يحيى محمد
ثمة ثلاث صفات للآلية الثقافية يمكن تسليط الضوء عليها كالاتي:
أـ عقلائية العقل المثقف
إن الآلية الثقافية عقلائية. ونحن نستخدم هذه المفردة – هنا - بدل المفردة الدارجة في الأوساط الثقافية العلمانية، وهي (العقلانية)، لعدد من المبررات رغم تقارب المفهومين وإشتراكهما بكونهما يستندان إلى الإعتبارات العقلية والواقعية.
فمفهوم العقلانية هو مفهوم غربي تنويري برز كضد للمرجعيات الغيبية والدينية، وعلى رأسها النص وكل ما يستند إليه من تفسيرات تقليدية. فالمفكر العقلاني الغربي هو ذلك الذي ‹‹لا مكان في مخططه الفكري لقوى خارقة، ولا محل لعقله للاستسلام الغيبي لعقيدة ما، وإذا كانت معرفة ما يبغضه فكر معين أشد البغض تفيدنا في تحديد معالم هذا الفكر فإن أبغض شيء إلى العقلاني هو ذاك المزاج الفكري الذي تعبر عنه عبارة (أُومن به لأنه مستحيل)››[1]. فقريب من هذا المعنى انتشر مفهوم العقلانية لدى الطبقات العلمانية من المثقفين العرب وغيرهم، وأحياناً أن اللفظ يتداوله المثقفون الإسلاميون للدلالة على ما يحملونه من إعتبارات عقلية ووجدانية. بل كثيراً ما أريد به كنزعة آيديولوجية ضد التيار الإسلامي عموماً، مثلما وظفه التنويريون في الغرب ضد أتباع الكنيسة.
فالمفردة - إذاً - هي مفردة تقويمية وآيديولوجية. وهي بالضبط كمفردة ‹‹التقدم›› التي استخدمت للتقويم والغرض الآيديولوجي من غير أن تحافظ على إستقلاليتها وحياديتها في وصف الحالة. وبالتالي فالعقلانية ليست نهجاً معرفياً بريئاً من سمات التقويم والادلجة التي تُشهر بوجه أولئك الموصوفين بأصحاب المناهج الخرافية والظلامية وغيرها من التعابير المخلّة التي يراد منها تحقير الوسائل المعرفية الأخرى ذات النهج المختلف.
في حين إن مفردة (العقلائية) ليست مفردة مدججة بسلاح الآيديولوجيا والتقويم. فهي لا تعني سوى ذلك التفكير المستند في الأساس إلى ضوابط الواقع والعقل بغض النظر عن نتائج هذا التفكير وما يؤول إليه من صواب أو خطأ. فليس الغرض منها التقويم وإنما وصف الحالة وتمييزها عن نظيرتها التي تعود إلى الفقيه. لذا فالممارسة العقلائية للمثقف ليست معنية في هذه المرحلة بالدقة والموضوعية من التوليد المعرفي. فقد تتفاوت الرؤية للواقع وتختلف من فرد لاخر، عمقاً وبساطة، شمولاً وتجزيئاً. لكن في جميع الأحوال أن العنصر الذي بوسعه أن يضفي على عقلائية التفكير والتوليد جوانب الدقة والضبط إنما هو عنصر النقد والتحليل، والذي يصبح الواقع من خلاله صورة غير مستنسخة في ذهن المثقف، أو أن عقل هذا الأخير لا يكون مجرد مرآة للواقع، بل هناك نقد وتحليل قائم على مبادئ التوجيه وأصول التوليد كما سنعرف.
من جانب آخر يلاحظ أن لفظ (العقلائية) دارج استعماله في تراثنا المعرفي، ومن ذلك ما يستخدمه المتأخرون من فقهاء الإمامية؛ جاعلين من مفهومه مصدراً غير مستقل للمعرفة الشرعية، ويطلقون عليه (دليل البناء العقلائي) أو (السيرة العقلائية). ويقصدون به صدور العقلاء عن سلوك معين إتجاه واقعة ما صدوراً تلقائياً غير معلل[2]. ويتساوى هذا الصدور والسلوك لدى مختلف فئات العقلاء من الناس رغم إختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وتفاوت ثقافتهم ومعرفتهم وكذا تعدد نحلهم وأديانهم. ومن الأمثلة عليه ما يسلكه العقلاء من الأخذ بظواهر الكلام، والرجوع إلى أهل الخبرة في المعرفة التي يجهلونها والمشاكل التي لا يمكنهم علاجها. وبنظر الفقهاء أن هذا الدليل ليس بحجة إلا عند الكشف عن مشاركة المعصوم للسلوك العقلائي أو اقراره له. ويتميز عن الدليل العقلي بأن حكم العقل هو وليد الإطلاع على المصلحة أو المفسدة الواقعية، في حين إن البناء العقلائي غير مشروط بذلك لكونه يصدر صدوراً تلقائياً غير معلل. كما يلاحظ أن البناء العقلائي هو دليل غير مستقل عن حيثية الكشف الشرعي، في حين إن الحكم العقلي هو حجة ذاتية ودليل مستقل عن تلك الحيثية.
مع هذا فما نقصده من مفهوم يختلف عن التحديد الفقهي بأمرين:
أولاً: إن المعرفة العقلائية بحسب الإستخدام الثقافي مستقلة لا تتوقف على شرعية أمر اخر.
وثانياً: إن العقلائية أعم - هنا - مما هو مضيّق في المفهوم التقليدي للفقيه. وبالتحديد فهي تشمل إعتبارات الأحكام العقلية، لا القطعية منها فقط، بل حتى الظنية العادية شرط أنها لا تحلّق بتلك التي تعود إلى التجريد المتعالي (الترانسدنتالي).
ب ـ نقدية العقل المثقف
إن الآلية الثقافية نقدية تنظيرية. إذ لما كان العقل المفكر مشبعاً بالروح المعرفية مما له علاقة بقضايا الواقع العامة؛ فإن ذلك يخلق لديه حسّاً من النقد والتنظير تبعاً للممارسة غير المنقطعة في مراجعة القضايا. وهو بهذا يختلف عن عقل الفرد العادي، لافتقاره للقدر الكافي من المعرفة التي تجعله يمارس النقد والتحليل الدقيقين. كما أنه يختلف عن العقل الفقيه الذي يغترب - عادة - عن الواقع وشؤونه إلا بالقدر الذي يجعل منه تربة لانبات ما لديه من أطباق معرفية جاهزة بلا فحص ولا تدقيق. وكذا يختلف أيضاً عن الآخرين من ذوي الإختصاص بالقضايا الجزئية الضيقة التي ليس بوسعها أن تخلق رأياً ذا وزن في قضايا الواقع العامة.
والعقل المفكر من حيث أنه نقدي فإنه يختلف في كشفه عن كل من العقل العلمي وعقل الإنسان العادي. فالعقل العلمي لا يعير أهمية كبرى للتحقق من المطابقة مع الواقع؛ سيما عندما يكون الأخير بعيد المنال. ومن ذلك أن العلماء لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الأولية التي وضعها بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة. كذلك أنهم لم يرفضوا هذه النظرية رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه، وأنه قد انقضت ( 85 سنة) على قبول هذا الشذوذ ثم اعتبرت شاهداً مكذباً للنظرية، وقد تم تفسير هذا الشذوذ تبعاً للنظرية النسبية العامة لأينشتاين. وبالتالي أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية العلمية أن تبقى مورداً للقبول حتى لو ظهر دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في نواحٍ أخرى[3].
أما عقل الإنسان العادي فإنه محكوم بالإحساس المشترك العام في الكشف عن الواقع، لهذا فقد تتضارب الرؤية عند العقلين، مثلما هو معلوم حول الموقف من النظرية النسبية لأينشتاين، ومثلها نظرية الكوانتم، فبقدر ما هي مقبولة عند العلماء فانها ليست كذلك تبعاً لمنطق الإحساس المشترك العام. وبحكم هذا التضارب وأمثاله فقد أخذ العلم مدة من الزمن ينظر إلى الإحساس العام كعدو حقيقي يفوق العداوة المعهودة للدين. إلا أن هذه النظرة تراجعت وتغيرت اليوم، إذ لاحظ المهتمون بالشأن العلمي وجود نوع من الملائمة والتوافق بين الرؤيتين، وأصبح السؤال مطروحاً حول ما إذا كان الإحساس العام هو الذي تلائم مع العلم الجديد، أو العكس هو الصحيح؟[4]
على أن للعقل المفكر طريقاً ثالثاً لا يمكن رده إلى العقلين المشار إليهما. فهو بنقديته وتنظيره يتميز عن عقل الإنسان العادي. كما أنه يتميز عن العقل العلمي، إذ يتحكم فيه مبدأ المطابقة بالكشف عن الواقع. كذلك فإن هذا العقل مشغول بالقضايا المعيارية للقيم والحقوق، وكلاهما ليسا محلاً للإعتبارات العلمية الحالية. فمن حيث المطابقة مع الواقع فالعلم - المتعلق بالنظريات ذات التعميم العالي - يستند غالباً إلى إشكالية مبدأ البساطة ويرجحها على الأولى. أما من حيث القضايا المعيارية فمن الواضح أن العلم لا يعيرها أهمية ضمن نطاق الرؤية التي يعمل على تأسيسها.
إذاً يتضح مما سبق بأن الآلية الإجتهادية للمفكر مدينة في عملها إلى الواقع كمصدر معرفي. فالإطلاع المفتوح على الواقع والمقارنة بين مظاهره، والتدقيق في فحص قضاياه وتمحيصها، ومن ثم العمل على توظيف شواهده وتحليلها، أو القيام بالتمييز فيما بينها.. كل ذلك يساعد على خلق الحاسة النقدية التنظيرية، سيما وأن المفكر لا بد من أن يتعرض لمظاهر الجدل الناشئة بين مبادئ العقل من جهة، وبين الواقع من جهة ثانية، أو بينهما من جانب وبين النص من جانب اخر. الأمر الذي يبعد فيه أن يكون العقل المفكر عقلاً ناسخاً للأمر الواقعي. فسواء من حيث مبادئ العقل، أو من حيث موجهات النص؛ كل ذلك لا يسمح له أن يكون عقلاً استنساخياً تابعاً للشأن الواقعي الذي يزخر بحالات الجدل والمعارضة الدؤوبة.
وعليه فإن إرتباط المثقف أو المفكر بالواقع لا يجعله اسير إعتباراته من غير ممارسة النقد، فآليته المعرفية لا تحوز جوهرة أبلغ من حيازتها لهذه الممارسة، خاصة وأنه يشهد مظاهر التحديث والتغيير في الواقع وما ينبني عليها من تحولات معرفية. وبذلك يتبلور لديه نمط من الإجتهاد جرّاء عملية البحث والتحقيق في قضايا الواقع، مما يترتب عليه نتائج قد تتفق أو تختلف مع سائر ما يتمخض عن العمليات الإجتهادية التي تبتعد مرجعيتها المعرفية عن الواقع كتلك التي يزاولها الفقيه وغيره من مختصي الدراسات الإسلامية.
لكن تظل مشكلة المثقف تتحدد بتلك الأطباق الجاهزة التي يأخذها بدوره من عنديات عقول كبار المثقفين من المفكرين، فهنا يتحول المثقف مما هو أداة عقلية لفهم الواقع وتحليله ومن ثم نقده وتقويمه إلى أداة مرآتية تعكس صوراً معرفية مسبقة يسقطها على الواقع بدلاً من أن يقوم بفحصها من خلال الواقع ذاته، وهذا ما ينطبق على مختلف أصناف أهل الثقافة الذين احتكموا إلى مذاهب فكرية بعينها في تصوير الواقع وتقويمه، كالماركسيين والتنويريين وغيرهم.
ج ـ توجيه العقل المثقف
إن الآلية الثقافية موجهة. فقد سبق أن عرفنا بأن رؤية المفكر حول المصدر المعرفي تختلف كلياً عن تلك التي تعود للفقيه. فالمفكر وإن لم يعترض على كون النص مصدراً مهماً للمعرفة؛ إلا أنه لا يعده وحيداً ولا رئيساً من الناحية التكوينية للمعرفة، بل يحتفظ به كمصدر توجيهي، خلافاً لما يصوره الفقيه ويعمل عليه.
وهنا تتبلور نقطة الخلاف.. فالفقيه يجعل من النص مصدراً تكوينياً، وبالتالي تتحدد آليته بالبيان الصرف الموظف للفهم الماهوي، إذ لا يولّد سوى أطباق جاهزة يُسقطها الفقيه على الواقع دون مراعاة لشؤونه وما يترتب على ذلك من آثار الجدل والمعارضة التي تكشف عن ضعف هذا الفهم. في حين لا يتعامل العقل المفكر مع النص تعاملاً بيانياً صرفاً، ولا يتخذ من الفهم الماهوي منهجاً مثلما يصنع الفقيه، بل يستلهم من النص مبادئ توجيهية كلية يجعلها صاحبة المدار والقرار، ويقدر أن جزئيات النص ليست محل تكوين الأطباق الجاهزة؛ بل هي مخصوصة بوقائع مشخصة يُستهدى من خلالها بما يتسق مع روح الخطاب الديني ومقاصد التشريع. وكدلالة على ذلك ما فعله محمد عبده الذي خالف طريقة الفقهاء في الإعتماد على البيان الماهوي؛ مستعيناً بالواقع وربطه بمقاصد التشريع، كما هو حال موقفه من الزواج المتعدد.
[1] تشكيل العقل الحديث، مصدر سابق، ص124.
[2] محمد تقي الحكيم: الأصول العامة للفقه المقارن، المجمع العلمي لاهل البيت، قم، الطبعة الثانية، 1418هـ ـ1997م، ص191ـ192.
[3] انظر مثلاً:L. Jonathan Cohen, An Introduction To The Philosophy of Induction And Probability, Oxford university press, New york, 1989, p. 142. Imre Lakatos, The methodology of scientific reserch programmes, philosiphical papers, volume1, editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, first published 1978, reprinted 1984, cambridge university press, p. 30.
[4] انظر:Edward H . Madden, Introduction, Making sense of science, in:The structure of scientific thought, printed in Great Britian in 1968, p.13.