يحيى محمد
في دراسة مستقلة حددنا الكينونة العامة للمثقف من حيث ما يتصف به من متابعة وتحقيق وقدرة على الفهم؛ الى حدّ يكون له أكثر من موقف..
فابتداءاً لسنا بصدد بحث السلطات الايديولوجية التي يخضع لها المثقف في تطلعاته وتوجهاته بحكم ارتباطه المعرفي والصميمي بأوضاع الواقع وتأزماته. فما يهمنا بالفعل هو الكشف عن الموقف العام الذي يؤسسه المثقف ابستيمياً. ومن حيث التحليل يلاحظ ان موقف المثقف ليس احادياً، بل يتخذ شكلين من السلوك المعرفي، أحدهما ما سبق ان اصطلحنا عليه النظر، وذلك لقيامه بمهام النظر في أدلة الآراء وترجيح بعضها على البعض الآخر. أما الشكل الآخر فهو عبارة عن نوع من «الإجتهاد» يخلو عادة من التنظير والمنهجة، بخلاف ما هو حاصل مع الفقيه.
كيف؟!
إن أُولى الحقائق التي ينبغي التذكير بها هو ان المثقف الحديث مدين بوجوده وحضوره إلى الجامعات والمعاهد العلمية الحديثة. ذلك انها تشكل الرافد الرئيسي لما يستحضره من معارف وثقافة. ومن ثم يمكن القول ان نشأة هذا المثقف وتاريخه هما بالذات يعبران تعبيراً مطابقاً عن نشأة هذه المؤسسات وتاريخها. مما يكشف عن أن البناء المعرفي الذي تتشكل به هذه الهياكل العلمية لا بد وان تضع بصماتها الشاخصة في البنية العقلية لوعي المثقف الباطن. وبالتالي فلكي نحدد طبيعة هذه البنية لا بد ان ندرك سلفاً خصائص البناء المعرفي الذي تمتاز به تلك الهياكل.
وليس من الصعب تحديد طبيعة هذا البناء. ذلك ان الميزة الرئيسية لوظيفة التشكيلات العلمية الحديثة هو انها تمارس آلياتها المعرفية بالخوض في القضايا التي يكون فيها «الواقع» هو الرافد الرئيسي بمختلف اشكاله وصنوفه.
لهذا فإن البناء المعرفي لهذه المؤسسات هو بناء ذو طبيعة واقعية ممزوجة بما يناسبها من التحليل العقلي. ويترتب على ذلك أن البنية المعرفية للعقل المثقف تصبح مطبوعة بالطابع الواقعي مع اصطباغها بصبغة التحليل العقلي.
فعلى الرغم من ان المثقف ليس له في الغالب منهج محدد يتحرك ضمن إطاره، أو انه لا يعي طبيعة المنهج الذي يسير على هداه؛ إلا انه مع هذا ملزم بالانشداد والانفتاح على «الواقع»؛ يستجوبه ويستمد منه ما يثيره من قضايا، لا سيما تلك التي ترتبط بهمومه وطموحه وتطلعاته. وبالتالي فإن للواقع أهمية خاصة بالنسبة للمثقف، وذلك باعتبارين: أحدهما من حيث انه مصدر معرفي يلجأ اليه المثقف بالانفتاح والاطلاع ليشكل منه مادة معرفية يعمل على صياغتها بملكة التحليل. والآخر بما يتصف به من خاصية افراز مختلف ضروب التأزم، مما يحتاج إلى عقل متفتح قادر على استيعابه وبلورة موقف معرفي إزائه؛ سعياً نحو تغييره إلى المستوى الذي تزول فيه حالة التأزم.
هكذا ان الصورة الشاخصة عن المثقف الحديث، سواء كان ينزع نزعة إسلامية أو غيرها، هي صورة مفعمة بروح الواقع قبل أي اعتبار آخر. فليس فقط ان مصادره المعرفية تمتد جذورها من حيث الأساس إلى الواقع، بل كذلك إن تحديد الموقف المعرفي لا يجد غرضاً يستهدفه غير هذا الواقع.. فمنه المبتدأ وإليه المنتهى.
لكن مع لحاظ ان ارتباط المثقف بالواقع لا يجعله أسير اعتباراته من غير ممارسة النقد، فآليته المعرفية لا تمتلك جوهرة أبلغ من حيازتها لهذه الممارسة، خاصة وانه يشهد مظاهر التحديث والتغيير في الواقع وما يترتب عليها من تحولات معرفية. وبذلك يتبلور لديه نمط من الإجتهاد جرّاء عملية البحث والتحقيق في قضايا الواقع، فيترتب على ذلك نتائج كثيراً ما تختلف مع المرجعيات المعرفية الأخرى المتعالية عن الواقع.
***
وحول المثقف المسلم نلاحظ أن له خصوصية إضافية، وهي أنه يرتبط بالإسلام ارتباطاً وجدانياً جاعلاً منه معتقداً حقاً صالحاً للمصادقة والمطابقة مع الواقع. لذا فهو يجمع في مصادره المعرفية بين الإسلام والواقع. لكن تعويله على الإسلام في سلوكه الإجتهادي ليس من جهة جزئياته وتفاصيله، وانما بكلياته العامة؛ متمثلة بالدرجة الرئيسية بمقاصد التشريع.
وارتباط المثقف بكليات الإسلام العامة له أكثر من مبرر: ذلك انها تتفق مع الفطرة الانسانية وقرارات الوجدان العقلي، وهي القرارت التي يتخذها المثقف كمولدات وموجهات كلية يعتمد عليها في تحليل المعطيات المعرفية للواقع. كما أنها ثابتة لا تخضع إلى اعتبارات تحولات الواقع. وأنها هدف منشود يطمح الانسان إلى امتثالها على أرض الواقع، حيث تستجمع معاني الخير والصلاح للجميع بلا فرق ولا تمييز. كما أن لها قدرة على تغيير الواقع واصلاحه من غير ان تتغير هي في نفسها. كذلك من حيث إن المثقف ليس بوسعه الجمع بين وسائل الفقيه التقليدية وبين الواقع، لأنه من جهة غير مختص في الغالب، ولأن استخدام هذه الوسائل ليس كفيلاً بتغطية حاجات الواقع وسد ثغراته، خاصة وان الفقيه يسير ضمن مسار ما زال متعالياً عن الواقع، فهو يبدأ بالنص لينتهي اليه، ولا يمر بالواقع عادة إلا مروراً عابراً كمرّ الكرام.. فجميع هذه المبررات تعمل على اجتذاب المثقف المسلم تجاه التمسك بحبل المبادئ الكلية للإسلام، وذلك لأجل اصلاح الواقع وتجاوز ما يطرأ عليه من أزمات. لكن في الوقت نفسه انه يفضي به إلى القطيعة مع الفقيه !
إن ظاهرة المثقف المسلم الحديث هي ظاهرة جديدة لم تُعرف من قبل. فقديماً ظهر الفقيه كمجتهد من أحضان أهل الاتباع من الصحابة والتابعين، وقد اضطره الأمر إلى ان يخالف في كثير من الأحيان مواقف أهل الاتباع طبقاً لما فرضته الصنعة الفقهية التي قام بتأسيسها بحسب الأصول المعتمدة. كما ان الناظر ولد هو الآخر من أحشاء أهل الفقه من المجتهدين، فأداه الأمر إلى ان يخالف أئمة الإجتهاد احياناً. لكن الحال مع المثقف الحديث يختلف بعض الشيء. ذلك انه لما كان مديناً في مرجعيته المعرفية إلى الواقع، ولكونه لم يلد من أحضان الفقهاء ولم يكن من أهل الصنعة التي هم عليها؛ فلذلك شكّل ظاهرة جديدة أفضت إلى ما اطلقنا عليه القطيعة فيما بينه وبين الفقيه. إذ تبدأ هذه القطيعة بالمرتكزات المعرفية لكل منهما. فهما يختلفان في المصدر والآلية والأصول المولدة للمعرفة. وينتج عن هذا الخلاف مترتبات أخرى من التباين والتغاير على صعيد الخصائص المعرفية العامة.
ومن حيث الدقة إن سبب القطيعة بينهما يرجع إلى الإختلاف الحاصل في المصدر المعرفي. فهو لدى الفقيه عبارة عن النص، فيما يتمثل لدى المثقف بالواقع. أي ان الأول قد تمسك بكتاب الله التدويني، في حين تمسك الآخر بكتابه التكويني.
مع هذا لم يمنع ذلك من ان نجد للمثقف - أحياناً - نزعة فقهية، وأن نجد للفقيه نزعة ثقافية، فيكون المثقف فقيهاً، والفقيه مثقفاً. مع الأخذ بعين الاعتبار انه لا بد من أن تظهر على هذا الازدواج سمات الغلبة لأحد الطرفين على حساب الآخر، وأن نقاط القطيعة لا تنمحي طالما انه لم تقنن بعد آليات المصالحة في المصدر المعرفي بين الواقع والنص، وهو أمر شبيه بما شهده تاريخ الفكر الإسلامي من وجود قطيعة كبرى بين نظاميه المعرفيين: الوجودي والمعياري، كما تم الكشف عنها ضمن حلقات مشروع (المنهج في فهم الإسلام).
بهذا ننتهي إلى انه ليست المهمة الملقاة على عاتف المثقف هي النظر وحده. فقد كانت هذه الآلية معتمدة لدى العديد من القدماء الذين ليس بوسعهم الإجتهاد ولا خصوصيتهم عامية، وهي طبقة ما زالت حاضرة لدى طلاب العلوم الدينية، إذ لا تحمل في الغالب من ثقافة سوى تلك التي تعتاش فيها على معارف الفقهاء والأصوليين بطرقهم التقليدية. فمثل هذه الطبقة لا تمتلك خصوصية إضافية غير النظر في آراء الفقهاء إن لم تعتمد عليهم بنحو ما من التقليد كما هو الغالب.
أما لدى المثقف الديني فإن النظر يشكل زاوية واحدة من خصوصية تمتاز بالسعة والشمول، فهناك ملكة اتخاذ الموقف المعرفي المبني على جملة من المرتكزات المعرفية، وهي محل الخلاف بين المثقف والفقيه. وقد فصلنا الحديث عنها في كتاب مخصص لهذا الغرض بعنوان: (القطيعة بين المثقف والفقيه)؛ وذلك كتتمة لما بدأناه في هنا.