يحيى محمد
يستند المفكر الديني الى ثلاثة أسس من المولدات والموجهات بعضها يتمم البعض الآخر، وهي مستمدة من المصادر المعرفية الثلاثة: النص والعقل والواقع، وذلك كالاتي:
أـ الموجهات النصية
لا يعتمد المفكر الديني في تعامله مع النص على البيان الماهوي كمولد معرفي. فهو ليس مع الحرفية اللفظية التي يمارسها الفقيه، ولا مع التشظي وإمتثال الجزئيات التي يستهدفها الأخير، إنما هو مع الموجهات العامة المستبطنة في النص؛ تارة مصرح بها - مباشرة - كقواعد عامة تشكل جوهر الدين وصلبه، وأخرى مستكشفة عبر دلالات النص في تعامله مع الحوادث والقضايا الجزئية.
وإذا أردنا أن نوضح الفارق بين إعتبار النص لدى الفقيه مولداً، وبين إعتباره موجهاً كما يميل إلى ذلك المفكر الديني، فيمكن إلقاء النظر إلى الفهم الذي أدلى به الكثير من الفقهاء إزاء آية الإعتبار ((هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فإعتبروا يا أولي الأبصار))[1]. إذ فَهِمَ الكثير من الفقهاء أن لفظة (فإعتبروا) لها دلالة على القياس، من حيث إن الأخير هو عبور من الأصل إلى الفرع[2]. وبالتالي فإن تفسير هذه الآية بالنحو الذي يخدم تبرير العمل بالقياس إنما يبرر إتخاذ النص مرجعاً تكوينياً غير مباشر، إضافة إلى مرجعيته المباشرة. في حين إن الآية في المنظور الآخر يمكن أن تخدم رؤية المفكر الديني، حيث تشكّل مبرراً للتوجيه والإرشاد، فهي ذات دلالة على العبرة لا القياس. وبعبارة أخرى، إنها ذات دلالة على التوجيه العام دون التوليد. والذي يؤكد هذه الناحية هو أن سياق الآية ليس بصدد القياس المصطلح عليه. فالسياق دال على أخذ العبرة بالنظر إلى واقع خارجي وتأمله ولو من خلال ما صوّره القرآن وحكاه لأجل الإفادة منه في الواقع[3]. وهذا المعنى يفاد منه التوجيه لا التوليد كالذي يطرحه الفقهاء.
ويمكن تمييز أنواع عدة من موجهات النص، نقتصر على ما يلي:
موجهات التفكير ومعرفة الحق: وذلك بالحث على الممارسة الفطرية للعقل في الكشف عن الصواب، تارة بالترجيح وإتّباع أحسن الأقوال وأرشدها، وأخرى من حيث النظر في الواقع وما يترتب عليه من نتائج مثمرة، كتلك التي تشير إليها الآيات القرآنية حول الكائنات والمخلوقات وما تدل عليه من وجود إله واحد قادر وحكيم هو موجدها. وثالثة عبر الإتيان ببعض الصور الإستدلالية في الكشف عن المطلوب، مثلما هو الحال في قصة ابراهيم (ع) ومحاججاته مع قومه، أو في المحاججات التي أبرزها القرآن الكريم مع الدهريين الذين استبعدوا البعث وإحياء الموتى.
موجهات الإيمان: وهي بمجملها تحث على نبذ الشرك في المعتقد والسلوك، وذلك عبر النهي عن إتخاذ إله غير الواحد الأحد يكون هو مركز الإتجاه والإتصال، سواء من حيث الإعتقاد، أو من حيث التوجه إليه بالعبادة والدعوة والطلب دون غيره مما يبتدع من وسائط بشرية ووثنية.
موجهات العبرة: وهي أغلب ما يؤكد عليه القرآن الكريم، كالذي تظهره قصص القرآن وما تبعث به من موجهات للهداية والعبرة. فهي بالتالي تحث على النظر في الواقع الإجتماعي والتاريخي لأجل فهم ما يجري من سنن تبعاً لخيارات الناس وما يقدمونه من خير وشر، ومن ذلك قوله تعالى: ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين))[4]. ومثل ذلك العبرة بخلق الله تعالى على صعيد الواقع التكويني.
موجهات الهدي بالمقاصد: وهي تلك التي تجعل للأحكام مقاصد هي علة جعلها ووضعها. وتارة أن هذه المقاصد مصرح بها في النص مباشرة، وأخرى غير ذلك، كما قد تكون مقاصد خاصة، وأخرى عامة شاملة[5].
موجهات بناء الأمة الصالحة: وهي التي تحث على تماسك الجماعة ووحدة الإرتباط والتراحم والتضامن والتكافل، وكذا التعاون على البر والتقوى والتنافس على فعل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعداد القوة ولزوم الصبر وضرورة تغيير الأنفس بالترقي ومكافحة الأهواء وشحذ الذهن بالتفكر والبحث عن سبل الصلاح وهدم الفساد والاتكال على الله والرضا بقضائه والعمل بموجبات الأسباب والمسببات.. الخ.
وفي جميع الأحوال إن ما يطرحه النص من النماذج في تلك الموجهات إنما يعبّر عن أمثال للتوجيه لا اللزوم. وبالتالي فإن المعرفة المستمدة من النص لا يمكنها أن تكون تكوينية بهذا الإعتبار، إنما لها صفة التوجيه إلى طرق توليد المعرفة التكوينية، وهي الطرق التي يغلب عليها العلاقة بالواقع.
ولكون هذه الموجهات كلية وثابتة فإن بها تتحقق مظاهر الإصلاح والهدى بلا انقطاع، كما بها - وليس بغيرها - تصدق مقالة إعتبار الدين يصلح في كل زمان ومكان. ومن ثم فإن إرتباط المفكر الديني بهذه الموجهات هو إرتباط صميم لأجل الإصلاح النفسي والإجتماعي. أما جزئيات النص ففائدتها تتكشف لديه من حيث كونها محكومة بالكليات، فلا تعويل عليها إلا عند إحتفاظها بتلك الكفاءة العالية التي تخدم بها الموجهات، ومن ثم فإن قيمتها لا تنبع من ذاتها مثلما هي نظرة الفقيه، بل تمثل - لديه - صوراً إجرائية قابلة للنسخ والتبديل تبعاً لما عليه الموجهات، وبالتالي فإنها لا تشكل صيغاً تكوينية لبنية العقل المفكر أو المثقف.
إذاً إن إرتباط المفكر الديني بكليات الإسلام العامة له أكثر من مبرر: فهي تتفق مع الفطرة الإنسانية وقرارات الوجدان العقلي، وهي ذات القرارت التي يتخذها كموجهات كلية يعتمد عليها لتحليل المعطيات المعرفية للواقع. كما أنها ثابتة لا تخضع إلى إعتبارات تحولات الواقع. يضاف إلى كونها هدفاً منشوداً يطمح الإنسان إلى إمتثالها على أرض الواقع، حيث تستجمع معاني الخير والصلاح للجميع بلا فرق ولا تمييز. كما أن لها قدرة على تغيير الواقع وتعديله من غير أن تتغير في نفسها. كذلك من حيث أن المثقف ليس بوسعه الجمع بين وسائل الفقيه التقليدية والواقع، فإستخدام هذه الوسائل ليس كفيلاً بتغطية حاجات الواقع وسد ثغراته، سيما وأن الفقيه يسير ضمن مسار لا زال متعالياً، فهو يبدأ بالنص لينتهي إليه، ولا يمر بالواقع عادة إلا مروراً عابراً كمرّ الكرام.
فجميع هذه المبررات تعمل على اجتذاب المفكر الديني تجاه التمسك بحبل المبادئ الكلية للإسلام؛ لغرض إصلاح الواقع وتجاوز ما يطرأ عليه من ازمات. لكن في الوقت نفسه أنه يفضي به إلى القطيعة مع الفقيه !
لقد كانت حركة الرواد من المفكرين الدينيين من أمثال الكواكبي وعبده ورشيد رضا تعمل طبقاً لموجهين أساسيين مستلهمين من النص؛ رأوا فيهما مصدر النهضة والإصلاح:
الأول هو الإيمان المتمثل بمبدأ التوحيد الخالص والذي لا يقتصر على عالم العقيدة وإنما يشمل – أيضاً - ميدان السلوك من حياة الناس. إذ كرس الفقهاء وأهل الطرق الصوفية العديد من مظاهر التقليد والوساطة بين العبد والرب؛ بما اعتبره هؤلاء المفكرون بأنه أهم ما جلب على المسلمين من انحطاط وتخلف واتكال، فكانت ردة فعلهم الرئيسة هي العمل على تنبيه الأمة من آفة هاتين الطريقتين؛ وذلك باللجوء المباشر إلى موجهات النص عبر عدد كبير من الآيات التي لا تدع مجالاً للشك بأن من مقاصد الدين الأساسية هو التوحيد الخالص، بعيداً عن تلك المظاهر من التقليد والوسائط المختلقة: ((إن هي إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان))[6].
أما المبدأ الثاني فهو العمل الصالح بكل ما يحمل من مضامين فردية وإجتماعية وسياسية. فهو الموجه الآخر الذي أكد عليه النص في عدد كبير من الآيات كمقصد أساس للدين.
وقد ميّز رواد الفكر الديني بين المبدئين الآنفي الذكر. فبحسب المبدأ الأول تمسكوا بالمحافظة على ما جاء به النص من تفاصيل تخص كيفية التوحيد وكذا العبادة وحدود ما يتحقق فيها من توحيد عملي من غير زيادة ولا نقصان ولا تنطع ولا تنقير. أما بحسب المبدأ الثاني فالحال يختلف، إذ لما كان العقل يدرك معانيه وفهم مغازيه؛ لذا فالأمر موكول إلى الإجتهاد العقلي بالصورة التي يتحقق فيها معنى الإصلاح؛ وذلك بأخذ الأحوال والظروف بنظر الإعتبار. وبالتالي فإن تفاصيل الإصلاح ليست تعبدية مثلما هو الحال مع تفاصيل الغيب والعبادة.
لكن كلا المبدئين الآنفي الذكر قد ساهم في توجيه عقول أولئك المفكرين الرواد، إذ كان لهما دور بارز في التعامل مع الجوانب التطبيقية للقضايا الدينية والحياتية للواقع الإجتماعي. فالهمّ الذي شغل عقول هؤلاء المفكرين هو العمل على نهضة الأمة وتجاوز ما لحق بها من تخلف وانحطاط، وقد جعلهم ذلك ينقادون إلى توظيف التوحيد الخالص إلى معان إجتماعية غرضها الإصلاح. وبالتالي بات الإصلاح هو المبدأ الراسخ الذي شغل همّ المثقفين قديماً وحديثاً، وأن منظومة القيم وحقوق الإنسان هي التي كان لها النصيب الأوفر في مستودع التفكير لدى العقل المفكر أو المثقف مقارنة مع ما عليه الحقوق الإلهية؛ إن جازت التفرقة بينهما. بل أخذ مفهوم الإنسان يتبلور تبعاً لموجهات النص من العمل الصالح وعلاقته بالإستخلاف، وهو أنه في ذاته يحمل أمانة ربانية تستهدف الإستخلاف الحضاري، وأن عملية الإستخلاف لا تتحقق إلا بفعل الإصلاح العام، وبالتالي فالإستخلاف هو علامة العمل الصالح، مثلما أشار إلى ذلك رشيد رضا.
إذاً إن أبرز الموجهات الفاعلة للنص في العقل المفكر هي منظومة القيم وخلافة الإنسان.
ب ـ الموجهات العقلية
تلك كانت موجهات النص في العقل المفكر، أما موجهاته العقلية؛ فالملاحظ أن نظره العقلي ليس أداة تحليل فحسب، وإنما هو كاشف أيضاً عن المولدات والموجهات. ففضلاً عن كونه كاشفاً عما في النص والواقع من موجهات ومولدات لولاهما ما كان بوسعه أن يدركها؛ فإنه كذلك موظف للإدراك المباشر لعدد من الموجهات المستقلة، سواء انفرد بها، أو كان محل إشتراك - في ذلك - مع ما يظهره النص أو الواقع. وابرز الموجهات العقلية الفاعلة لدى المفكر هي تلك التي تتعلق بقواعد الأخلاق والمنظومة القيمية على الصعيد العملي، وكذلك قوانين الإرتباط السببي على الصعيد الكوني الوجودي.
وقد يقال أنه إذا كانت الموجهات العقلية لدى المفكر هي منظومة القيم مثلما هو الحال في الموجهات النصية، فأي ضرورة لهذه الأخيرة؟ وكيف نطلق عليها بالموجهات طالما أنها امضائية للأحكام العقلية المستقلة؟ وبعبارة أخرى: هل هناك من إضافة للنص يفتقر إليها العقل في مجال هذه القيم أم لا؟
والجواب أن فائدة ذكر النص لتلك القيم الامضائية ليس لغرض التوكيد والتنبيه والتذكير فحسب، بل الأهم من ذلك ما ورد في النص من الوعد بالجزاء، خاصة فيما يتعلق بالعقاب للردع عن الإنحراف، ففي الغالب أن النفوس تخاف مما يتوعد به الشرع، ولا تخاف مما تستهجنه النفوس والعقول، فترتدع بسبب الأول دون الثاني، وهي الحكمة في توكيد الشرع عليها رغم أنها يمكن أن تدرك بذات العقل والوجدان.
كما قد يقال أنه إذا كانت قوانين الإرتباط السببي تعبّر عن حقائق الواقع وتشكيلاته؛ فأي داع يجعلنا نعد هذه القوانين عقلية وليست واقعية؛ طالما كان هناك تمييز بين العقل والواقع؟
والجواب هو أن إدراك العلاقات السببية للواقع لا يحصل بمعزل عن العقل وأحكامه القبلية. فما نشهده من هذه الروابط إنما هو موجه بصيغ من الإعتبارات القبلية؛ بدونها يستحيل الحكم منطقياً على أي معرفة تصديقية معطاة من الواقع. فلا توجد معرفة غير مسبوقة بتلك الأصول الموجهة. وبالتالي فالعقل ليس خلواً عن قواعد التوجيه التي بدونها تفقد المعرفة المكتسبة معناها الموضوعي مهما كانت بسيطة وأولية.
يظل أن خصوصية المفكر - هنا - هو توظيفه اللاشعوري لهذه الموجهات للكشف عن شبكة العلاقات الدائرة في الواقع؛ ومن ثم استنتاج الحقائق منها.
ج ـ المولدات الواقعي
أما من حيث مولداته الواقعية؛ فالملاحظ أن العقل المفكر يرتبط بالواقع إرتباطاً تكوينياً، فمناطه الاستكشاف والتفصيل والتدقيق. وهو بفعل هذه الممارسات يكون قد استوعب قدراً واسعاً من معالم الواقع وحيثياته الجزئية لتشكل الحجم الأكبر من منظومته المعرفية، كما يستكشف من خلالها حالات السنن والقوانين التي تتحكم في الواقع، والتي تصبح بدورها مصادر لتوليد المعرفة وضبطها وأحكامها، ومن ثم اثراء الجدل بينها وبين تلك الحيثيات الجزئية، مثلما هو الجاري في البناء العلمي الطبيعي، أو بينهما من جانب وبين كل من مضامين العقل والنص من جانب اخر. أو أنها مع سائر حيثيات الواقع وجزئياته تشكل محوراً تنبني عليهما مظاهر تفصيل ما يجمله كل من العقل والنص.
هكذا أن استكشاف القوانين والسنن العامة من الواقع لا بد أن تسبقها المعرفة الجزئية لهذا الواقع. وأن عملية السبق هذه لا تجري من غير مولدات عقلية وكلية هي التي تضفي على المعرفة قيمتها ومصداقيتها.
وعلى العموم يمكن إرجاع سلطة التوليد التي تتحكم في العقل المثقف بشتى أصنافه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى التجربة والخبرة البشرية بمعطياتها الموضوعية. فهذه الخبرة تتحول بشكل من الأشكال إلى مبادئ يستوحيها المثقف بفعل النظر إليها مباشرة، أو بفعل إتّباع من قام بتحويلها إلى تلك المبادئ المعرفية العامة. ففي كلا الحالين يكون المثقف حاملاً لمبادئ وأفكار هي نتاج النظر في تلك التجربة، والتي تعبّر تارة عن معطى تاريخي، وأخرى عن معطى حديث، وثالثة عن معطى يتصف بالعموم والشمول.
فالمثقف الماركسي وهو يستنسخ فكر ماركس إنما يعبّر عن الشكل غير المباشر من النظر في التجربة البشرية والتي يراها تسير وفق ما استخلصه هذا الفيلسوف من قوانين بعد اجلاء النظر في الواقع وصيرورته التاريخية.
والمثقف العلموي هو الآخر يرى أن التجربة البشرية المتمثلة بالنهج الذي اختطه العلم الحديث، والذي اثبت نجاحه الخلاق في العديد من النواحي، يكفي أن يُتخذ أصلاً مولداً للمعرفة الحقة في مختلف الأصعدة والمجالات. فهو بهذا يستند إلى ما حققته التجربة البشرية من نجاح على الصعيد العلمي ليجعل منها حلقة وصل للتعميم في جميع القضايا التي يتطلع إلى حلها الإنسان.
كذلك فإن المثقف العقلاني هو الآخر قد جعل من التجربة البشرية المتمثلة في عصر التنوير أساساً مولداً للنهضة المعرفية والإجتماعية، معولاً في ذلك على المبادئ التي نجح التنويريون في بثها ونشرها لدى أوساط المجتمع، كالعقلانية والحرية والمساواة والديمقراطية وغيرها.
والمثقف الذرائعي، كما يتمثل بالقومي، يرى في الأمة مزايا تشكل أصلاً مجرباً يُعتمد عليه في النهضة وتحقيق الامال التي تصبو إليها. فكثيراً ما يرجع إلى تجربة الأمة في صيرورتها التاريخية ليؤكد ما عليه قدراتها في تحقيق التطور والازدهار؛ مستخلصاً من ذلك مزاياها الخصوصية كمبادئ يستضيء بنورها؛ جاعلاً منها أصلاً يتكئ عليه لغرض إعادة تشكيل الحاضر بما يتفق وضرورات العصر الحديث. الأمر الذي يضطره إلى الاستعانة بالتجربة الغربية واستلهام مبادئها المعرفية ليكون قادراً على التفاعل مع الإشكاليات الحديثة ومواجهة الواقع الراهن.
أما التجربة البشرية التي يتطلع إليها المثقف الديني ويستلهم منها أفكاره ومبادئه فهي تتكون من رصيدين مهمين، أحدهما التجربة التاريخية التي نتج عنها تراثنا الإسلامي وما ينطوي عليه من صور تعبر عن بعض التشكيلات الناجحة في عدد من المجالات، كالمجال العلمي والأخلاقي والتربوي والسياسي، ومن ذلك التفكير في نظام الخلافة الراشدة كأصل يُعتمد عليه في الرؤية المتصورة عن طبيعة ما يكون عليه النظام السياسي والإجتماعي من مواصفات تبرز فيها صور العدالة والزهد والصفاء وحرية الرأي والنقد والشورى والتقويم وما إليها من مفاهيم مستخلصة من تلك التجربة الفذة لعصر الإسلام الذهبي. أما الرصيد الآخر فهو التجربة الحديثة المتمثلة بالدرجة الرئيسة بما حققه الغرب من نجاحات كبيرة في الكثير من المحاور بما فيها ما نحن بصدده من المجال المعرفي، فكان على المثقف أن ينتقي من المسالك والمفاهيم المعرفية ما شاء له، كما أنه كثيراً ما قام بالمزاوجة بين التجربتين المحلية والأجنبية.
وعليه لما كانت التجربة والخبرة البشرية مصدر توليد للمعرفة، فانها تمثل – بهذا الإعتبار - نقطة اسناد يلجأ إليها المثقف أو المفكر في موارد الأخذ والرفض والفهم والتوجيه والإسقاط والتأويل، مثلما يلجأ الفقيه إلى مرجعية البيان الماهوي ليحدد تلك الموارد من الأخذ والرفض والفهم وما إلى ذلك.
والمثقف لا يلجأ إلى التجربة البشرية بدواع ابستمولوجية معرفية علمية بحتة، إنما هو عرضة للمنعطفات الآيديولوجية ومنزلقاتها، بما فيها تلك التي لا تخرج عن إطار هذه التجربة ذاتها. فهو كثيراً ما ينحاز إلى تجربة حيال أخرى، والى واقع ضد اخر. وينطبق هذا الأمر على المثقف الديني، بحيث يزدحم عنده الدور الآيديولوجي كلما ازداد إحتكاكاً بالواقع، وعلى رأسه الواقع السياسي.
وبغض النظر عن البعد الآيديولوجي لحركة المثقف بشتى أصنافه؛ تظل المعايير التي يعتمدها في الغالب معايير مستمدة من التجربة البشرية، وهي مصاغة بشكل مبادئ وتصورات كلية تستهدف كلاً من الفهم والتوجيه والتوليد، فتوصف تارة بمبادئ التنوير والعقلانية، وثانية بمبادئ الثورة والتقدم والإشتراكية، وثالثة بمبادئ الحرية والليبرالية، ورابعة بمبادئ العلم والمعرفة المنظمة الاكاديمية، وخامسة بمبادئ الوحدة القومية كالذي روّج له القوميون العرب تحت شعار: الوحدة والحرية والإشتراكية.. وأخيراً بمبادئ العدل والمساواة والأخاء الإنساني... الخ.
فجميع هذه المبادئ والتصورات مشحونة بتجارب الواقع؛ مع ما فيها من انتقاءات تتضمن التقريب والاستبعاد. وبالتالي فالمثقف مدين في توليده المعرفي إلى تلك النماذج التي حققتها التجربة البشرية أو يُفهم أنها تدل عليها. فهو من ثم يعتمد على مثال ما من الواقع ليحتذي به، أو ليجعل منه مصدراً للتوجيه والتوليد المعرفي. لكنه في كثير من الأحيان لا يُخضِع هذا الواقع الخاص الذي يلجأ إليه، كنموذج يؤسس عليه رؤاه وتوجهاته، إلى التحليل والنقد. ومن ذلك أنه يخلط أحياناً بين الواقعين الغربي والمحلي فيسقط ما لدى الأول على الآخر؛ من غير أن يفكر جدياً بأهمية المكان ودوره وخصوصيته. كما كثيراً ما يقع تحت ضغط الواقع المعاش وتوجيهه بلا رؤية تاريخية - استشرافية تعمل على نقد الحاضر وعدم الاستسلام إلى ضغوطه وتغريراته، إذ لم يفكر بأهمية الزمان وإعتباراته، ولم يولِ التجارب التاريخية حقها من النظر، بل جعل تفكيره محصوراً ضمن دائرة الحاجات الزمنية ومتطلبات العصر. وبالتالي فإنه يفتقر إلى الرؤية الشمولية التي تأخذ كلاً من المكان والزمان بعين النظر والإعتبار.
وبعبارة أخرى، مع أن المثقف يعول على الواقع كثيراً في بناء وتكوين منظومته المعرفية؛ إلا أن الإشكال هو أن هذه العملية من البناء والتكوين تتم بصورة انتقائية بلا منهج محدد في الغالب. إذ ينتقي المثقف صوراً جزئية ليشكل منها مفاهيم كلية يعمل على تعميمها وإسقاطها بنوع ما من التعسف. أي أنه يمارس ما يشابه الدور الذي يمارسه الفقيه عندما يحول جزئيات النص إلى كليات عامة قابلة للإسقاط على مختلف أصناف الواقع. وبهذا الدور ليس المثقف محايداً في نظرته لما يجري أمامه من تجارب واحداث؛ طالما أنه يعيش أزمة تعكس ما يدور في الواقع من تناقضات وتغايرات. وهو لكي يعمل على حل هذه الأزمة يلجأ إلى الانتقائية الواقعية. فالبعض يرى أن ما حلله ماركس للواقع الرأسمالي الغربي وما انتهى إليه من تصورات إجتماعية وتاريخية يمكن أن يصدق على مختلف الأحوال والبيئات، وبهذا تصبح الإطروحة الماركسية قابلة للتبني في مواجهة الازمات التي يشهدها واقعنا المحلي والعالمي، سواء بسواء. وبعض آخر يرى أن ما تم فعله وإنجازه من تنوير وعقلانية في العالم الغربي منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا يمكن اختزاله وتطبيقه على مجتمعنا، وذلك بالعمل على تحليل أفكارنا ضمن معيار مبادئ التنوير؛ فهي إما عقلانية أو لا عقلانية، وتنويرية أو ظلامية، وتقدمية أو رجعية... الخ. وبعض ثالث يعول على الواقع التاريخي كملجأ نلوذ به من أجل إعادة ترميم ما نالنا من صدأ الإنحطاط والفرقة والتشرذم؛ عبر إطروحة قومية تجمع شتات الأمة وطاقاتها. وأخيراً يرى البعض أن في التجربة الأولى للرسالة الإسلامية أعظم معين وسند يمكن الإتكاء عليه لغرض إصلاح واقع الأمة وإعادة دورها من جديد بمثل ما كانت عليه من قبل.
وقد جمع الأخير في انتقائيته بين الواقعين الغربي والإسلامي. بل كثيراً ما كان يداخل بينهما، سيما وقد غابت عنه ضوابط الانتقاء والمنهجية، سوى أنه يلبي في الغالب تلك الذرائعية التي تخدم المرحلة، كما يلاحظ ذلك لدى الرواد من المفكرين الدينيين. الأمر الذي أثر على طبيعة قراءته لنص الخطاب، لكنها في جميع الأحوال تختلف بنيوياً عن القراءة التي اعتمدها الفقيه – وغيره من مختصي الدراسات الإسلامية التقليدية - استناداً إلى البيان الماهوي، مما جعل القطيعة بينهما أمراً متحققاً فعلاً.
وإذا أردنا أن نختصر ما لدى المفكر الديني من مولدات معرفية؛ فيمكن التعويل على الإتساق العام في التشكيلة التي ربط فيها بين المصادر المعرفية الثلاثة: النص والعقل والواقع. فالنص لدى المفكر ذو تركيبة مجملة يفاد منه التوجيه عند التعامل مع الواقع، وكذا هو الحال مع العقل في قواعده الكلية الموجهة. أما الواقع فهو محل التفصيل الذي يتكون به العقل الثقافي. ومن حيث أنه عنصر تفصيل فهو محل بحث وفحص ومراجعة من غير انقطاع، خلافاً لما عليه الحال في المجملين الآنفي الذكر.
إن مثلث التوليد لدى المفكر الديني يستبطن - إذاً - جانباً من الوحدة والاتساق. فالموجهات العامة للنص، كمقاصد التشريع وغيرها، تتطابق مع قرارات الوجدان العقلي من غير تضارب. وهي أيضاً لا يمكنها أن تكون في تعارض مع الواقع. فبين الأخير والمقاصد وسائر الموجهات علاقة حميمة، بخلاف الحال فيما لو عكسنا القضية، كإن نعول - كما يفعل الفقيه - على تفاصيل النص ونطابقها مع الواقع بتفاصيله ومجملاته. فبين هذه وتلك لا بد من أن يظهر التعارض؛ ما لم يتم فهم النص فهماً آخر يبعد عن البيان الماهوي، ويقرب إلى المقاصد والموجهات الكلية.
وعلى العموم أن اللجوء إلى النص بحسب الفهم الماهوي كما يزاوله الفقيه؛ لا بد من أن يصطدم مع كل من الموجهات الكلية كما تتمثل بالمقاصد والواقع. وبالتالي لا غنى عن العمل بهذه القواعد وجعل العلاقة بين النص والواقع علاقة قائمة على الإجمال والتفصيل. الأمر الذي يميل إليه المفكر عادة. فرغم ممارساته الانتقائية، بل والتلفيقية أحياناً في مزاوجته للنص والواقع، كما يبدو من تعامله مع قضايا العلوم الطبيعية، فإنه رغم هذه التلفيقية يميل إلى قراءة النص قراءة مجملة وموجهة، ويشدد على أخذ التفاصيل من التجربة البشرية، خلافاً لمسلك الفقيه الماهوي.
وإذا عدنا إلى النتائج الأخيرة من المولدات والموجهات المعرفية لدى المفكر؛ فسنجد أنه يمكن اختصارها بأمرين معاً، هما موجهات النص ومولدات الواقع. أما الموجهات العقلية فتتبدد تحت موجهات النص كما في القيم، وتحت مولدات الواقع كما في الإرتباط السببي الذي تتضمنه التجربة أو الخبرة البشرية، ويظل للعقل التحليل والنقد.
وتعد منظومة القيم وخلافة الإنسان أهم موجهات النص لدى المفكر، كما تعد التجربة البشرية فيأبعادها الكونية والانسانية أهم مولداته الواقعية. فنحن - إذاً - أمام ثلاثةأبعاد يكامل بعضها البعض الآخر، وهي القيم والإستخلاف والتجربة أو الخبرة.
فالإستخلاف هو ما يستهدفه المفكر عبر تأكيد ضرورة العمل لاستثمار الطاقة البشرية في إصلاح ما عليه الأمة من أوضاع متردية في المجالات كافة. وأن التجربة البشرية موظفة لاستكشاف العوالم التي يمكنها أن تساعد على تحقيق تلك العملية من الإصلاح والإستخلاف. أما القيم فهي بطبيعتها ثابتة ومحافظة؛ غرضها منع التجربة من أن تضل طريقها لتحقيق ذلك الهدف المنشود.
[1] الحشر/2.
[2] أبو حسين البصري: المعتمد، ج2، ص766. والغزالي: المستصفى، ج2، ص254. والآمدي: الأحكام، ج4، ص291.
[3] انظر حول ذلك: الإجتهاد والتقليد والإتباع والنظر.
[4] آل عمران/138ـ139.
[5] انظر التفصيل في: فهم الدين والواقع.
[6] النجم/23.