يحيى محمد
لا شك أن المرتكز الأساس الذي يعول عليه الفقيه في التكوين المعرفي هو النص، وأن الإجتهاد ليس له قيمة ما لم يصبح آلية للنظر في الأخير. وحيث أن هذه الممارسة قد اتخذت شكلاً ممنطقاً من البيان اللغوي النصي؛ لذا كان أصلها المولد لا يمثل سوى هذا البيان الممنطق، سواء اتخذ التوليد صيغة الفهم كما هو حال القضايا التي نزل بشأنها النص وعاصرها، أو كان توليداً لقضايا تخص أحداثاً ظهرت فيما بعد ولها علاقة ما بالأولى، رغم تبدل الأحوال وتغير الظروف.
من هنا يتصف المولد المعرفي لدى الفقيه بخصوصيتين متلازمتين يعبّران في الوقت ذاته عن طبيعة الآلية الإجتهادية كآلية صورية:
الأولى هي أن هذا المولد له خصوصية حرفية. فالفقيه لما كان يعتمد على النص كمصدر وآلية إجتهادية، وأن هذا النص ليس أكثر من لغة مركبة من ألفاظ وحروف؛ لذا فإن ما غلب على عقل الفقيه هو الإمعان في فهم هذه الصور اللفظية واستجلاء معانيها ومقاصدها بحسب ما تبدو في الظاهر. وعليه فإن الطابع الحرفي هو طابع معرفي مولد؛ سواء من حيث فهم النص ذاته، أو من حيث ما يترتب على هذا الفهم من توليد للقضايا المعرفية الأخرى. فهذه هي الخصوصية الأولى التي يمتاز بها الأصل المولد للعقل الفقيه، وهي أن البيان حرفي.
أما الخصوصية الثانية، والتي تلازم الأولى، فهي أن الشكل الحرفي للتوليد عند العقل الفقيه هو شكل جزئوي لا يعتني بالمبادئ والقضايا الكلية عادة، وذلك لكثرة الصيغ الجزئية التي حملها النص حيال تعامله مع الأحداث والقضايا. فمع أن للبيان الفقهي صوره الكلية المنتزعة عن النص، والتي يمكن أن تُتخذ كقواعد وأصول توجيهية شمولية تتحكم في القرارات والأحكام لدائرة الفقيه المعرفية، لكن واقع الأمر أن الفقيه لم يعمد في الغالب لأن يضع الموازنة دائرة بين الأصول الكلية العامة وتلك التي تتصف بالجزئية، لعدد من المبررات، منها إنه يعتبر الجزئيات التي ترد في النص تطابق الكليات ولا تعارضها مهما طال الزمن وتغيرت الظروف والأحوال. كذلك إنه يظن بأن التعويل على الكليات هو ذريعة للخضوع تحت هيمنة النظر العقلي الصرف وتحكماته. يضاف إلى ما قد يفضي ذلك من نسف للجزئيات المصرح بها عندما يجد العقل أن بين الجزئيات والكليات تعارضاً لا يحل إلا بالتعويل على إحدى الفئتين دون الأخرى. وحيث إن التعويل على فئة الجزئيات يحافظ على التمسك بمقولات النص خلافاً لما يحصل عندما يُعتمد على الكليات التي يطالها العقل بالإدراك والإكتشاف مباشرة؛ لذا كان لا بد من الخضوع إلى المولدات الجزئية وترك إعتبار ما يقابلها من موجهات كلية.
إذاً فالعقل الفقيه هو عقل بياني جزئوي غرضه المحافظة على بيان النص وتطبيقه على الوقائع والأحداث، دون أن يعتني - عادة - بما قد يفضي هذا الأمر إلى تصادم مع الكليات، طالما أن الأخيرة معطلة ومهملة، بل ودون أن يقدّر حساب ما قد تنجم عنه عملية التوليد الجزئوية من معارضة للواقع.
ويضاف إلى ذلك هو أن هذا العقل ليس جزئوياً - كما قدّمنا - فحسب، بل يتصف بالشكل التجزيئي أيضاً، إذ يعمل على تجزئة النص بأخذه للحكم الظاهر مع اهماله لكلا السياقين الدلالي والواقعي الذين يؤطران مدار الحكم المنزل فيهما. وسبق أن فصّلنا ضمن (النظام الواقعي) كيف أن هذا العقل لم يعر أهمية للسياق الدلالي، الأمر الذي جعل أحكامه تتصف بالإطلاق والشمول الماهوي، كبحثنا حول مفهوم الكفر وصفاته وملازماته. ومثل ذلك قضية اهمال السياق الواقعي ضمن قاعدة (العبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب)، مع أن الصحيح أن يقال بأن العبرة في بيان القصد واستكشافه لا في عموم اللفظ ولا في خصوص السبب[1]. إذاً إن خصوصية التجزئة هي صفة راكزة في العقل الفقيه؛ طالما أنه يقوم بقطع الروابط السياقية عن حكم النص.
هكذا يتبين لنا بأن هناك خصوصيتين للموجهات في العقل الفقيه؛ هما الحرفية البيانية، والشكلان الجزئوي والتجزيئي. ويمكن ادماجهما معاً ضمن تركيبة واحدة ممنطقة نطلق عليها المولد البياني الماهوي. فالصفة الماهوية هي صفة راكزة في العقل الفقيه، وهي تعني تحويل جزئيات النص إلى ماهيات ممنطقة كلية لا تخضع عادة لإعتبارات العوامل الخارجية من العقل والواقع. إذا فالبيان الماهوي هو الأصل المولد للعقل الفقيه[2].
لكن لما كان هذا الأصل يعبّر عن قضية شكلية صورية ليس لها دلالة من المحتوى والمضمون؛ فإنه يصح أخذها بعنوانين: أحدهما كأصل مولد، والآخر كآلية إجتهادية. أي أننا هنا إزاء قضية يندك فيها كل من الأصل المولد والآلية المنهجية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أي معرفة لا تخلو من أن تعبّر عن تركيب يجتمع في صنعه المرتكزات الثلاثة: المصدر والآلية والمولد - أو الموجه - المعرفي.
وبعبارة أخرى، ثمة نوعان من المولدات والموجهات المعرفية. فهناك ما يتخذ فيه المولد شكل القضية بما تحمل من مضمون محدد يمكن استكشافه وتشخيصه. فرغم أنها قضية مضمونية؛ إلا أن علاقتها بالقضايا الأخرى داخل النظام المعرفي هي علاقة توليد. فمن الصعب تفسير حضور هذه القضايا من دون ربطها بفعل القضية الأولى، سواء كان هذا عن وعي من أصحاب المنظومة أو عن غير وعي. وأقرب الأمثلة على ذلك هو قضية السنخية التي هي أصل مولد لمختلف الرؤى المعرفية والموضوعية للنظام الوجودي بشقيه الفلسفي والعرفاني. فالأصل هنا يعبّر عن مضمون يتعلق بعلاقات الوجود يكون بعضها على شاكلة البعض الآخر، كالذي كشفنا عنه في أكثر من دراسة[3].
كما قد يتخذ الأصل المولد شكلاً صورياً دون أن يعبّر عن قضية محددة من قضايا المحتوى والمضمون، وهو أيضاً يمكن أن يكون له صفة التوليد والتوجيه المعرفي بوعي أو بغير وعي من أصحابه. وميزة هذه الحالة هي أن تتماهى فيها الآلية مع الأصل المولد أو الموجه. ومثالها ما نحن بصدده من الأصل الذي أطلقنا عليه البيان الماهوي، فهو غير محدد بقضية معرفية مشخصة المضمون والمحتوى، إنما يعبّر عن آلية الإرتباط الحرفي بالنص - مباشرة - من غير إعتبارات أخرى خارجية. إذ يتخذ فهم النص بحسب هذا المولد شكلاً تتحول فيه جزئيات النص إلى كليات ماهوية قابلة للإسقاط على مختلف الحوادث والأحوال. وبالتالي فإن القياس الفقهي وسائر الآليات الإجتهادية الأخرى التي تستند بشكل أو بآخر إلى النص؛ ليس لها تأثير لولا تحكم هذا المولد المعرفي، حيث يتم به ربط حادثة جديدة بقضية جزئية منصوص فيها، ويحكم بها عليها. أي أنه بفعل عملية تحويل البيان الجزئي إلى الكلي الماهوي تتم ظاهرة إنتاج المعرفة الإجتهادية وتوليدها.
[1] انظر: يحيى محمد، جدلية النص والواقع، قضايا إسلامية معاصرة، عدد 4، 1419هـ ـ1998م، ص297ـ 319. كذلك الجزء الأول من حلقة النظام الواقعي.
[2] انظر حلقة النظام المعياري.
[3] نُظم التراث، ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (2). كذلك: النظام الوجودي.