يحيى محمد
لقد مال المفكر الديني إلى الأخذ بالأسباب الطبيعية وكذا التفسير السنني للنصوص التي تتحدث عن الأحداث والوقائع، مع الإبتعاد عن التفاسير القائمة على الخوارق الغيبية غير الطبيعية، اتساقاً مع المنهج العلمي المتبع في الغرب، بل وإعترافاً بما له من فضل في التنبيه على ذلك كما سيأتي ذكره. فهذه التوفيقية هي التي نادى لها رشيد رضا معتبراً أن الله أقام سنناً طبيعية مجبرين عليها، ووكل إلينا إقامة سنناً تشريعية مختارين فيها، فإذا لم نوفق باختيارنا بين النوعين من السنن فإنه سيثبت الجبري ويبطل الاختياري[1].
لهذا لم يتقبل المفكر الديني ما يُنقل من نصوص ظاهرها يدل على الخوارق غير العادية ما لم تثبت ثبوتاً قطعياً. فقد عمل على تكذيب الخبر المنافي للسنن إن كان غير قطعي السند مما يرجع إلى أخبار الآحاد، أو سعى إلى تأويله إن كان السند فيه قطعياً كما في الآيات القرآنية الكريمة. وهذا النمط من التعامل مع النصوص هو الجاري في تفسير الشيخ الإمام وتلميذه، حيث ممارسة التأويل للنصوص القطعية التي تتصف بالغيبية أو تبدي جوانب خرق العادة، ومن ثم اضفاء الصبغة السننية على المعنى المأول وجعل الفكر الإسلامي يحمل معان معقولة برد الأمور إلى التجارب والمشاهدات الحياتية والعلمية؛ بحيث تتسق مع الإكتشافات الحديثة وتقرّب المعنى إليها، كما يلاحظ في التأويلات التي لاحت قضايا ومفاهيم قرآنية ظاهرها غيبي وتحويلها إلى معانٍ طبيعية لها شواهد من الواقع، مثل مفاهيم الجن والشيطان وما تضمنته سورة الفيل وغيرها، خلافاً للنهج الذي سلكه الفقيه والمفسر التقليدي.
وهناك توجيهات للآيات تخدم الغرض من التفسير السنني، وهي ليست بتأويلات بالمعنى الذي يبعد عن ظاهر النص. ومن ذلك أن محمد عبده قام باضفاء الصبغة السننية والافادة من الواقع في تفسير الآيات التي تتحدث عن القرار الإلهي في اختيار الإنسان خليفة له في الأرض مع اعتراض الملائكة ورد الباري وعرض الأسماء عليهم وسجودهم لهذا الخليفة وعصيان ابليس عن السجود، فكل ذلك تناوله الشيخ الإمام بطريقة قرّب فيها المعاني الغيبية إلى صور منتزعة عن حقيقة الواقع البشري والسنن التي تحكمه .
وبعبارة أخرى أنه صوّر العلاقة بين آدم وابليس والملائكة في العلم والأوامر المناطة بهم بأنها ذات طبيعة تكوينية سننية تقبل الفهم بما ندركه من طبائع الأمور في الحياة البشرية. فبداية أنه اعتبر بأن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه مسخرة لوجود الإنسان يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وأن سؤال الملائكة عن جعل هذا الكائن يفسد في الأرض تبعاً لإختياره وإعطائه الإستعداد في العلم والعمل لا حدّ لهما إنما هو تصوير لما يحمله الإنسان من هذه الإمكانيات، وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض. كما أن تعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها. وأن عرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب إنما هو تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدوداً لا يتعدى وظيفته. وأن سجود الملائكة لادم هو تسخير هذه الأرواح والقوى له حتى يرتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك. وأن إباء ابليس واستكباره عن السجود فهو تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض[2] .
[1] محاورة المصلح والمقلد لرشيد رضا، ص55. عن عزيز العظمة: العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 1998م، ص164ـ165.
[2] المنار، ج1، ص281.