يحيى محمد
تتحدد الآلية المعرفية أو المنهج لكل من الفقيه والمفكر بحسب ما عليه المصدر المعرفي. فلما كان هذا المصدر لدى الفقيه يتمثل بالنص؛ لذا كانت آليته الإجتهادية بيانية تتخذ من اللغة أداة للفهم والتوليد. وبعبارة أخرى، إن هذه الحصيلة المعرفية لا تتم عند الفقيه إلا من خلال النظر في النص عبر الآلية البيانية. وبالتالي فإن الإشكالية التي تقع في طريق هذه العملية لا تتجاوز في الغالب إشكالية البحث عن السند والدلالة. فهذا هو هيكل ما يطلق عليه الإجتهاد لدى الدائرة الفقهية. فهو لا يتعدى العملية الاستنباطية المتمحورة ضمن دائرة النص، وذلك على شكلين؛ فإما أن يكون الإجتهاد في النص ذاته، أو أنه يعتمد على النص ليباشر فعله فيما لا نص فيه، وقلما يخرج عن هذين الشكلين من النظر الفقهي. وهو ما تدل عليه تعاريف الإجتهاد التي يصرح بعضها بالشكل الأخير فقط، كما هو حال المرحلة التاريخية التي بدأت فيها ظاهرة التنظير للإجتهاد، ويصرح بعضها الآخر بالشكل الأول أو بكليهما معاً[1].
وحول العلاقة المعرفية بالنص يتخذ الشكل البياني لدى الفقهاء سلّماً من الأولويات. ففي الغالب يتدرج الفقيه عند أهل السنة - ضمن آليته البيانية - لينظر أول الأمر في الكتاب، ثم بعده السنة، وبعد ذلك الإجماع، ثم رأي الصحابة. وكلا المرجعين الأخيرين يعدان لدى الفقيه كاشفين عما في النص، أو مستنبطين منه. وإذا لم يجد الفقيه ما يبحث عنه في تلك المصادر البيانية فإنه يلجأ إلى مبادئ أخرى من آليات الإجتهاد وعلى رأسها وأهمها القياس. فمثلاً يُنقل عن الإمام أبي حنيفة قوله: ‹‹إني آخذ بكتاب الله أولاً ، فإن لم أجد فيه الحكم فبسنة رسول الله (ص)، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله رجعت إلى ما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا أخذت من أقوالهم ما كان قريباً من القرآن والسنة، فإن لم أجد للصحابة رأياً لم آخذ بقول أحد من التابعين بل أجتهد كما أجتهدوا››[2]. وأن مالكاً هو الآخر يعتمد أول الأمر على ما هو موجود في الكتاب ثم السنة فقول الصحابي فالإجماع فعمل أهل المدينة، وبعد ذلك إن لم يجد في هذه المحاور البيانية ما يأخذه فإنه يعول على الآليات الإجتهادية المتمثلة بالقياس ثم الاستحسان فالاستصحاب فالمصلحة المرسلة وسد الذرائع والعرف والعادة[3]. وأن الشافعي هو أيضاً يبتدئ بالقرآن ثم السنة فالإجماع، وبعد ذلك تأتي مرحلة الإجتهاد المتمثلة عنده بالقياس فحسب[4]. أما إبن حنبل فيعتمد بالدرجة الرئيسية على السنة، وذلك أنه يشترط أن يكون بيان القرآن من السنة، بل ويعد تفسير الأول من غير الثاني محض الضلال[5]، وهو القائل ‹‹لا تفسير إلا من أثر››[6]. أما آليته الإجتهادية فيما لا نص فيه فهي القياس للضرورة. وعلى رأي إبن القيم فإن أصوله خمسة هي: النص وفتوى الصحابة والاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا والحديث المرسل والقياس للضرورة[7].
وقريب مما سبق ما تقرر لدى غالبية الإتجاه الإمامي الاثنى عشري كما حدده الأصوليون، فمصادر التشريع البياني لديهم أربعة هي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. لكن الحضور الرئيس في الآلية البيانية الإمامية ينحصر في الكتاب والسنة، حتى شاع القول بأن ما موجود من بيان أو نصوص يكفي لسد وتغطية جميع ما يستحدث من واقع وقضايا، حتى بغير حاجة إلى الأحكام العقلية. وسبق أن أشار الشيخ أبو جعفر الطوسي (المتوفى سنة 460هـ) إلى ما موجود من وفرة خبرية كافية لتغطية مسائل الأحكام كافة. وحديثاً رأى السيد الصدر أن البيان كاف في الشمول لتناول مختلف قضايا الأحكام حتى مع عدم الأخذ بالدليل العقلي النظري الذي يستند إليه الأصوليون ويخالفهم عليه الإخباريون[8].
والغالب في الآلية البيانية، سواء لدى السنة أو الشيعة، هو أنها مسخرة في إطار نصوص الرواية والحديث، سواء كانت نبوية كما لدى أهل السنة، أو امامية كما هو الغالب لدى الشيعة. وفي جميع الأحوال تظل تلك الآلية لغوية تبدأ بالنص وتنتهي إليه. فالفقيه لا يتجاوز هذا المعنى من العملية المعرفية عادة، بل ويشدد على عدم السماح بالتقصير في ذلك النمط من العلم الإجتهادي. وبالتالي فإنه لا يقر الإجتهاد السائب المنفصل عن فحص النص والبحث فيه، كما لا يقر أي تحقيق ما لم يتم بذل أقصى الجهود من البحث والتفتيش، وكذا الخضوع إلى الضوابط التي يراعى فيها فهم النص وإعتباراته اللغوية وما يترتب على ذلك من آليات عديدة؛ كالجمع بين المتعارضات ومعرفة السند وأحوال الرجال وقضايا كثيرة أخرى مبثوثة في علم أصول الفقه عادة.
فالغرض من هذه الضوابط هو كي لا يصبح الإجتهاد خارج حدود منظومة النص، فلا تبنى المعرفة من مصدر آخر مستقل عنه كلياً، كما لا يكون هناك إجتهاد في قباله أو معه. كذلك حتى لا يكون هناك تعطيل للنص أو تلفيق أو تحريف لمعناه. فالنص في الآلية الإجتهادية هو المحور الأساس والرئيس الذي تدور فيه وحوله كل الجهود الفقهية التي يراد منها الفهم والتوليد المعرفيين.
لهذا قلما يحتكم الفقيه إلى عقل أو واقع. كذلك قلما يحتكم إلى مقاصد عامة من التشريع؛ طالما يجد أمامه معيناً خصباً من جزئيات النص التي تفي بآليته الإجتهادية كآلية محض بيانية تقريباً. وبالتالي فهي بيانية ماهوية.
فالعقل لديه منبع الأهواء. وهو أيضاً عاجز عن أن يدرك المصالح الحقيقية مثلما يحددها النص. وبحسب ما يتصوره الكثير من أن الإعتماد عليه في التشريع يفضي إلى نسخ الشريعة أو تعطيلها، وأنه في حد ذاته يثير الإختلاف لإرتفاع الضوابط، وأن العقلاء قد يتوهمون ما هو أقرب إلى واقع الشرع على أنه أبعد، وما هو أبعد عن هذا الواقع على أنه أقرب، وبالتالي فليس هناك من مناص إلا الإحتماء بنفس الشارع من حيث أنه محيط بكل الجهات وعالم بكثير مما لم تصل إليه العقول. حيث تكون الأحكام تابعة للمصالح الخفية والشرع كاشف عنها[9]. لذا يعول الفقيه على بيانية الشريعة وكفايتها للأحكام في سد جميع شؤون الحياة، فما من حادثة إلا ولها حكمها بالنص، أو بدليل مستظل من نص كما يرى الشافعي. وبغير ذلك لا يبقى للحكم مصدر يعول عليه غير الأهواء والميول الذاتية، حيث لا ضابط للعقل الذي قد يغلب عليه الهوى كما يخفى عليه وجوه الضرر والفساد[10]. وبالتالي فهو عاجز عن إدراك مصالح الدنيا من غير شرع، وكما يقول الشاطبي: إنه ‹‹لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة وأسباباً معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان.. الخ››[11].
كما أن الواقع عند الفقيه محكوم وغير حاكم. فالطريقة العامة للفقهاء لا تتعدى السير الاستعلائي باستلهام المعنى من النص ـ مباشرة وغير مباشرة ـ ومن ثم إسقاطه على الواقع؛ من غير نظر إلى ما قد يبديه الأخير من آثار وردود، رغم أن الخطاب الديني – سواء في القرآن أو السنة - كان يراعي شروط الواقع كعنصر مساهم في آلية التأثير على الصياغة المحددة لحكم النص. الأمر الذي تفسره ظاهرة النسخ وتغيير الأحكام. فهو سلوك كاشف عن تلك المساهمة والمراعاة، وكطريق يراد منها إلهام الفكر البشري سبيل الاسترشاد دون التوقف عند حد الإطلاق المطبق. مع هذا فالجدل الذي شهده عصر الخطاب بين الحكم والواقع لم يحتفظ بمركزه في العصور التي تلت هذا العصر الذهبي، حيث ظهر التمنطق العلمي الذي يستمد عملية إسقاط الأطباق الجاهزة بقطع الصلة مع الواقع وتجدداته، وظل النظر عالقاً إلى فوق، أي إلى ذات الخطاب الموجّه وتحويله؛ مما هو خطاب استرشاد وهداية وتوجيه إلى خطاب مطبق مغلق لا علاقة له بالواقع[12].
أما المقاصد فدورها لدى الفقيه لا يتعدى حدود التبرير والتقرير دون التفعيل والتوليد. فالذين بحثوا في المقاصد هم فقهاء الأشاعرة الذين لا يعولون على العقل في كشف المصالح والمفاسد. فهم يعدون المصالح الحقيقية هي تلك التي تقرها الشريعة لا العقل، وبالتالي كيف يمكن للمقاصد أن تقوم بدورها في كشف الأحكام الجديدة بعيداً عن اللفظ المنصوص؟! إن لم نقل أن هذه الطريقة تبعث على التناقض. فعلماء المقاصد يعتبرون تلك المصالح تعبدية لا تختلف عن سائر التعبديات الأخرى طبقاً لنظرية الحسن والقبح الأشعرية[13]. لكنهم من جهة ثانية ميزوا بين الأحكام التعبدية التي لا يُدرك معناها وبين الأحكام المصلحية المدركة بالعقل، وسلموا لهذا الأخير صلاحية تقدير التفاوت بين المصالح وإختلاف رتبها وأنواعها وما يرجع إليها من أحكام على ما بينّا ذلك في محل آخر[14]. وبالتالي فإذا كان العقل قادراً على إدراك التفاوت في المصالح وأنواعها فكيف لا يكون قادراً على إدراك ما هو مصلحة حقيقية وتمييزها عن غيرها؟!
ومع أنه قد يقال بأن الشاطبي سبق وأن حدد في (الموافقات) موارد الإجتهاد وذكر منها تلك التي تكون إجتهاداً فيما يخرج عن حدود اللغة، وبالتالي عن حدود النص، كتلك التي تتعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد، أو التي لها علاقة بفحص الموضوعات الخارجية مما يسمى (تحقيق المناط)[15]. فكيف يصح - إذاً - حصر وظيفة الفقيه بالمهمة البيانية ومن ثم الماهوية دون غيرها؟!
والجواب هو أن الإجتهاد في تحقيق المناط أو فحص الموضوع لا يعني شيئاً لدى الفقيه ما لم يتحقق الغرض من الممارسة الإجتهادية التي تتممها عملية البحث في الحكم؛ عبر الآليات البيانية اللغوية عادة. أما الإجتهاد في المعاني من المصالح والمفاسد فهي من الناحية الفعلية غير مستقلة - غالباً - عن الإجتهاد المسبق في النص ودوائره الجزئية لدى الفقيه. ويكفي شاهد على ذلك ما ذكره القرافي من سلوك الفقهاء في إرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية تجنباً من تجرؤ السلاطين والامراء على إتخاذ تلك المعاني ذريعة لتبرير أهوائهم وإستبدادهم.
أما مع المفكر الديني فلما كانت مرجعيته المعرفية محددة بالواقع وما يرتبط به من مبادئ وتحليلات عقلية، وحيث أنه مرتبط من الناحية الكلية بتوجيه النص؛ لذا فإن آليته الإجتهادية هي آلية عقلائية نقدية موجهة. فهو من حيث التفصيل يلجأ إلى الواقع فهماً وتحليلاً، وذلك لما يشكله الواقع لديه من مصدر تكويني. وهو في هذه العملية من اللجوء يستعين بالحاسة النقدية ولا يتوقف عندها كمرآة عاكسة. ويظهر لديه – من جانب آخر - نوع من التعالي النسبي على الواقع، فهو يعمل على تطويع الأخير تحت ما يستهدفه من أغراض وأهداف؛ تبعاً للموجهات الكلية المستلهمة من النص.
وهنا يلاحظ أن تعبيرنا عن آليته الإجتهادية بأنها عقلائية تعني أنه من هذه الناحية لا يختلف عن ابناء جلدته من مختلف اجناس البشر في الإعتماد على الرجوع إلى العقل والواقع في فهم الأمور وكسب الحقائق. ومن هذه الناحية ليس للمثقف مزية يختلف فيها عن بقية الناس سوى الوساعة. فالواقع لدى المثقف يشكل مصدر التكوين المعرفي، مثلما يشكل النص مصدر التكوين لدى الفقيه. وتظل مزية المثقف عن الآخرين محددة بالبعدين المتبقيين، أي العنصر النقدي التنظيري والعنصر التوجيهي. فمن حيث الأول ليست الممارسة النقدية مما يمكن تطويعها ومزاولتها لعموم الناس بحسب الدقة، بل تتصف بالدقة لدى أولئك المتمرسين في القضايا المعرفية؛ سواء من أهل الإختصاص، أو أهل الثقافة والتمييز والنظر، أي لدى كل الذين يمتازون بالوعي الفردي كوعي إجتهادي معرفي تنظيري.
أما من حيث العنصر الآخر (التوجيهي) فبالإضافة إلى أن عموم الناس ليسوا مؤهلين لمثل هذه المعرفة؛ كذلك فإن المثقف الديني يختلف عن كل الذين يمارسون النشاط المعرفي. فهو يختلف عن المثقفين العلمانيين بكونه يستند في موجهاته إلى كليات النص ومقاصده العامة. وهو أيضاً يمتاز عن الفقيه بكون النص لدى الأخير يشكل عنصر تكوين خلافاً للأول الذي يرى فيه عنصر توجيه كما اسلفنا.
[1] لاحظ كتابنا: الإجتهاد والتقليد والإتباع والنظر، دار افريقيا الشرق، الطبعة الثالثة، 2010م، الفصل الاول.
[2] أبو زهرة: أبو حنيفة، دار الفكر العربي، ص106. وتاريخ المذاهب الإسلامية، ص375. والرويشد: قادة الفكر الإسلامي عبر القرون، ص14ـ15.
[3] قادة الفكر الإسلامي، ص34ـ35.
[4] الشافعي: الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث في القاهرة، الطبعة الثانية، 1979م، ص20 و39. والأم، تقديم حسن عباس زكي، طبعة قديمة لم يكتب فيها مكان وتاريخ الطبع، ج7، ص250.
[6] قادة الفكر الإسلامي، ص84.
[7] اعلام الموقعين، ج1، ص29ـ32.
[8] محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة، دار التعارف، الطبعة السابعة، 1401 هـ ـ 1981م، ج1، المقدمة، ص98. كذلك: بحوث في علم الأصول، تقرير محمود الهاشمي لأبحاث السيد محمد باقر الصدر، المجمع العلمي للامام الصدر، الطبعة الأولى، 1405هـ، ج4، ص126ـ127.
[9] الحسن بن زين الدين العاملي: معالم الدين وملاذ المجتهدين، ص373 .
[10] عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، ص94ـ96.
[11] الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ ـ1975م، ج2، ص309.
[12] انظر تفصيل ذلك في كتابنا: جدلية الخطاب والواقع.
[13] الموافقات، ج2، ص315.
[14] يحيى محمد: فهم الدين والواقع، دار افريقيا الشرق، الطبعة الثانية، 2011م. كذلك: نظرية المقاصد والواقع، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، عدد 8، 1420هـ ـ1999م، ص127ـ174.
[15]الموافقات، ج4، ص162 و165.