يحيى محمد
لقد كان لرواد الاصلاح الحديث، من امثال محمد عبده والكواكبي ورشيد رضا وغيرهم، تطلعات واهداف جعلتهم بعيدين عن مسالك العلماء التقليديين. فلعل أول ميزة امتاز بها المفكر الديني من أمثال هؤلاء هو أنه دعا إلى تجديد النظر في الدين، ولم يتوقف عند حد فتح باب الإجتهاد بالمعنى التقليدي[1]. كما أنه حوّل النص إلى مرتع للنظر لدى جميع المدركين ليفيدوا منه ما يفهمونه من دون التوقف عند حدود ما يقوله المفسر والفقيه وما إليهما من أصحاب الطرق التقليدية. وهو بهذا يعد نفسه غير مرتبط بالفقيه والمفسر التقليدي لعدة إعتبارات كالتالي:
أـ إنه على الأقل لا يعمل بالتقليد الذي هو شأن غالب الفقهاء، بل أنه يعده من أهم أسباب انحطاط الأمة وتخلفها. بل في أحيان معينة نجد أن المثقف ينكر التقليد كلياً ويعده من الشرك الذي تجب محاربته من غير هوادة كالذي يذهب إليه محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، ومن ذلك تنديد هذا الأخير بمقلدة الفقهاء حيث ساروا بطريق يخالفون فيه نصوص الآيات أو ظواهرها، مستشهداً بما نقله الفخر الرازي عن أحد شيوخه قائلاً: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها. ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الاكثرين من أهل الدنيا[2]. وقد اعتبر رشيد رضا أن هذه الظاهرة ظلت متفشية بقوة مع مرّ الزمن إلى عصرنا هذا.
ب ـ إنكار المفكر الديني للتنطعات والتدقيقات الفقهية، ومن ذلك أن الكواكبي اعتبر أن توسيع الفقهاء لدائرة الأحكام أدى إلى تضييق الدين على المسلمين تضييقاً اوقع الأمة في ارتباك عظيم، بحيث جعل المسلم لا يكاد يستطيع أن يعد نفسه مسلماً ناجياً لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته تبعاً لطلبات الفقهاء المتشددين الآخذين بالعزائم ‹‹فبذلك أصبح الجمهور الأكبر من المسلمين يعتقدون في أنفسهم التهاون اضطراراً، فيهون عليهم التهاون اختياراً كالغريق لا يحذر البلل. لأنه كيف يطمئن الحنفي العامي حق الإطمئنان في الاستبراء لتصح طهارته؟ وكيف يحسن مخارج الحروف كلها وقد أفسدت العجمة لسانه لتصح صلاته؟ وكذلك كيف يصحح الشافعي العامي نيته على مذهب إمامه في الصلاة؟ أو يعرف شدّات الفاتحة الثلاث عشرة وينتبه لإظهارها كلها ليكون أدى فريضته؟››[3]. وقد ضرب الكواكبي مثلاً بارزاً على التوسع المغالي في الآراء الكثيرة المتعلقة بالسواك. إذ جاء عن النبي (ص) قوله: ‹‹لولا أن اشق على امتي لأمرتهم بالسواك››، فعلى هذا الحديث تشعبت الآراء واتسعت، حيث أخذ الفقهاء يبحثون عن نوع العود المستخدم في السواك وعن طوله وطريقة استعماله والامكنة والاوقات التي ينبغي فيها إستخدامه وما إلى ذلك من تفريعات منافية للمقصد الشرعي[4].
كما أن محمد عبده هو الآخر قد ندد بطريقة بحث الفقهاء في التوسيع والتفريع واصفاً اياها بأنها هي التي ضيعت الدين، حيث أن الفرد العامي الذي يسعى إلى كسب معاشه لا يسعه صرف سنين طويلة في تعلم أحكام الطهارة وسائر العبادات من الكتب الطويلة الصعبة المألوف إستخدامها لدى الفقهاء كما في الأزهر، فعلى حد قوله: ‹‹أي حاجة إلى هذه الأبحاث الطويلة؟ والتدقيقات في مسائل المياه والطهارة والصلاة؟! قال (ص): (صلوا كما رأيتموني اصلي). وشرح صلاته ووضوءه، مما يمكن بيانه في ورقات قليلة[5]، وكل ماء يشرب وينقى به البدن يطهر به.
ج ـ والمفكر الديني إذ لا يعول على الفقيه بالتقليد ولا يعمل بالتنطعات والتدقيقات الفقهية فإن له طرقاً معرفية عدة قام بممارستها. ويمكن تصنيفها إلى أربع طرق رئيسة هي: إنفتاحه على النص مباشرة والعمل بمسلك الفهم المجمل، والتمسك بمسلك السلف الأوائل قبل بروز الخلاف، وممارسة النظر والترجيح بين الآراء العلمية، ثم الإعتماد على مصادر معرفية أخرى. أما بيان هذه الطرق فسيكون كما يلي:
الأولى: الإنفتاح على النص مباشرة: ذلك أن المفكر الديني انفتح على النص مباشرة دون وسائط الفقهاء عادة. فمثلاً شدد الكواكبي في (طبائع الإستبداد) على ضرورة فهم القرآن من غير تقييد، طبقاً لمسلمة كون الدين مبنياً على العقل، وأنه لا بد من التبصر في مقاصده. فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره إذا ما لوحظت مقاصده وتفهم أسباب نزول آياته لا تجد فيه من حكم إلا وتلقّاه العقل بالإجلال والإعظام دون حاجة للرجوع إلى الغير ممن يعملون بالتوسعة والتدقيق، ومن ثم التشويش والتضليل[6].
كما طالب محمد عبده بقراءة القرآن وفهمه مباشرة بعيداً عن التفاسير، بل أنه حذّر من هذه التفاسير وقال وهو يخاطب أعضاء جمعية العروة الوثقى: ‹‹داومْ على قراءة القرآن وتفهّم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان يُتلى على المؤمنين والكافرين أيام الوحي، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو إرتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يحمل عليه، وضع إلى ذلك مطالعة السيرة النبوية واقفاً عند الصحيح المعقول، حاجزاً عينيك عن الضعيف والمبذول››[7]. وعلى هذه الشاكلة اعتبر أن لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتابه، وعن رسوله من كلامه، بغير وساطة أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك العلم بالوسائل التي تؤهله للفهم، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وأحوال العرب والناس زمن البعثة النبوية، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار، فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما، كما عليه أن يطالب المجيب بالدليل، لا فرق في ذلك إن كان السؤال في العقائد أو في الفقه والأحكام العملية ‹‹فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه››[8].
كذلك اعتبر رشيد رضا أن مسائل الدين البحتة من العبادات والحلال والحرام لا يُرجع فيها إلى آراء الفقهاء، وإنما تُسند إلى الشرع من الكتاب والسنة مباشرة. أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فهي مفوضة بأمر الله إلى أولي الأمر الذين هم رجال الشورى من أهل الحل والعقد، وما يقررونه يجب على حكام المسلمين تنفيذه وعلى الرعية قبوله[9]. وهو في محل آخر اعتبر أن مثل هذه القضايا تفوضها عامة الناس إلى أولي الأمر منهم ومن ثم تتبعهم فيها[10]. وهذا يعني - بحسب رأي هذا المفسر - أنه سواء في القضايا الدينية البحتة، أو القضايا الدنيوية، فإنه لا يصح الإعتماد على رأي الفقهاء.
بل من حيث الدقة إن المفكر الديني إذ ينفتح على النص مباشرة فإنه يميل في كثير من الأحيان بإتجاه الفهم المجمل. فهو كثيراً ما ينزع على الدين نزعة الإجمال ولا يرضى بالتدقيقات والتنطعات التي ألِفها الفقهاء وأهل الإختصاص، بل يميل إلى إعتبار التدقيقات ليست صفة الدين ذاته، بل هي صفة الواقع لإمكانية اختباره ومعرفة قضاياه بسهولة. وربما لهذا نجد مثلاً أن الكواكبي يصرح بالإجمالية في عدد من العبارات، منها إعتباره أن الإسلام ‹‹وضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان››[11]. وعليه اعتبر آيات الأحكام لا تعدو عن مائة وخمسين آية، وفي محل آخر عدها لا تتجاوز المائة[12]. وقد امتدح الطريقة التي يُفهم بها المعنى المتبادر بإطمئنان مع النفور عن التوسع في البحث وعدم إعارة السمع للإشكالات، ومن ثم لا حاجة للتدقيقات والأبحاث المسببة للتشديد والتشويش[13]. وأكثر من هذا أكد على ضرورة التمسك بكل ما يقبل الإتفاق وترك غيره من الموارد التي تثير الإختلاف، عبر الإجتماع على ما نعلمه ونفهمه من النصوص والتخلي عن كل ما يرد من نقل مختلف حوله[14].
وشبيه بهذا الموقف ما أكده رشيد رضا في موارد الأخذ بالقطعيات وتقليص دائرة الأحكام والتكاليف، مؤيداً موقفه هذا بذكر شاهد من السيرة النبوية، وهو أن بعض الأعراب كان يجيء النبي (ص) من البادية فيسلم، فيعلّمه النبي ما أوجب الله وما حرم عليه في مجلس واحد فقط، فيعاهده الأعرابي على العمل به، فيقول النبي (ص): ‹‹أفلح الأعرابي إن صدق››. إذ يمثل هذا الشاهد لدى رشيد رضا أعظم أسباب قبول الناس بالإسلام، لكن ‹‹الفقهاء أكثروا التكاليف بآرائهم الإجتهادية حتى صار العلم بها متعسراً، والعمل بها متعذراً››. لذلك فقد تمسك بالمطالبة بكل ما هو قطعي بحيث يفهمه كل من عرض عليه النص، أما ما هو غير قطعي من الآيات الظنية الدلالة، وأخبار الآحاد الظنية الرواية أو الدلالة، فهي موكولة إلى إجتهاد من تثبت عنده في العبادات والأعمال الشخصية، والى إجتهاد أولي الأمر في الأحكام القضائية والمسائل السياسية[15].
الثانية: التمسك بمسلك السلف الأوائل: حيث أن المفكر الديني لجأ إلى الأخذ بمسلك الصحابة والتابعين قبل بروز الخلاف ونشأة الفرق والمذاهب، ولو من خلال تحقيق بعض المتآخرين كإبن تيمية، وذلك في القضايا الغيبية والمسائل العبادية. وأكبر الظن أن هذا المعنى الذي اتجه صوبه بعض المثقفين الرواد، كالذي يلاحظ بوضوح لدى الشيخ الإمام وتلميذه، إنما جاء كرد مناسب على الطريقة السائدة لدى العلماء والفقهاء الذين يذهبون مذهب التقليد للمذاهب المعروفة، سواء في الأصول أو الفروع. لهذا فإن الشيخ الاستاذ يطالب: بـ ‹‹تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى››. فهو يعد هذا التحرير للفكر صديقاً للعلم من حيث أنه باعث على البحث في أسرار الكون وداعي إلى احترام الحقائق الثابتة، كما أنه يطالب بالتعويل عليها في ادب النفس وإصلاح العمل[16].
الثالثة: ممارسة النظر المعرفي: ذلك أن المفكر الديني قام بممارسة الترجيح بين الآراء العلمية الموروثة في الحالات التي لا يسعفه النص ولا يجد طريقة أخرى تقربه إلى التحقيق.
الرابعة: الإعتماد على مصادر معرفية أخرى: ذلك أن المفكر الديني اعتمد على مصدرين هامين من مصادر المعرفة، هما العقل والواقع. وهذا ما سنركز عليه الحديث كالتالي:
لقد أعاد المفكر الديني العقل إلى إطاره الطليعي كمصدر مهم للفهم والتوليد المعرفي، إذ كان على وعي من أن حصر المعرفة بالنص لا يجدي نفعاً. وبذلك عبّر الكواكبي من أنه ‹‹اضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية التي كادت تجعل الغربيين أدرى منّا حتى في مباني ديننا››[17]. وهو يؤكد بأن ميزة الدين الإسلامي كونه مبنياً على العقل المحض، وبالتالي أنه ‹‹أفضل صارف للفكر عن الوقوع في مصائد المخرفين، وانفع وازع يضبط النفس من الشطط، وأقوى مؤثر لتهذيب الأخلاق، وأكبر معين على تحمل مشاق الحياة، وأعظم منشط على الأعمال المهمة الخطرة، وأجل مثبت على المبادئ الشريفة، وفي النتيجة يكون أصح مقياس يستدل به على الأحوال النفسية في الأمم والأفراد رقياً وانحطاطاً››[18]. ومثل ذلك عدّ محمد عبده ‹‹العقل من أجلّ القوى، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل للوصول إليه››[19]. وهو قد أعاد الإعتبار لأولئك الذين أُتهموا بالبدع ممن لجأوا إلى مرجعية العقل مثل المعتزلة.
كذلك فبنظر هؤلاء المصلحين يعتبر الواقع مصدراً رئيساً للمعرفة لا غنى عنه. فمحمد اقبال عبّر عن هذا المصدر بالتجارب والملاحظات والخبرات، بل ورأى أن هناك إتجاها تجريبياً عاماً للقرآن يتبدى من خلال ما يستهدفه من ضرورة التأمل للطبيعة[20]، مؤكداً أن النظر في الكون والآفاق والأنفس، وكذا الوقوف على أخبار الأولين، هي من مصادر المعرفة الإنسانية بحسب القرآن الكريم[21]. أما مرجعية الواقع بنظر الكواكبي فانها تشمل مختلف الميادين، بما فيها الواقع الغربي، وكذا التجارب الحضارية والحاجات الإجتماعية وجميع أصناف الثقافة المعتمدة على الموضوعات الخارجية؛ كالعلوم الإجتماعية من الحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية والتاريخ القومي والجغرافي والطبيعي والسياسي والادارة الداخلية والحربية[22].
وإذا كان البعض من الرواد أبدى أنه لا يعمل بغير الكتاب والسنة، كالذي نراه لدى محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، فلأن هذه التصريحات أتت كرد على مسلك الفقهاء المقلدين الذين وضعوا النصوص المباشرة من الكتاب والسنة خلف أظهرهم. وهو ما يتبين مما ذكره رشيد رضا نقلاً عن محمد عبده بأن شيخاً من أكبر الشيوخ سناً وشهرةً في العلم قال في مجلس إدارة الأزهر على مسمع الملأ من العلماء: ‹‹من قال إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق››، بمعنى أنه لا يجوز العمل إلا بكتب الفقهاء. فردّ عليه محمد عبده قائلاً: ‹‹من قال إنني أعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق››[23].
صحيح أن هذين العَلَمين يعملان بالكتاب والسنة كمختصين لا يختلفان من هذه الناحية عن الفقيه، إلا أنهما لم يتوقفا عند هذا الحد، بل أضافا إلى ذلك مصدراً معرفياً هاماً مستمداً من الواقع، إلى الحد الذي عملا فيه على تأويل النص لصالح الواقع، أو ترجيح مطالب هذا الأخير على الأول، سيما إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار حجم ضغط الحاجات الزمنية والحضارية التي صادفتهما. ويكفي أن نعلم بأن رشيد رضا قد رجّح العلوم الكونية على الفقهية والكلامية في فهم القرآن[24]، وأنه اعتبر إدخال العلوم الطبيعية أهم أركان التفسير والعمل بهدي القرآن لامتلائه بذكر آيات الله في خلق السماوات والأرض[25]. الأمر الذي دعاه إلى الجمع بين العلمين الكوني والديني[26]. كل ذلك مما له دلالة على ما للواقع من مرجعية معرفية تأسيسية لفهم النص.
على أن إعتماد المفكر الديني على الواقع كمصدر رئيس وأساس للمعرفة جعله يبعد نفسه عن الممارسة التقليدية لدى المفسر والفقيه. وهي الممارسة التي تمعن النظر في النص عبر غور معالمه اللغوية والإلتزام بصورها الحرفية، أو من حيث الإرتباط غير المباشر بالنص عبر آليات التقليد التي لجأ إليها الفقهاء المتأخرون التابعون للأئمة الأوائل. فعلى عكس ذلك لجأ المفكر إلى التعامل مع النص؛ تارة بالتأويل والتوجيه بحسب ما تفرضه المعرفة المستوحاة من الواقع، وأخرى من حيث إعتباره مجملاً يحتاج إلى التفصيل المستمد من النظر إلى هذا الواقع وإعتباراته، كالنظر في تجارب المجتمعات والتأثر بميادين العلم. وبالتالي فقد جعل المفكر من الواقع أداة لفهم النص؛ مبعداً نفسه - في ذلك - عن التدقيقات اللغوية التي يوليها كل من المفسر والفقيه جلّ إهتمامه.
هكذا جعل المفكر الديني من الواقع أداة موظفة لدورين في علاقته بالنص:
أ ـ دور التفصيل
وهو الدور الذي أُعتبر فيه النص مجملاً لا يُحل إجماله بالطرق التقليدية من التحليل اللغوي عادة، وإنما بفعل ما يقدمه الواقع من تفصيل. ومن ذلك ما أشار إليه محمد عبده وهو بصدد تفسيره لآية إختلاف الناس ((كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين))[27]، معلقاً عليها بقوله: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر الآية وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا؟ وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها؟ وهل كانت نافعة أم ضارة؟ وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم. لقد أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علماً، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة[28].
ثم أن محمد عبده، وهو بصدد تبيان حاجة المفسّر إلى التعرف على الواقع والكشف عن دور القرآن لهداية البشر جميعاً، اعتبر أن من الواجب على المفسّر أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، ذلك لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وبالتالي كيف يفهم المفسّر ما قبّحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة إن لم يكن عارفاً بأحوالهم وما كانوا عليه؟ ثم أنه استند إلى ما روي عن عمر بن الخطاب بقوله: ‹‹إنما تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية››، حيث بيّن أن المراد من ذلك أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله فإنه سيجهل تأثير هدايته وكيف أن الله تعالى غيّر أحوال الناس وأخرجهم من الظلمات إلى النور ‹‹ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي، كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو، لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر وتأثير تلك الآداب من أين جاء››[29].
كذلك حاول رشيد رضا أن يبيّن دور الواقع في تفصيل ما يجمله النص، ومن ذلك أنه فسّر قوله تعالى: ((يريد الله ليبين لكم))[30]؛ إعتماداً على ما يجري في الواقع، وذلك وهو بصدد الآيات المتعلقة بما أُحل من النكاح وقيوده وشروطه، فجاءت تلك الآية التي علّق عليها بقوله: ‹‹هذا ما فتح الله به علينا في بيان المراد من الآية من حيث أنه لم يذكر معمول (ليبين) لنلتمسه من سنن الفطرة بمعونة ارشادنا إلى كون ديننا دين الفطرة ((فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) (الروم\30)، فقد جاءت هذه الآية بعد آية الزوجية بثمان آيات. وقال تعالى: ((وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون)) الذاريات\19ـ20››[31].
فهذا هو دور الواقع في تفصيل ما يجمله النص.
ب ـ دور التوجيه والتأويل
وهو الدور الذي يغلب أثره عند ربط النص بمباحث العلوم الطبيعية، وكذلك ميادين السنن الكونية والإجتماعية. وقد قام محمد عبده بتبرير إدخال العلوم الطبيعية في الفهم والتفسير من خلال تأويله لآية ((يتلو عليهم آياته))[32]؛ مفسراً إياها بأنها بيان الآيات الكونية والاستفادة منها والإعتبار بها[33]. وأن الكواكبي عدّ المباحث العلمية الحديثة هي تبيان للإعجاز القرآني، حتى أخذ يعدد الكثير من الآيات التي لم يعرف مضمونها الحقيقي إلا بفعل المكتشفات الحديثة. يظل أن الجمع والتوفيق بين العلمين الكوني والديني كان يشوبه الكثير من التعسف في التأويل لصالح الواقع والنظريات العلمية. فمثلاً قام محمد عبده بتحميل العديد من الآيات ما لا تحتمله من معاني التفسير العلمي مما جعله عرضة للنقد. ومن ذلك أنه فسر سورة الفيل تفسيراً قائماً على المكروبات والجراثيم، فجوّز أن تكون الطير الوارد ذكرها في السورة هي بعض الحشرات كالبعوض والذباب، كما وجوّز أن تكون الحجارة هي جراثيم بعض الأمراض[34]. كما جوّز رشيد رضا إعتبار الجراثيم المرضية (المكروبات) نوعاً من الجن[35]. كذلك قام الكواكبي، هو الآخر، بتأويل وتوجيه عدد من الآيات طبقاً لما ساد من نظريات وحقائق علمية، كحدوث الجدري الذي أصاب أصحاب الفيل بالمكروب ((وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل))[36]، وامتلاء الكون بالأثير وأنه أصل مادة الحياة ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان))[37]، وأن القمر منشق من الأرض ((أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها))[38].. ((اقتربت الساعة وانشق القمر))[39]، وكالإخبار عن المركبات البخارية والكهربائية ((وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون))[40]، وكذا الإخبار عن إمساك الظل أو التصوير الشمسي ((ألم ترَ إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً))[41]، وأيضاً تطور الكائنات الحية تبعاً لنظرية داروين ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين))[42].. والكواكبي لا يجد في كل ذلك ما يخالف أصلاً دينياً كما هو الجاري لدى الفقهاء والمفسرين التقليديين[43].
مع هذا نشير إلى أن للمفكر الديني دوراً في التعامل المعاكس لما قدمنا؛ وذلك بجعله مقاصد النص ومبادئه العامة تتخذ إطاراً من التوجيه لمفاصل المعرفة المستمدة من الواقع. وبالتالي فإن العلاقة بين النص والواقع لدى المفكر الديني مزدوجة، فالمعرفة المستمدة من كل منهما تؤثر على الأخرى. لكن بشكل عام يمكن القول بأن المفكر الديني يحفظ للنص مقامه ليس في التكوينات الجزئية مثلما هو الحال لدى الفقيه؛ وإنما في التوجيه الكلي بإعتباره مصدراً للهداية والارشاد.
[1] طبائع الإستبداد، مصدر سابق، ص493.
[2] المنار، ج8، ص169.
[3] الكواكبي: أم القرى، مصدر سابق، ص344.
[4] أم القرى، ص326ـ327.
[5] الأعمال الكاملة، ج3، ص196.
[6] طبائع الإستبداد، مصدر سابق، ص508.
[7] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص183.
[8] الأعمال الكاملة، ج3، ص286.
[9] المنار، ج3، ص327.
[10] المنار، ج5، ص302.
[11] طبائع الإستبداد، ص447.
[12] أم القرى، ص336. وطبائع الإستبداد، ص508.
[13] أم القرى، ص328.
[14] أم القرى، ص282.
[15] المنار، ج11، ص262 و263.
[16] الأعمال الكاملة، ج2، ص318. كذلك: رشيد رضا: تاريخ الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الأولى، 1350هـ ـ1930م، ج1، ص11.
[17] أم القرى، ص302ـ303.
[18] طبائع الإستبداد، ص508.
[19] الأعمال الكاملة، ج1، ص183، عن المقدم محمد عمارة.
[20] محمد اقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلامي، ترجمة عباس محمود، الطبعة الثانية، 1968، ص21.
[21] المصدر، ص144ـ145.
[22] طبائع الإستبداد، ص530.
[23] المنار، ج4، ص283.
[24] المنار، ج1، هامش ص182.
[25] المنار، ج9، ص177.
[26] المنار، ج4، ص44.
[27] البقرة\213.
[28] المنار، ج1، ص23. كذلك: محمد عبده: مشكلات القرآن الكريم، ص17ـ18.
[29] المنار، ج1، ص23ـ24.
[30] النساء/26.
[31] المنار، ج5، ص33.
[32] آل عمران\164.
[33] المنار، ج4، ص222.
[34] ذلك أنه يقول في تفسيره لهذه السورة: ‹‹قد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على افراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح. فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بافساد الجسم وتساقط لحمه. وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في اهلاك من يريد اهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالميكروب - لا يخرج عنها، وهو فرق وجماعات لا يحصى عددها إلا بارئها›› (الأعمال الكاملة للامام محمد عبده، تحقيق محمد عمارة، المؤسسسة العربية للدراسات والنشر، 1973م، ج5، ص529. كذلك: الذهبي، محمد حسين: التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة، مصر، الطبعة الثانية، 1396هـ ـ1976م، ج2، ص568).
[35] المنار، ج3، ص96.
[36] الفيل\3ـ4.
[37] فصلت\11.
[38] الرعد\41.
[39] القمر\1.
[40] يس\41ـ42.
[41] الفرقان\45.
[42] المؤمنون\12.
[43] أم القرى، ص302ـ303. وطبائع الإستبداد، ص454ـ456.