يحيى محمد
لتحديد هوية المثقف الديني مقارنة بالفقيه سنعتمد على المنهج الكيفي الشائع استخدامه في العلوم الاجتماعية، وهو الذي يقابل ما يطلق عليه منهج الاحصاء الكمي. ولكلٍّ خواصه ومزاياه. ورغم أهمية الإحصاء في تشكيل تصوراتنا عما يجري في الواقع الموضوعي؛ لكننا لو اقتصرنا عليه فسيتعذر علينا معرفة طبائع الأشياء وبلورة ماهياتها وأسبابها.
كما لا ينفعنا تحديد مطلبنا عبر مبدأ: تُعرف الأشياء بأضدادها، وذلك لأن الضدية الحاصلة بين العقل الثقافي والعقل الفقهي هي ليست ضدية تامة ومطلقة، فالمثقف يمكن أن يكون في الوقت نفسه فقيهاً، وكذا العكس صحيح أيضاً.
إن المنهج الكيفي بخلاف نظيره الكمي لا يعكس الكم الإجتماعي بتمامه عبر الإحصاء، ولا يهمه كافة الملابسات والعوارض، إنما يلتقط من الواقع صوراً يراها تشكل جوهراً أساساً للنمط أو المفهوم المراد تكوينه بعد دراسة حالات عديدة للواقع الإجتماعي ومقارنة بعضها بالبعض الآخر، أي أنه يتبع طريقاً من التحليل الإستقرائي القائم على القرائن والشواهد المتغايرة بدل الإعتماد على مجرد الإحصاء.
ويمكن تقسيم عمل المنهج الكيفي إلى دورين يشكلان حجر الزاوية من بناء وتكوين النمط أو المفهوم. فهو أولاً لا يقوم بتجريد وتصوير كل ما يتعلق بالحالة الإجتماعية التي لها علاقة بالمفهوم، وإنما يكتفي برصد وأخذ ما يراه عناصر أساسية في تكوين الحالة، ويدع كل ما يلابس الحالة من أمور أخرى عارضة. ثم أنه بعد عملية التجريد يُجري على الصورة المنتقاة نوعاً من التضخيم والتحليل العقلي؛ لإبراز ما تتضمنه هذه الصورة من عناصر لها الفاعلية والقدرة على تكوين الحالة. ولا شك أن هذين الدورين لا يقومان بمعزل عن الحدس العقلي الذي وظيفته انتزاع المفهوم وبلورته.
وبذا يكون هذا المنهج قد أعطى مفهوماً واضحاً ومبالغاً فيه كنمط يتصف بالنموذجية والمثالية وإن لم يكن الواقع حاملاً القدر نفسه من الوضوح وكمال الصورة؛ تبعاً للعوارض والملابسات.
وإذا أردنا توظيف هذا المنهج لدراسة كل من المثقف الديني والفقيه من زاوية معرفية صرفة؛ نرى أن من الواجب فهم كل منهما ككائن صوري يتصف بنوع من النمذجة والمثالية، فنعمل على تجريده من مختلف الملابسات المتداخلة معه في الواقع، أي أننا نصنع منه ماهية محددة بعد دراسة الحالات المختلفة والمقارنة بينها، فنستلهم من ذلك عناصر أساسية تتشكل عليها ظاهرة ما نطلق عليه الثقافة، وكذا الفقاهة. وهو مفهوم مجرد يتصف بنصاعة الصورة ووضوحها. أي أننا بعد تحديد العناصر الأساسية المنتقاة من الحالة الإجتماعية نعمل بفضل التحليل العقلي على تكوين مفهوم جاهز مجرد كنمط يعبر عما نطلق عليه العقل المثقف الديني والعقل الفقيه. فهذا النمط كاشف عن العناصر الجوهرية التي من شأنها تكوين الثقافة والفقاهة، سواء كان ذلك عن وعي من قبل الذين يؤسسونها أو عن غير وعي.
فمع أن الواقع يشهد حالات متفاوتة ومختلفة للمثقف - وكذا الفقيه - فتارة نرى ازدياداً في الحالة الثقافية، وأخرى نرى انخفاضاً فيها، وكذا فإن الثقافة قد تختلط بغيرها من الممارسات الذهنية والسلوكية الأخرى، فتتداخل معها المواقف السياسية تارة، وتتأطر بها الممارسات الإجتماعية تارة ثانية، كما قد تندفع ضمن صور آيديولوجية مختلفة؛ كإن تشكل إطاراً فوقياً لطبقة إجتماعية معينة أو غير ذلك من ملابسات الحالات الإجتماعية للثقافة.. لكن مع هذا فإن ما يقع تحت المراقبة العقلية والتجريد هو الثقافة كنمط صوري مجرد تبرز فيه الوظيفة الثقافية كممارسة معرفية تنشأ بفعل مرتكزات محددة يعمل العقل على استظهارها وتحليلها بوضوح ونصاعة بعيداً عن الملابسات التي يبديها الواقع الإجتماعي، طالما أن العقل لا يصور كل ما يبديه هذا الواقع من ملابسات وتداخلات، وإنما يكتفي بتسليط الضوء على العناصر الأساسية منه بعد الملاحظة والمقارنة بين الحالات التي تمر بها الثقافة على أرضه.
فمن حيث الأساس يلاحظ أن المفهوم المراد تأسيسه هو مفهوم مستمد من العلم والمعرفة لا غير. فالفقه والثقافة كلاهما من العلوم والمعارف، ومن ثم لا يمكن افراغ الفقيه ولا المثقف من جوهر العملية المعرفية، وإلا كان فاقداً للمعنى. مع هذا يلاحظ أن معارف الفقيه وعلومه وكذا النتائج التي ينتهي إليها هي في الغالب تختلف عن تلك التي لدى المثقف. الأمر الذي يساعدنا على تحديد هوية كل منهما واهمال ما يتداخل معها من ظواهر أخرى عارضة.
وتبعاً للمنهج الكيفي فإنه لا يمتنع أن يحصل تداخل بين الثقافة والفقه على أرض الواقع؛ فيلبس الفقيه عباءة المثقف، والمثقف عباءة الفقيه، وبالتالي نتحدث عن الفقيه المثقف والمثقف الفقيه. مع ذلك وبحسب المنهج ذاته فإن من الممكن إهمال هذا التداخل في تحديد الهوية والمفهوم لكل منهما، طالما أن الغرض هو تحديد الماهية وليس الواقع بكل ما يحمله من ملابسات وشوائب.
ويعتمد تحديد هوية كل من المثقف الديني والفقيه على تشخيص الوظيفة المعرفية لكل منهما، وأن هذه الوظيفة تتشكل بحسب ما لدى كل منهما من مرتكزات معرفية، وبالتالي فإن تحديد الهوية إنما هو نتاج تعيين هذه المرتكزات. وسنلاحظ أن هناك إختلافاً تاماً حول طبيعة هذه المرتكزات بينهما. فما يتحكم بالحالات الثقافية من مولدات معرفية هو غير ذلك الذي يتحكم بالحالات الفقهية، حيث لكل منهما مشغلاته الخاصة بالتوليد والإنتاج، وهو أمر يجعل لكل منهما بنية خاصة تختلف عن الأخرى، بل وتتقاطع معها على صعيد المفهوم، وإن أمكن التداخل بينهما على أرض الواقع أحياناً. وبالتالي فإن الصورة المفهومية المنتزعة لا تبدي بالضرورة جميع ما لدى الواقع من تفاصيل وشؤون بما في ذلك تقلّب بعض حالات الظاهرة أو تداخلها مع نظيرتها التي تخالفها في المفهوم.
ولعل المثال الذي نضربه الآن يوضح هذه الصورة المعطاة. فبإستطاعتنا - مثلاً – التحدث عن مفهوم محدد للانسان القروي وتمييزه عن نظيره المديني، فنرسم لكل منهما مواصفاته الخاصة التي تبدي الكثير من التضاد في الشخصية والخصال العامة. لكننا من جهة الواقع قد لا نجد القدر ذاته الذي صورناه من الأبعاد والتضاد بينهما، كما قد يبدو لنا أن بعض القرويين يحملون صفات تعود إلى الإنسان المديني أو العكس، كما قد يبدو أن هناك الكثير ممن يحمل صفات مزدوجة، سواء كانوا مدينيين أم قرويين. ومع هذا فإن ذلك لا يشكل عقبة في تأسيس المفهوم أو النمط الخاص لكل منهما. فنحن على قناعة بأن ملابسات الواقع وعدم تطابقه مع المفهوم المهذب لدى الذهن لا ينافي حقيقة الهوية التي يتضمنها هذا المفهوم.
فعلى سبيل المثال نعلم أن عالم الإجتماع الفرنسي دوركايم قد صاغ قانوناً في الإنتحار الأناني استخلصه من مقارنات لجملة من الظواهر الإجتماعية المختلفة، كان من بينها ما اعتمده على المقارنة في الإنتحار بين ما يحصل في القرى وفي المدن، حيث أن زيادة الإنتحار في المدن هي أكثر مما في القرى، وبالتالي فقد استنتج من ذلك - ومن مظاهر أخرى تتعلق بزيادة الإنتحار - قانونه القائل: إن هناك تناسباً عكسياً بين الإنتحار والتماسك الإجتماعي[1]. ولو قمنا بمقارنة بين مدينة وقرية مشخصتين وتبيّن من خلالها أن الإنتحار لدى الأخيرة أكثر نسبة مما لدى المدينة، أي على عكس ما أفاده دوركايم، فإن ذلك لا يجعلنا نشكك في القانون الانف الذكر، ولا يجعلنا ننظر بالضرورة إلى القرية بمفهومها العام نظراً مخالفاً لما كنا تصورناه عنها من حملها لجملة من المزايا، إنما يمكن أن نتوقع وجود أسباب عارضة عملت على زيادة الإنتحار في تلك القرية الخاصة. ويظل المفهوم العام للقرية هو أنها ليست مصدراً قوياً للإنتحار طالما كانت علاقاتها الإجتماعية شديدة التماسك، خلافاً لما عليه الحال في المدينة عادة. ولعل من ضمن الأسباب العارضة التي تقرب المدينة من القرية ما تسببه سهولة الإتصال من علاقات جديدة تجعل بين المدينة والقرية أنواعاً من التأثير، الأمر الذي قد يحدث بعض التغيير في التركيبة العامة للروابط الإجتماعية لكل منهما.
وبهذا فإن المفهوم المنتزع من الواقع ليس معنياً بالعوارض المؤثرة على مجرى الأحداث. وقد كان الفلاسفة المسلمون يقولون عن السقمونيا بأنها تسهل الصفراء، وهم يعنون بأن من شأنها الإسهال وإن لم يحدث ذلك واقعاً لدخول بعض الأسباب العارضة المانعة، أو لإختلاف الظروف عن ظروف الإقتران المشاهد بين السقمونيا والإسهال. فكل ذلك لا يؤثر على حقيقة كون تلك النبتة من شأنها الإسهال بحسب الظروف العادية التي لوحظ فيها الإقتران[2].
مع هذا فقد تتحول البنية التركيبية للواقع من شكل إلى آخر مغاير، عندما تنقلب الأمور وتتحول الأحداث والمظاهر إلى شكل مختلف عما كانت عليه تماماً، مما يدعو إلى تكوين نمط جديد من المفهوم المنتزع يختلف كلياً عما كان عليه الحال من قبل. وفي جميع الأحوال أجد من المبرر تماماً - بعد ما سلف من توضيح - أن نكوّن لكل من المثقف الديني والفقيه مفهومه الخاص المنتزع مما هو عليه في الواقع.
وحقيقة أننا ندرك بأن تكوين مفهوم خاص عن العقل الفقيه هو أمر سهل وليس بمعضلة؛ لعلمنا بمصادر معرفته وكيفية تشغيله وتوظيفه لها في التوليد والإنتاج المعرفي. فهي صورة تجد لها تأييداً كبيراً مما يحفل به التاريخ الطويل للفقه والفقهاء. كما أنها معلنة وممنهجة بشكل جلي بلا لبس ولا غموض. لكن الحال مع المثقف الديني فشيء مختلف رغم المنافسة المعرفية التي يقيمها مع الأول. فلكونه غير مختص في العلوم الدينية في الغالب؛ فذلك يجعله لا يمتلك المنهجة الواضحة أو المحددة مقارنة بنظيره الفقيه. وبالتالي ليس هناك تحديد مسبق أو معلن لمصادر معرفته وكيف يولّد المعرفة. كما لا يوجد إتفاق عام حول المسالك المعرفية بين المثقفين الدينيين كالذي نجده بين الفقهاء عادة. وبعبارة أخرى لا توجد روابط معرفية مشتركة تتأسس عليها التنمية العلمية بين المثقفين مثلما هو حاصل بين الفقهاء؛ حيث المشترك الذي يجمعهم معرفياً هو الإرتباط التام بمضامين الكتاب والسنة، ولولا هذا الأساس ما كان لهم أن يكونوا فقهاء. إذاً فالتيار الثقافي هو أقرب معرفياً إلى التيار الفردي منه إلى الجماعي. أو أنه أقرب إلى اللامنتمي منه إلى المنتمي. لكن علينا الأخذ بعين الإعتبار أن تاريخ ظهور المثقف كحالة بارزة ومؤثرة في الحياة العامة لا يمكن أن يقاس بالتاريخ الطويل للفقيه. فهو حديث النشأة وإن أخذ بالإتساع والإنتشار بفضل التطورات الحديثة المتسارعة.
هكذا فإن الصورة المنتزعة عن واقع المثقف ليست واضحة مثلما هي الحال عن الفقيه. لكن بالإرتكاز إلى المنهج الكيفي يمكننا رسم الصورة وإيضاح مصادر معرفته والمنهج الذي يتبعه والأصول التي يعتمدها في التوليد والإنتاج؛ حتى لو لم يكن ذلك عن وعي من المثقفين أنفسهم. لذا فنحن نعترف بأن تصورنا للعقل المثقف هو تصور غارق في التحليل العقلي مقارنة بالعقل الفقيه. فالصورة المنتزعة عن الأخير ينشأ غالبها مما يقدمه هذا العقل بنفسه، أي أنه ينشأ عبر دلالة الموضوع الخارجي مباشرة، طالما أن الفقيه يقرّ بمصادر معرفته وطريقة تلقيه لهذه المعرفة ومنهجه في الفهم والإنتاج، الأمر الذي يتضاءل فيه الدور العقلي لرسم الصورة التي تخصه مقارنة بالدور المقدم بصدد المثقف. فليست هناك صورة جاهزة يمكن إنتزاعها عن الموضوع الخارجي للعقل المثقف مباشرة، فلا توجد مصادر معلنة ومتفق عليها للمعرفة، ولا طريقة ممنهجة توضح كيفية التوليد والإنتاج المعرفي. وبالتالي ليس لدينا ما يساعدنا على كشف الصورة أو المفهوم المعطى للمثقف غير التحليل العقلي، وذلك بعد متابعة النظر والمقارنة بين الحالات الثقافية المختلفة. إذ تستمد شرعية رسم الصورة المعبرة عن البنية المعرفية للمثقف من الدور الأساس الذي يمارسه العقل في التحليل والاستجلاء بعد الإنتهاء من عملية رصد الفعاليات المعرفية التي يؤديها هذا العنصر الفاعل.
أما الفقيه - ومعه سائر إختصاصيي النزعة البيانية - فكما قلنا أنه ليس من الصعب تحديد هويته من الناحية الابستمولوجية. فهو يرتبط إرتباطاً لزومياً بالنص، ولولا هذا الأخير ما كان للفقيه من وجود ولا إعتبار، إذ إن نشأة الفقيه وتحديد هويته كلاهما مستمد من النص ذاته، والأمر واضح بإعتبارين: أولهما ما عليه الواقع، وهو أن جميع الفقهاء ملزمون من الناحية المعرفية بالإرتباط بالنص نهجاً. فالذي لا يرتبط بالنص لا يمكن أن يحظى بصفة الفقاهة. أما الآخر فهو أن هذا الإرتباط المعرفي معلن لدى الفقهاء صراحة، فالنص لديهم هو المصدر الأساس في البناء والتقويم، وبالتالي ليس هناك من مصدر آخر يضاهيه. لكن إذا كان من السهل علينا أن ننتزع بنية معرفية عامة للفقيه إعتماداً على الإرتباط المعرفي بالنص؛ فإن الحال مع المثقف شيء مختلف تماماً، فمن حيث الأساس أن بناءه المعرفي ليس ملزماً بالإرتباط بالنص كالذي عليه عمل الفقيه، كما أن هويته المعرفية غير معلن عنها صراحة. وبالتالي فلأجل تحديد بنيته المعرفية كان علينا أن ننظر في مضامين ما يقدمه من طروحات وإشكاليات وحلول ومن ثم نجتهد في اقتناص ما نعدّه بنية له. ورغم ما نجده لدى المثقفين من ابنية فكرية مختلفة تزخر بالتناقضات الحادة، ورغم أن فيهم حالات متفاوتة من حيث القرب والبعد عن التكوين المعرفي للفقيه، فمع هذا نجد ميلاً يكاد يكون عاماً لدى المثقفين؛ يمكن من خلاله انتزاع البنية المعرفية للمثقف تبعاً للنهج الكيفي، والتي هي حصيلة ما لديه من مرتكزات معرفية وخصائص متولدة عنها. واهم هذه المرتكزات ما يتعلق بالمصدر المعرفي، اذ يعول المثقف الديني على كل من الواقع من حيث التكوين، والنص من حيث التوجيه. فالواقع لدى العقل المثقف له صفة تكوين الفكر، بمعنى أن معارفه مستمدة أساساً من الواقع، في حين يتعامل مع النص بصفة توجيه الفكر لا تكوينه، كالذي فصلنا الحديث عنه في بعض الدراسات المستقلة.
[1] انظر حول ذلك كتابنا: التصوير الإسلامي للمجتمع، مؤسسة أهل البيت، بيروت، 1981م، ص105ـ106.
[2] إبن سينا: البرهان، تحقيق الدكتور أبي العلا عفيفي.