يحيى محمد
يمكن القول أنه لا يوجد دليل من الأدلة التي قُدمت لإثبات جواز التقليد إلا وهو دخيل وقابل للطعن، سواء تلك المستمدة من الكتاب أو السنة أو دعوى الإجماع أو ملاحظة السيرة العقلائية أو غير ذلك. حتى أن البعض ممن جوّز العمل به قد ضعّف أغلب أنواع تلك الأدلة، ولم يعثر على دليل مباشر مستمد من الشرع، كالشيخ المنتظري الذي إعتبر العمدة في قبوله هو البناء العقلائي، بل إنه لم يعد ذلك تقليداً. كما أن الآخوند الخراساني هو الآخر إعتبر ذلك البناء هو العمدة، أما ما عداه فأغلبه قابل للمناقشة([1]).
فمن الأدلة التي أُقيمت لإثبات جواز التقليد من القرآن الكريم ما أفاده البعض من آية الانذار: ((وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون))([2]). فكما يُذكر أن في الآية قولين: أحدهما أن معناها هو لولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم، فيخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي، وهو قول الأكثر([3]). ولا شك أنه ليس لهذا القول علاقة بالتقليد؛ لا من قريب ولا من بعيد.
أما القول الآخر فيرى أن معنى الاية هو لولا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهو قول الشافعي وجماعة من المفسرين، وهو كذلك مدار البحث لدى العلماء القائلين بالتقليد. فقد إستدل البعض بأنه يفاد من الآية وجوب الحذر حين الإنذار الذي يبديه الفقيه، وحيث أن الآية أطلقت دون جعل الحذر مقيداً بحصول العلم من إنذار المنذرين؛ لذا فإن الحذر واجب عقيب الإنذار؛ سواء حصل العلم للمتحذر أم لم يحصل. وبذلك تدل الآية عند هذا البعض على وجوب التقليد في الأحكام لوجوب الحذر بإنذار الفقيه، وبالتالي إتباع فتواه حتى لو كانت ظنية([4]).
على أن صحة هذا الدليل أو بطلانه تتوقف على الافادة التي تفيدها الآية بخصوص الإجتهاد. فالذي إعتبر الآية دالة على الاجتهاد علماً وظناً فإن بإمكانه أن يستدل بها على التقليد أيضاً. في حين ان من لم يرَ في الآية هذه الدلالة على الإجتهاد المفضي إلى الظن؛ فإنه لا يمكن أن يستنبط منها الحكم بجواز التقليد. وسبق أن عرفنا بأن الآية لا تبدي الإطلاق اللفظي من حيث وجوب الحذر وإتباع أخذ الفتوى من الفقيه علماً وظناً، بل ظاهرها التقييد بالعلم، لأن خطاب الآية ليس منفصلاً عن سائر النصوص التي تحث على العلم وتنهى عن الظن، وهو أمر يؤكده حال التعامل في عصر النص. لذلك لا مجال للتعميم والتعويل على الإطلاق اللفظي. ويؤيد هذا ما ذكره الآخوند الخراساني في (الكفاية) من أنه ليس لدلالة هذه الآية ولا آية السؤال على جواز التقليد؛ لقوة إحتمال أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم، لا الأخذ بالتقليد والظن تعبداً([5]).
ومما يقوي كون هذه الآية ليست بصدد جعل الحجية التعبدية للرأي والظن؛ ما ورد في تفسير الإمام الصادق لها بقوله: «فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (ص) فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم»([6]). فبحسب هذا الحديث أن العبرة بأخذ العلم، ثم بعد ذلك تعليمه وإذاعته بين الآخرين، وليس في ذلك دلالة على الظن ولا الرأي والإجتهاد.
كما استدل العلماء على جواز التقليد بآية السؤال أو الذكر، مع أن الآية ليس لها دلالة على هذا المورد. لذلك لم يعول عليها العديد من العلماء القائلين بجواز التقليد([7]).
كذلك اُستدل على جواز التقليد بالكثير من الأخبار الدالة على حجية إتباع الناس للعلماء من حيث إبلاغهم العلم والفتوى عن الشرع، وقد فهمها المتأخرون بالمعنى الدال على التقليد، حتى جعلها البعض مخصصة لدلالة الايات والروايات على حرمة إتباع غير العلم وذم التقليد، كما هو الحال مع الآخوند الخراساني([8]).
فالأخبار التي وردت بهذا الصدد على أشكال: منها ما يتعلق بمدح العلماء والرواة باعتبارهم يقومون بتبليغ الأحاديث وبيان الأحكام الشرعية، ولازمه القبول عنهم. ومن ذلك ما روي عن الإمام الرضا عن آبائه (ع) ان رسول الله (ص) قال: اللهم إرحم خلفائي - ثلاث مرات - فقيل له: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي([9]). وفي (معاني الأخبار) عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت الرضا (ع) يقول: رحم الله عبداً أحيى أمرنا. فقال: وكيف يحيي أمركم؟ قال (ع): يتعلم علومنا ويعلمها الناس([10]).
ومنها ما يتعلق بحَثّ الناس إلى الرجوع إليهم فيما لا يعلمون، سواء كان عموماً أو تشخيصاً. ومن ذلك ما روي عن أحمد بن اسحاق أنه سأل أبا الحسن (ع) وقال: من أُعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال (ع): العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون. قال وسألت أبا محمد (ع) عن مثل ذلك، فقال: العمري وإبنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان([11]).
كما أن منها ما يتعلق بالترغيب في الإفتاء، ولازمه قبول فتاواهم، وفي بعض الأخبار أن الإفتاء الجائز هو ذلك القائم على العلم لا غير. ومن تلك الأحاديث ما روي عن أبي عبيدة عن الامام أبي جعفر (ع) انه قال: من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه([12]).
كذلك منها ما دل على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء وإيجاب القبول لحكمهم. ومن ذلك ما روي عن أبي خديجة أن الإمام الصادق قال: إجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر([13]).. إلى غير ذلك من الروايات.
والملاحظ أن جميع طوائف هذه الروايات لها دلالة على الإتباع المستند إلى العلم دون الظن، وليس لها دلالة على التقليد المنبني على إتباع ظن المجتهد تعبداً. فأقربها علاقة بالموضوع تلك المتعلقة بحثّ الناس على الرجوع إلى الفقهاء، مثل توقيع الحجة: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»، لكن الرواية ضعيفة، حيث رواها إسحاق بن يعقوب وهو مجهول الحال، وجاء في السند محمد بن محمد بن عصام ولم تثبت وثاقته هو الآخر، إضافة إلى أنها دالة على الرجوع إلى الرواة لا المجتهدين.
كذلك ما ورد في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (ع)، اذ فيه الرواية الوحيدة التي تتعلق بالتقليد مباشرة: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم»([14])، إلا أن الرواية ضعيفة ومرسلة، حيث فيها عدد من المجاهيل، يضاف إلى أنها وردت بخصوص نقد عوام اليهود وتقليدهم([15]). بل نظراً إلى سائر النصوص التي تأخذ العلم كقيد في الإتباع فإنه لا بد من حمل لفظة التقليد في الرواية - على فرض صحتها - على إتباع ما يفيد العلم لا الإجتهاد المفضي إلى الظن.
أما الروايات المتعلقة بإرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء؛ فإضافة إلى أنها تريد بالفقهاء الرواة المميزين، فكذلك لا دلالة لها على التقليد، للفارق بين قبول القضاء وبين أخذ الفتوى، إذ التعدي من الباب الأول إلى الآخر وقياس أحدهما عليه يتوقف على إلغاء خصوصية القضاء عن الفتوى والقطع بعدم تأثيرها، مع أنه في القضاء لا بد من حل النزاع بالحكم ولو كان ظناً، أما مع الفتوى فالأمر مختلف اذ لا نزاع. ومع ذلك فبعض ما ورد في هذا الباب يُعد من الروايات الضعيفة، كمقبولة عمر بن حنظلة وما على شاكلتها.
هكذا يظهر أن جميع طوائف الروايات المشار إليها لا علاقة لها بالتقليد، اذ ليس لها معنى محصل سوى الدلالة على الإتباع، والفرق بينهما كبير.
دليل السيرة العقلائية
يظل أن العمدة في أدلة جواز التقليد لدى الفقهاء هو بناء العقلاء وسيرتهم مع أخذ إعتبار عدم ردع الشرع لذلك، حيث أن جواز رجوع الجاهل إلى العالم من الضرورات التي لم يختلف فيها إثنان، وهو أمر مركوز في الأذهان وثابت ببناء العقلاء في جميع العصور والأزمنة([16]). فعلى حد قول الآخوند الخراساني: «يكون بديهياً جبلياً فطرياً لا يحتاج إلى دليل، وإلا لزم سد باب العلم به على العامي مطلقاً - في الغالب - لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتاباً وسنة، ولا يجوز التقليد فيه أيضاً، وإلا لدار أو تسلسل»([17]).
وهذا الحد عند الخراساني هو العمدة في الأدلة، وماعدا ذلك فأغلبه قابل للمناقشة([18]). وسبق لأستاذه الأنصاري أن إحتمل بأن الشرع لم ينصّب في حق المقلّد الطريق الخاص له كما يتمثل بفتوى المجتهد، معتبراً أن رجوعه إلى المجتهد من باب الرجوع إلى أهل الخبرة المركوز في أذهان جميع العقلاء. لذلك حَسِبَ أن بعض ما ورد من الشرع في هذا الباب إنما هو من باب التقرير لا التأسيس([19]).
ورأى الشيخ المنتظري أنه قد إستقرت سيرة الأصحاب في عصر النبي والأئمة على رجوع الجاهل للعالم والإستفتاء منه والعمل بما سمعه من الخبير الثقة. فهذا الرجوع يعود - برأيه - إلى حكم العقل لا أنه تقليد تعبدي، مادام الملاك في بناء العقلاء هو حصول الوثوق الشخصي. بمعنى أن العمل يتحقق بالوثوق الذي هو علم عادي تسكن به النفس لا بالتقليد ولا بالتعبد. ومن ثم ينتهي الى أنه ليس هناك ما يثبت التعبد بحجية قول الفقيه مطلقاً أو بشكل منقطع عن الوثوق الشخصي([20]).
لكن الملاحظ أن رجوع الناس إلى العلماء كما هو مقرر في الشريعة في عصر النبي والأئمة ليس هو التقليد الذي يقتضيه الإجتهاد، بل ما أُصطلح عليه الإتباع، وهو الوثوق الشخصي بتحصيل العلم من العالم. فقياس ذلك الباب على هذا الباب كما هو الجاري عند أغلب المتأخرين فيه مفارقة. كما أن قياس علم الشريعة على سائر العلوم والصنعات الإنسانية الأُخرى فيه مفارقة أيضاً؛ من حيث أنها - كما عرفنا - لا تقر صور الإجتهاد المفضية إلى الظن ولا التقليد القائم عليها، ما لم يكن ذلك على نحو الإضطرار؛ لإنسداد باب العلم ولا سبيل إلى تحصيل الأحكام إلا بالإجتهاد المفضي إلى الظن غالباً.
أما عامة الناس فلا يقتضي عجزهم عن الإجتهاد أن يكونوا مقلّدين، ذلك أنهم على مستويين؛ فمنهم العاجز كلياً وهو لا سبيل إليه إلا التقليد، ومنهم من بوسعه النظر في الأدلة ولو على نحو الإجمال، وهذا ما لا يجوز عليه أن يقلّد مادام بوسعه الترجيح بين الأدلة والأخذ بأقواها أو بما تطمئن إليه نفسه.
يبقى اننا نؤيد القول بأن بناء العقلاء الذي يحصل منه الوثوق الشخصي أو الإطمئنان لا يعد تقليداً، سواء عملنا به في الشرعيات او في غيرها، كما انه ليس مأخوذاً من باب التعبد. فمن الواضح أن هذا السلوك هو سلوك طريقي وأن حجيته ذاتية لا تحتاج إلى جعل وتأسيس من الشرع.
[1] الكفاية، ص539.
[2] التوبة/122 .
[3] أعلام الموقعين، ج2، ص252.
[4] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص85ـ86.
[5] الكفاية، ص540.
[6] الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 11، حديث 10، ص102.
[7] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص89ـ90. والكفاية، ص540.
[8] الكفاية، ص540ـ541. كذلك: عناية الأُصول، ج6 ، ص236.
[9] الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 8، حديث 53، ص66.
[10] نفس المصدر، باب 11، حديث 11، ص102.
[11] المصدر والباب السابق، حديث 4، ص99ـ100.
[12] المصدر السابق، باب 4، حديث 1، ص9. انظر كذلك سائر الأحاديث المدونة في هذا الباب.
[13] المصدر السابق، باب 11، حديث 6، ص100.
[14] الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 10، حديث 20، ص94ـ95 .
[15] الوسائل، نفس المعطيات السابقة. والإجتهاد والتقليد للخوئي، ص222ـ223.
[16] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص32 و85.
[17] الكفاية، ص539.
[18] نفس المصدر والصفحة.
[19] فرائد الأُصول، ج1، ص214 .
[20] منتظري: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية في إيران، الطبعة الثانية، 1409هـ، ج2، ص102 وما بعدها.