يحيى محمد
ليس هناك دليل أصدق من الدليل الواقعي القائل بظهور الحاجة الماسة إلى الإجتهاد بعد مرحلة نص الخطاب، وذلك لعدم البيان الكافي المفصل في النص كما هو منقول إلينا من جهة، ولتجدد الحوادث من جهة أُخرى، ناهيك عما طرأ من إضافات وغشاوات أفرزها الذهن البشري على النص، الأمر الذي إستدعى تصفيته منها عبر آلية الإجتهاد. بل لا نرى هناك دليلاً واضحاً يمكن أن يُقدّم بصدد إثبات مشروعية الإجتهاد ـ بما هو عملية إستنباط للحكم الشرعي تفضي إلى الظن ـ غير ما ذكرنا.
ويعد الشافعي أول من نظّر للإجتهاد، ورغم ذلك فإنه لم يجد دلالة مباشرة على حجيته، سواء من حيث النص او الإجماع، بل حاول الاستدلال على جواز العمل به بطريقة هي في حد ذاتها تستند إلى دليل الإجتهاد، والقياس منه بالخصوص. الأمر الذي جعله يصادر على المطلوب. أما بعد عصر الشافعي فقد ظهرت محاولات عديدة للإستدلال على حجيته، تارة بدعوى الإجماع وأُخرى من الكتاب وثالثة من السنة. وطالت محاولات الإستدلال فشملت حتى تلك التي تتعلق بإجتهاد النبي (ص) فضلاً عن الصحابة. وجميع هذه المحاولات لا ترقى الى المطلوب. بل كما أشار العديد من العلماء هو ان مبرر العمل بالاجتهاد انما جاء وفقاً لتناهي النصوص قبال تجددات الواقع غير المتناهية. وقد ظهر في فترة مبكرة أوائل القرن الثاني للهجرة، وربما قبل ذلك بقليل، وكان يراد منه اول الامر معالجة القضايا التي لا نص فيها. وظل هذا المعنى مستحكماً لدى المذاهب الفقهية التي ظهرت خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة، ومن ثم اخذ يتوسع فشمل القضايا المنصوص فيها.
ففي بادئ الامر طُرح الاجتهاد كمرتبة بعد مرتبة النص، وكان يعبر عنه بصور وقواعد متعددة لم تثر خلافاً بين الفقهاء القائلين به، وكان القياس على رأس هذه القواعد. ويُعد الشافعي اول من اثار الخلاف في الاجتهاد، وذلك عند ضبطه والتنظير له، حيث قصره على القياس فخالف سابقيه الاخذين بالمصالح المرسلة والاستحسان وغيرهما.
وتعد المذاهب الاربعة المعروفة ابرز من عمل بمبدأ الاجتهاد وان لم يتفق اصحابها على القواعد التي يصح العمل بها، لكنهم اتفقوا على العمل بالقياس واختلفوا في غيره من القواعد. وليس من سبب يجعلهم يتفقون على القياس الا لانه اقرب صور الاجتهاد الى النص، اذ هو قائم عليه كمثال سابق. اما بقية قواعد الاجتهاد فلم تكن لها هذه الخصوصية من الاعتماد على النص الخاص، لذلك كانت موضعاً للرد والقبول، او كان يُلجأ اليها للحاجة والضرورة كاستثناء للقياس، مثلما اتخذ القياس كاستثناء للنص، باعتبار ان العمل به كان للضرورة والاضطرار، وان اصبح فيما بعد اصلاً يعتمد عليه)[1].(
وقد إستمر العمل بالاجتهاد وفق الاصول المختلف حولها حتى القرن الرابع الهجري، ومنه ظهر الجدل وكثرة الخلاف في علم الفقه، إذ تكاثرت الآراء والمذاهب وأصبح بعضها يضرب البعض الآخر حتى إنتهى الأمر أخيراً إلى سد باب الرأي والإجتهاد المطلقين، فركن الفقهاء وغيرهم من الناس قروناً طويلة إلى التقليد غير عابئين بوجود الحاجة المستمرة إلى الإجتهاد)[2](. أما الدواعي الحقيقية لغلق باب الإجتهاد فما زالت لم تعرف بعد. فكل ما طُرح بهذا الصدد يعد من التكهنات والظنون التي لا ترقى إلى مستوى العلم واليقين..
وقد استدل العلماء على حجية الإجتهاد - خاصة القياس – بالإجماع([3]). وهي مجرد دعوى لا يستفاد منها علم. بل يمكن القول أنها باطلة للعلم بأن العديد من السلف قد نهوا عن العمل بالرأي والقياس، كما هو الحال مع الإمام الصادق وداود الأصبهاني وإبنه وغيرهم. كما استدلوا عليه بما جاء في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فاعتبروا يا أُولي الأبصار))([4])، حيث إستفاد الفقهاء من ذلك بأن لفظة (فاعتبروا) لها دلالة على القياس، من حيث أن هذا الأخير عبارة عن عبور من الأصل إلى الفرع، مما يعني أن الأمر الوارد في الآية بصيغة تلك اللفظة هو أمر يتعلق بالحث على القياس ومن ثم الإجتهاد([5]). مع أن سياق الآية ليس بصدد الإجتهاد ولا القياس المصطلح عليه، فهو دال على أخذ العبرة، خاصة أن العبرة أو (العبور) في الآية ليس معنياً باستنباط معنى النص ومن ثم تطبيق حكمه على مشابهاته كما في القياس والإجتهاد، بل معني بلحاظ واقع خارجي وتأمله ولو من خلال ما صوّره القرآن وحكاه لأجل الإفادة منه في الحياة بأخذ العبرة منه. وهذا المعنى هو غير الإجتهاد المصطلح عليه. فهو لا يربط حادثة بنص كما هو شأن الإجتهاد والقياس، بل يربط مصيراً بواقع لم يبق منه إلا الأثر وما خلّفه من درس وعبرة كما تنص على ذلك بداية الآية: ((هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أُولي الأبصار)).
ويؤيد هذا المعنى ما ذهب اليه ابن حزم من أن المراد بالاعتبار التعجب بدليل سياق الآية، ووافقه على ذلك ابن عبد السلام فقال في (القواعد): «من العجيب استدلالهم بهذه الآية على جواز القياس مع أن الاعتبار في الآية يراد به الاتعاظ والازدجار، والمطلق إذا عمل به في صورة خرج عن أن يكون حجة في غيرها بالاتفاق». ثم قال: «وهذا تحريف لكلام الله عز وجل عن مراده إلى غير مراده، ثم كيف ينتظم الكلام مع كونه واعظاً بما أصاب بني النضير من الجلاء أن يقرن ذلك الأمر بقياس الدخن على البر والحمص على الشعير، فإنه لو صرح بهذا لكان من ركيك الكلام وإدراجاً له في غير موضعه وقراناً بين المنافرات».
بيد ان الزركشي عجب من ابن عبد السلام، وطبق على الاية مفهوم العبرة بعموم اللفظ، وارجع المسألة الى قياس العلة، لأن إخراجهم من ديارهم وتعذيبهم قد ترتب على المعصية، فالمعصية علة لوقوع العذاب، فكأنه قال: تقعوا في المعصية فيقع بكم العذاب، قياساً على أولئك، فهو قياس نهي على نهي، بعلة العذاب المترتبة على المخالفة. قال الماوردي: وفي الاعتبار وجهان: أحدهما أنه مأخوذ من العبور، وهو يجاوز المذكور إلى غير المذكور، وهذا هو القياس. والثاني: من العبرة وهو اعتبار الشيء بمثله، ومنه عبر الخراج أي قياس خراج عام بخراج غيره في المماثلة. وفي كلا الوجهين دليل القياس لأنه أمر استدلال بالشيء على نظيره، وبالشاهد على الغائب([6]).
لكن كما قلنا ان الاية بعيدة كل البعد عن القياس المتواضع عليه، وهو الحاق مسكوت عنه بمنصوص عليه، ففي مسألتنا لا نجد الاشارة الى الرجوع الى النص كما يشترطه القياس. كذلك ان الاستدلال بالاية على القياس انما يفيد - على فرض صحته - القياس الخاص بالموضع الذي طرحته الاية، ولا دليل منها يتعدى ذلك الموضع. مما يعني ان التعدي قائم على قياس مصادر على المطلوب.
كما إستدل المتأخرون بقوله تعالى: ((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أُمُّ الكتاب وأُخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكر إلا أُولوا الألباب))([7])، مع أن الآية إذا حُملت على وجود الوقف بعد قوله ((وما يعلم تأويله إلا الله)) كما هو رأي الكثير من المفسرين القدماء فإنه لا دلالة لها على الإجتهاد مطلقاً، إذ يكون الراسخون في العلم على هذا الإعتبار لا علم لهم بتأويله([8]). أما لو حُملت الآية على الوصل فمن الواضح أيضاً أنها لا دلالة لها على الإجتهاد المفضي إلى الظن، إذ هي صريحة الدلالة على العلم، خاصة وأنها عطفت علم العلماء على علم الله تعالى وجمعت بينهما في سياق واحد. يضاف إلى احتمال كون الآية واردة بخصوص المسائل العقائدية لا الفقهية، وبالتالي فهي ليست بصدد الإجتهاد في الأحكام الشرعية.
كذلك إستدل المتأخرون بقوله تعالى: ((وإذا جاءهم الأمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))([9])، مع أن الآية لا تدل على الإجتهاد المفضي إلى الظن لمجرد ذكر لفظة (يستنبطونه). فظاهرها دال على إستخراج المطلوب بالعلم لا الظن. هذا على فرض أن المقصود بأُولي الأمر هم العلماء في الحديث والفقه. لذلك أن البعض لا يتقبل هذا الفهم ويرى أن مورد الآية جاء بخصوص إذاعة الأخبار التي لها أعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى([10]).
[2] علماً بأن هذا الأمر كاد يحدث لدى الاتجاه الشيعي بعد الشيخ الطوسي منذ القرن الخامس الهجري؛ لولا الحركة النقدية المضادة لابن ادريس الحلي. وستأتي الاشارة الى ذلك فيما بعد.
[3] شرح اللمع، ج2، ص760 و774.
[4] الحشر/ 2.
[5] المعتمد، ج2، ص766. والمستصفى، ج2، ص254. والإحكام للآمدي، ج4، ص291.
[6] البحر المحيط، شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة 1260.
[7] آل عمران/ 7. انظر: الإحكام للآمدي، ج 4، ص415.
[8] إبن كثير: تفسير القرآن العظيم، قدم له يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة ببيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ ـ1987م، ج1، ص352.
[9] النساء/ 83. انظر: المستصفى، ج2، ص254. والإحكام للآمدي، ج4، ص289. كذلك: فخر الدين الرازي: التفسير الكبير، مكتب الإعلام الإسلامي في قم، الطبعة الثالثة، 1411هـ، ج10، ص199 وما بعدها.
[10] الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم، ج5، ص25.