يحيى محمد
لما كان الفقيه يعتمد في مرجعيته التكوينية على النص، وأن أغلب ما يعول عليه هو الأخبار والروايات، وحيث يكثر الطابع الإعجازي في هذه المنقولات الظنية الصدور؛ لذا فقد تشكلت لديه بنية يصح وصفها بأنها تجويزية. أي أنه يستسيغ الحكم على الواقع ووصفه؛ سواء كان ذلك يتسق مع الطابع السنني للحياة أو لا يتسق معها بنوع ما من الخرق والإعجاز. يضاف إلى أن أغلب الفقهاء متأثرون بالمذهب الأشعري الذي لا يرى فاعلاً في الوجود غير الله؛ ناكرين بذلك سنن الخلق وتأثيرها، الأمر الذي عمّق حالة التجويز لدى العقل الفقيه. فالروح العامة لهذا العقل هي روح تجويزية؛ سواء من حيث استناده الرئيس إلى نص الحديث، أو من حيث تعويله الغالب على المذهب الأشعري.
أما المفكر الديني فلما كان يستند في مرجعيته التكوينية إلى الواقع، وحيث أن الأخير يؤكد الطابع السنني ولا يبدي نواحي خرق الطبائع والقوانين؛ لذا كانت روحه العامة روحاً سننية وليست تجويزية. فمن حيث المبدأ أنه لا يميل إلى ما يُنقل من تجاوز لحدود قوانين الواقع؛ ما لم تكن هناك شهادة قطعية على حالة الخرق كما يحصل في معاجز الأنبياء لغرض إثبات النبوة. فكما يقول رشيد رضا: ‹‹إنما الذي يقضي به العقل أن لا نصدق بوقوع شيء على خلاف السنن الثابتة المطردة في نظام الأسباب العامة إلا إذا ثبت ثبوتاً قطعياً لا يحتمل التأويل››[1]. ويقول: ‹‹فكل خبر عن حادث يقع مخالفاً لهذا النظام - أي نظام الأسباب والمسببات - والسنن فالأصل فيه أن يكون كذباً اختلقه المخبر الذي ادعى شهوده أو خدع به ولبس عليه فيه..››[2].
على أن هذا الإختلاف في الروح العامة بين المفكر والفقيه؛ جعل رؤى أحدهما تتقاطع مع رؤى الآخر. وبالتالي فليس كل ما يولده الأول يكون مرضياً عند الثاني، وكذا العكس صحيح أيضاً. فمثلاً أن محمد عبده ورشيد رضا يرفضان الكثير من المنقولات التي يرويها أصحاب التفسير والحديث، وأحياناً يقومان بتأويل المعنى إن كثرت الرواية وأصبحت من المسلمات لدى العلماء، ومن ذلك أنه عندما سُئل محمد عبده عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فإنه قال: ‹‹إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، وأن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار، وسنة الرسول (ص) مبينة لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك››[3]. وقد تكرر ما يشبه هذا المعنى مع المفكر محمد باقر الصدر، حيث نقل عنه أحد تلامذته (السيد كاظم الحائري) كيف أنه احتمل لأحاديث الرجعة المسلّم بها لدى علماء الإمامية معنى آخر أقرب إلى التصور العلمي، وهو أنه ليس المقصود منها رجعة الأموات إلى عالم الدنيا كما هو ظاهر نصوص الروايات، وإنما تمكّن الأحياء من الإقتراب إلى عالم الموتى والآخرة، فتضيق الهوة بين العالمين، وهو أمر قد لا يكون مستبعداً لدى مستقبل الكشف العلمي، خلافاً للمعنى الأول الذي له صفة خرق السنن الطبيعية[4].
كذلك فإن المفكر الديني لا يتقبل تفاسير القرآن القائمة على الخوارق غير الطبيعية طالما وجد لها أدنى دلالة على التفسير السنني. فمثلاً ما جاء في تفسير محمد عبده لقوله تعالى: ((ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون))[5]، إذ رفض كل روايات التفسير ذات الصفة الخارقة للسنن الطبيعية، واعتبرها من الاسرائيليات، وقام بتفسير النص على نحو واقعي وآيديولوجي، معتبراً أن الله تعالى أمات القوم بتمكين العدو منهم، وأنه أحياهم بمعنى أنه أحيا غيرهم من الأمة[6]. وعلى هذه الشاكلة قام هذا الشيخ بتفسير قوله تعالى: ((ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون))[7]، معتبراً أن المراد بالبعث هو كثرة النسل، إذ بعد أن وقع الموت في بني اسرائيل بسبب الصاعقة وغيرها وظنوا أنهم سينقرضون؛ بارك الله في نسلهم إعداداً لهم للبلاء ليشكروا الله تعالى على ما تفضل عليهم من النعم التي كفر بها آباؤهم[8].
كذلك جاء في قوله تعالى: ((إن أول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام ابراهيم))[9]. فذكر المفسرون في المقصود من قوله ((آيات بينات)) هي ما كان لمقام ابراهيم أو وقوفه من معاجز غير طبيعية، منها الأثر الذي ما زال لقدمي ابراهيم في الصخرة التي وقف عليها، حيث ألان الله تعالى جانباً منها دون الآخر، وغوصه فيها إلى الكعبين. لكن رشيد رضا استبعد ذلك ومال إلى أن الصخرة كانت رطبة عندما وطئ عليها ابراهيم ثم تحجرت بعد ذلك وبقي أثر قدميه فيها[10].
ومن حيث الموقف من المدونات الروائية يلاحظ أن فقهاء أهل السنة يسلمون بما تم تدوينه من أحاديث فيما يطلق عليه الصحاح الستة، خاصة صحيحي مسلم والبخاري؛ رغم أن فيها الكثير مما لا يتفق وظاهر الواقع أو سننه. وهذا ما جعل عدداً من المثقفين ينظرون بعين الريبة لمثل هذه الاحاديث المنسوبة إلى النبي (ص)، كتلك الإشارات التي أبداها أحمد امين، مما جعل الشيخ مصطفى السباعي يتولى الرد عليه بمنطق عقلية الفقيه، كما في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي). وكان من بين اعتراضات أمين ما جاء في صحيح البخاري عن حديث الكمأة القائل بأن ‹‹الكمأة من المَن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم››، وقد روي أن أبا هريرة قال: ‹‹أخذت ثلاث أكمؤ أو خمساً أو سبعاً فعصرتهن في قارورة وكحلت به جارية لي عمشاء فبرأت››. ومثل ذلك حديث التمرات القائل: ‹‹من اصطبح كل يوم سبع تمرات من عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل››[11]، وكذا حديث: ‹‹لا يبقى على الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة››[12]، وعلى هذه الشاكلة حديث الذبابة المروي في صحيح البخاري والقائل: ‹‹إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء››[13]، وغير ذلك من المرويات التي تحتاج إلى اختبار وتحقيق قائم على الواقع لمعرفة صدقها من كذبها، كالذي دعا إليه أحمد أمين.
على أن هناك الكثير من مثل هذه الروايات ليس من السهل على العقل المثقف أن يتقبلها على ظاهرها، ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري من أن التثاؤب من الشيطان[14]، وأن صياح الديكة ونهيق الحمار يفسران برؤية الملك للأول والشيطان للثاني[15]، وأن العظم والروثة من طعام الجن[16]، وأن المرأة مخلوقة من الضلع[17]، ومثله ما جاء في صحيح مسلم[18]، كما جاء في هذا الأخير إن الشؤم في الفرس والمرأة والدار[19]، وإنه يقطع الصلاة كل من المرأة والحمار والكلب الأسود، حيث أن الكلب الأسود هو شيطان[20]، وأن أشياء الأرض من التربة والبحر والجبال والنور وغيرها مخلوقة كل منها في يوم من أيام الاسبوع[21]، وما جاء في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث من أن الشمس تذهب عند غروبها حتى تسجد تحت العرش؛ وذلك كتفسير لقوله تعالى: ((والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)) (يس\38)[22]، وكذا ما جاء في غير الصحاح من تحديدات خاصة بعمر الدنيا وعمر الأمة الإسلامية[23]، وكالقول بأن النساء ناقصات عقل وإيمان وحظوظ[24]، والنهي عن تعليمهن الكتابة وسورة يوسف وتركهن بلّهاً[25]، وأن المرأة شرّ كلها وشرّ ما فيها أنه لا بد منها[26]، وأن الأرض مرفوعة على حوت في الماء وهو على ظهر صفاة وهي على ظهر ملك وهو على صخرة في الريح.. الخ، مثلما كان يسلّم بذلك أو بمثله المختصون من أهل البيان والتفسير[27]، وقد أفضى الأمر في بداية العصر الحديث إلى انكار الكثير منهم كروية الأرض تبعاً لمثل تلك الروايات.
وقديماً سبق لإبن خلدون أن وضع منهجاً خاصاً في نقد الحديث انطلاقاً من الروح السننية؛ وذلك بتمييز النصوص إن كانت ممكنة أو مستحيلة عبر عرضها على الواقع أو السنن الكونية والعمرانية (الإجتماعية) التي يشهد عليها الحاضر قبل عملية فحص السند والتعديل والتجريح التي يتولاها علماء الحديث ويستند إليها الفقهاء. لهذا فقد نبّه على ما وقع به المؤرخون والمفسرون وأئمة النقل من الأغلاط بما نقلوه من حكايات ووقائع لإعتمادهم على مجرد النقل غثاً أو سميناً دون عرضها على طبائع الكائنات ولا قياسها على اشباهها مما نشهده في الواقع، ولا حكّموا فيها أصول العادة وقواعد السياسة والإجتماع، وعلى رأيه فإن الماضي هو أشبه بالآتي من الماء بالماء[28].
مهما يكن، فالملاحظ أن العقل الفقيه محكوم بالآلية المعرفية البيانية التي فرضتها عليه الصنعة طيلة قرون، مما جعله لا يولي إهتماماً لما عليه الواقع من سنن وحقائق.
[1] المنار، ج11، ص232.
[2] المصدر، ج11، ص238.
[3] المنار، ج3، ص317ـ318.
[4] نقل الحائري قول السيد الصدر مشافهة، حيث لم يدوّن الصدر قوله في كتاب، ونص عبارته ما يلي: (ان الرجعة لا تعني رجوع أولئك الموتى من عالم البرزخ إلى عالمنا رجوع القهقرى، بل الأمر بالعكس. إذ أن عالمنا هو الذي قد يرتقي ويقترب إلى العالم الاخروي، فتقلّ بسبب هذا الإقتراب سعة الحاجب الموجود بين العالمين، وحينئذ فإن التعايش مع بعض أولئك الذين هم في عالم البرزخ وعالم الاخرة سيكون ممكناً›› (كاظم الحائري: سنن التاريخ ، القسم الثاني، ضمن: الحوار الفكري والسياسي، عدد 32، اصدارات المركز الإسلامي للأبحاث السياسية، قم، 1406هـ ـ1985م، ص47).
[5] البقرة/243ـ244.
[6] يقول الشيخ محمد عبده: ‹‹فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكّل بهم فافنى قوتهم، وأزال إستقلال امتهم، حتى صارت لا تعد امة بأن تفرق شملها وذهبت جامعتها، فكان من بقي من افرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم. ومعنى حياتهم هو عود الإستقلال إليهم. ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديباً لهم ومطهراً لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم ووثقوا رابطتهم حتى عادت لهم وحدتهم قوية فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الإستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها؛ يموت قوم منهم بإحتمال الظلم، ويذل الاخرون حتى كأنهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية من حفظ سياج الوحدة وحماية البيضة بتكافل افراد الأمة ومنعتهم، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه عنهم›› (المنار، ج2، ص458ـ459).
[7] البقرة/56.
[8] المنار، ج1، ص322.
[9] آل عمران/96ـ97.
[10] المنار، ج4، ص13.
[11] ورد مثل هذا الحديث في المصادر الشيعية، ومن ذلك أنه جاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: ‹‹من أكل في كل يوم سبع تمرات عجوة على الريق من تمر العالية لم يضرّه سم ولا سحر ولا شيطان›› (وسائل الشيعة، ج25، ص144).
[12] احمد أمين: فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة العاشرة، ص218. وضحى الإسلام، نفس الدار والطبعة، ج2، ص130ـ131.
[13] صحيح البخاري، دار احياء التراث العربي، بيروت، ج4، باب بدء الخلق، ص158. كذلك: فتح الباري، ج6، ص276. والحديث موجود أيضاً في المصادر الشيعية.
[14] صحيح البخاري، ج4، باب بدء الخلق، ص152. كما ورد مثل هذا الحديث في المصادر الشيعية، كما في: محمد بن يعقوب الكليني: الأصول من الكافي، صححه وعلق عليه علي اكبر الغفاري، دار صعب ـ دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، 1401هـ، ج2، ص654.
[15] اذ روي عن ابي هريرة عن النبي (ص) أنه قال: ‹‹اذا سمعتم صياح الديكة.. فانها رأت ملكاً، واذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً›› (صحيح البخاري، ج4، ص155).
[16] صحيح البخاري، ج5، ص59.
[17] صحيح البخاري، ج4، ص161.
[18] صحيح مسلم ، دار احياء التراث العربي، بيروت، حديث رقم 1468، ج4، ص1091.
[19] صحيح مسلم، حديث رقم 2225، ج4، ص1747.
[20] أبو بكر الهمذاني: الإعتبار في الناسخ والمنسوخ من الاثار، نشر وتعليق وتصحيح راتب حاكمي، مطبعة الاندلس، حمص، الطبعة الأولى، 1386هـ ـ1966م، ص77. وابن العربي: أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ج4، ص1606.
[21] ذلك أنه روي عن ابي هريرة قال أخذ رسول الله (ص) بيدي فقال: ‹‹خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الاحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الاربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق ادم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل›› وقد أُشكل على الحديث بأن فيه استيعاب ال أيام السبعة مع أن الله قال أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام (تفسير إبن كثير، دار الخير، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ ـ1990م، ج2، ص246).
[22] تفسير إبن كثير، ج3، ص628.
[24] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة، الطبعة الخامسة، 1421هـ، ص105.
[25] الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج20، ص176ـ177.
[26] نهج البلاغة، باب الحِكم، ص510.
[27] جاء في بعض التفاسير عن عدد من الصحابة قولهم بأن الله خلق الأرض مرفوعة على حوت والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرّت (تفسير إبن كثير، ج1، ص72).
[28] مقدمة إبن خلدون، طبعة دار الهلال، ص17 و34. وانظر بهذا الصدد أيضاً كتابنا: مشكلة الحديث، مؤسسة الإنتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.