكار والرؤى؛ سواء المستمدة من الواقع ذاته، أو تلك المستنبطة من النص عبر الآليات البيانية. في حين ليس بوسع البيان الماهوي أن يقوم بمثل هذا الدور في المراجعة المعتمدة على النص.
وبعبارة أخرى أن هناك معلمين استكشافيين للواقع، في حين ليس للنص سوى معلم استكشافي واحد تتم فيه المراجعة والبحث. كما أن هناك مجالين يتم التأثير عليهما بحسب الاستكشاف الأول، في حين ليس للثاني سوى مجال واحد يمكن التأثير عليه. وتوضيح ذلك كما يلي:
لما كان النص ثابتاً ومحدوداً؛ فكل ما يرجى منه هو استكشاف دلالاته الضمنية دون انتظار المزيد، حيث لا يوجد غيره. كذلك لما كانت دلالات النص المتعلقة بالكشف عن الواقع تتصف غالباً بالإشارات المجملة؛ لذا فإن أي مراجعة له لا تكشف عما هو جديد في الواقع عادة. وبالتالي فإن هناك معلماً استكشافياً واحداً لدى النص، كما أن المراجعة الاستكشافية البيانية لا يتعدى تأثيرها المعرفي – عادة - حدود النص ذاته. في حين إن للواقع معلمين استكشافيين، أحدهما يتعلق بالدلالات المعطاة للحوادث الناجزة أو الحاضرة أمامنا، والآخر ما يضاف إلى ذلك من دلالات استشرافية ضمن أفق الانتظار الخاصة بالحوادث المستقبلية الجديدة، أو التاريخية التي لم يتم استكشافها بعد.
وإذا ما تم التقابل بين حروف النص وحوادث الواقع؛ فالملاحظ أن الأولى تتصف بالحصر والحضور الكامل، وبالتالي فانها قابلة للاستثمار المعرفي دفعة واحدة، كما أن مراجعتها لا تتعدى سوى النظر فيها دون انتظار إضافة حرفية جديدة. في حين إن حوادث الواقع ليست محصورة أمامنا بكاملها، فبعضها أصبح في عداد المعدوم وما زلنا نجهله ونطلب معرفته بصورة غير مباشرة، والبعض الآخر ننتظر قدومه، وبالتالي فإن الاستثمار المعرفي - في هذه الحالة - هو استثمار مضاعف مقارنة بما يحصل في حالة النص، وأن المراجعة في حوادث الواقع تجري تارة بإعادة النظر فيما سبق دراسته من غير إضافة معتمدة، وأخرى فيما نستكشفه من عوالم تاريخية ومستقبلية تجعل مراجعتنا مستمرة ومؤثرة في أكثر من مجال، فهي تعمل على تغيير رؤانا فيما تم رصده من الواقع، كما أن لها تأثيراً على تغيير أفكارنا المستنبطة من النص، بل وتغيير طريقة تعاملنا المعرفي معه.
هكذا يتضح أن للظنون الخبروية وثوقاً وقابلية للمراجعة والفحص هي أعظم وأوسع من تلك العائدة إلى الظنون البيانية.
[1] في هذا الصدد يقول المفكر محمد باقرالصدر: ‹‹فمن المتفق عليه بين المسلمين اليوم: أن القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع. وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتع بصفة قطعية من أحكام الشريعة، الخمسة في المئة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية. والسبب في ذلك واضح، لأن أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة، أي من النص التشريعي، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كل نص على نقل أحد الرواة والمحدثين ـ باستثناء النصوص القرانية ومجموعة قليلة من نصوص السنة التي ثبتت بالتواتر واليقين ـ ومهما حاولنا أن ندقق في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل، فاننا لن نتأكد بشكل قاطع من صحة النص ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلا تاريخياً، لا بشكل مباشر، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدم الينا النص محرفاً، خصوصاً في الحالات التي لا يصل الينا النص إلا بعد أن يطوف بعدة رواة، ينقله كل واحد منهم إلى الآخر، حتى يصل الينا في نهاية الشوط. وحتى لو تأكدنا أحياناً من صحة النص، وصدوره من النبي أو الإمام، فاننا لن نفهمه إلا كما نعيشه الان، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً. ولدى عرض النص على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها، قد نخطئ أيضاً في طريقة التوفيق، فنقدم هذا النص على ذاك، مع أن الآخر أصح في الواقع، بل قد يكون للنص استثناء في نص آخر ولم يصل الينا الاستثناء، أو لم نلتفت إليه خلال ممارستنا للنصوص، فنأخذ بالنص الأول مغفلين استثناءه الذي يفسره ويخصصه. فالإجتهاد إذاً عملية معقدة، تواجه الشكوك من كل جانب. ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع، ما دام يحتمل خطأه في استنتاجها، إما لعدم صحة النص في الواقع وأن بدا له صحيحاً، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل الممارس أو عاثت بها القرون›› (اقتصادنا، دار التعارف، الطبعة الحادية عشرة، 1399هـ ـ1979م، ص417ـ418).