يحيى محمد
إن القضايا المشتركة التي يتنافس عليها المفكر والفقيه في التفكير وإبداء النظر هي تلك التي لها علاقة بالمجتمع، لغرض تغييره وإصلاحه. فمن جانب تتصف هذه القضايا بالعموم لا الفردية، كما أن لها - في الغالب - دلالات معيارية تتعلق بمنظومة القيم والسلوك. ومن ذلك المسائل السياسية وحقوق الإنسان والمرأة والمواطنة والقومية والدستور والعلاقة مع الغرب ومنتجاته الثقافية والمادية وغيرها. وبالتالي فإن لكل منهما رسالة تتعلق بالإصلاح الإجتماعي، وإن بدا التنافس والإختلاف بينهما لإختلاف المعايير المتبعة في التفكير، انطلاقاً مما يحملانه من ركائز معرفية متقاطعة، مما يجعل رهانهما لحل المشكلة الإجتماعية مختلفاً. فبينما يلجأ الفقيه إلى النص كمولد تكويني لكسب الرهان، مستعيناً في ذلك بكل أدوات التحقيق البيانية من السند والدلالة اللغوية؛ فإن المفكر في القبال يعمد إلى التجربة البشرية مع موجهات النص لتحقيق هدفه في الرهان، موظفاً لذلك كل الوسائل العلمية التي تتكفل بها المناهج والعلوم الإنسانية، كعلم الإجتماع والنفس والاقتصاد والإحصاء والتاريخ وغيرها. فمثلاً إذا كان الفقيه يلجأ لحل مشكلة الفساد الخلقي بالوعظ والتحذير؛ فإن المفكر أو المثقف يلجأ في علاجه إلى البحث عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء هذا الفساد لتغييرها، كإن يرى أن المشكلة الأساسية تكمن في البطالة، أو صعوبة الزواج لغلاء المهور، أو للكثافة السكانية، أو غير ذلك. وإذا كان الفقيه يستعين عادة في دعوته لإصلاح المجتمع بخزينه من التكوين البياني للنص دون اللجوء إلى الطرق العلمية المساعدة؛ فإن المثقف على خلافه يستخدم الوسائل العلمية في الإصلاح، ويعتمد على التخطيط قبل القيام بخطواته في التغيير[1].
أما من جهة محفزات حركة كل من المثقف والفقيه؛ فإنه يمكن تصويرهما كإنزيمين لا ينشطان إلا عندما يتحقق ما يناسب الحركة من مثيرات. فالمحفزات التي تدفع بالانزيم المثقف نحو الحركة والنشاط هي تلك التي تتحدد بتأزمات الواقع الإجتماعي؛ لا سيما السياسي منه. في حين إن محفزات الانزيم الفقيه التي تدفع به نحو الفعل والنشاط هي تلك التي تتعلق بتأزمات المظاهر الدينية في المجتمع. وبالتالي فإن الآيديولوجيا التي تحرك الفقيه هي آيديولوجيا دينية، بينما التي تحرك المثقف هي آيديولوجيا واقعية؛ سواء على نحو التبرير أو التغيير، مع لحاظ أن تأزمات الحياة وتغيراتها قلما تحدث في المظاهر الدينية مقارنة بما يحدث في غيرها من المظاهر الإجتماعية والسياسية، وبالتالي فإن ذلك ينعكس على نشاط الانزيمين. فبينما يكون نشاط الانزيم الفقيه خاملاً عادة؛ فإنه على العكس بالنسبة إلى نشاط الانزيم المثقف، حيث تتأجج فيه روح الحركة باستمرار.
إذاً لدى كل من العقلين المثقف والفقيه حساسية تنبعث مما يرجعان إليه من مرتكزات ومولدات معرفية، وهي تتحول إلى نوع من النشاط الانزيمي بفعل ما تصادفه من محفزات خارجية تناسبها.
فالذي يثير حساسية المثقف الديني هو قضايا الواقع الإجتماعي والسياسي، سيما تلك التي تتعلق بالمصالح والحقوق العامة. في حين إن ما يثير الفقيه هو القضايا الدينية من الشعائر والحدود والعبادات وما إليها. وبعبارة أخرى، إن ما يثير المثقف هو الواقع، وما يثير الفقيه هو النص أو الدين. لذا تجد هذا الأخير لا يمانع عادة من مداهنة السلطان المسلم الظالم، ويمتنع أن يفعل نفس الشيء مع السلطان الكافر العادل. وعلى خلافه يلجأ المثقف الديني، حيث يميل إلى مداهنة السلطان العادل وإن كان كافراً ويفضله على السلطان الظالم وإن كان مسلماً.
على ذلك نجد الكواكبي كثيراً ما يمجد الحكومات الغربية ويفضلها على الحكومات المسلمة تبعاً لإعتبارات العدالة وخدمة المجتمع. فهو قد شكر اوروبا في منعها الرقيق[2]، كما وامتدح التشريع الغربي وعدّه حبل الله لأنه في يد الأمة[3]. كذلك أنه فضّل أن يحكمنا الملوك الغربيون عن أن يحكمنا الرؤساء المسلمون؛ معتبراً أن الأوائل أفضل من الآخرين وأولى منهم حكماً، شرعاً وعقلاً، وذلك لكونهم أقرب للعدل وأقدر على إعمار البلاد وترقية العباد ومن ثم تحقيق المصالح العامة، مؤيداً وجهة نظره هذه بفتوى الفقيه رضي الدين علي بن طاووس الذي أفتى بتفضيل الحاكم العادل الكافر على المسلم الجائر، أيام السلطان هولاكو[4]. ونحن نعلم ما ينقله ويقوله إبن تيمية في تلك الأيام من الحملة المغولية، وهو أن ‹‹الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء››[5].
وتبعاً للحساسية الواقعية فإن مفكرنا هذا قد رجّح الوفاق الوطني والقومي على الديني والمذهبي، حيث دعا إلى المساواة والأخاء والوطنية مع غير المسلمين، ومجّد ما إستطاعت إليه امريكا والنمسا في الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق القومي والوطني دون المذهبي. وهو القائل بعد ذلك مباشرة: ‹‹دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء، إلا وهي: فلتحي الأمة، فليحي الوطن، فلنحي طلقاء أعزاء››[6]. وفي القبال اعتبر الدين سلاحاً ذا حدين، إذ يكون فعالاً في الإصلاح والافساد، في الخير وفي الشر. وقد عدّه أقوى تأثيراً من السياسة في ذلك[7]. بل واعتبر الإستبداد السياسي متولداً عن الإستبداد الديني. الأمر الذي اهتم فيه بعلوم الحياة والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الإجتماع والسياسة المدنية؛ معتبراً أنها هي التي يخاف منها المستبدون دون غيرها من قضايا الدين التقليدية، لهذا فقد رجحها على العلوم الدينية[8].
وعلى العموم يمكن القول أنه إذا كان هناك تمييز بين حق الله وحق الإنسان فالملاحظ أن الحساسية الثقافية يغلب عليها الدفاع عن الحق الأخير، بخلاف الحساسية الفقهية التي تنحو باتجاه الدفاع عن الحق الأول.
[1] بهذا الصدد يقول القرضاوي: ‹‹وقد ذكرت يوماً أمام داعية كبير ضرورة التخطيط القائم على الإحصاء ودراسة الواقع، فكان جوابه: هل تحتاج الدعوة إلى الله، وتذكير الناس بالإسلام، إلى تخطيط وإحصاء؟!›› (مجلة الأمة/عدد 56/ 1985م. عن: خليل علي حيدر: الحركة الدينية، حوار من الداخل، شركة كاظمة للنشر، الكويت، الطبعة الأولى، 1987م، ص36).
[2] أم القرى، ص63.
[3] طبائع الإستبداد، ص523.
[4] أم القرى، ص293ـ294.
[5] مجموع فتاوى إبن تيمية، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، 1404هـ، ج28، ص146.
[6] طبائع الإستبداد، ص515.
[7] طبائع الإستبداد، ص445.
[8] طبائع الإستبداد، ص458 و457.