يحيى محمد
إن من جملة الإجتهادات النظرية للفقهاء مع حكم الوجدان العقلي ومقاصد التشريع ما ذكره محمد جواد مغنية من وجود عدد لا يحصى في كتب الفقهاء مما لا يتفق مع المبادئ الإسلامية، منها بعض الاجماعات التي اتفق عليها فقهاء الشيعة رغم أنها تتعارض مع عدالة الإسلام ومبادئه الإنسانية[1]. فمثلاً أجمع هؤلاء الفقهاء بأنه اذا كانت عين في يد انسان فأقر بها لآخر، ثم أقرّ بها لغيره، كما لو قال: هي لزيد، بل هي لعمر، وجب على المقر ان يدفع العين للاول، وثمنها بكامله للثاني، لأنه ساوى بينهما في الاقرار. يعطي العين للاول لتقدم الاقرار له، وثمنها للثاني، لأنه أحال بينه وبين حقه. وهذه (الحيلولة) بمنزلة التلف. ومن الواضح ان مثل هذا الحكم ضرر فاحش ومبالغ به على المقر، حيث حكم عليه باكثر مما ثبت في الواقع، وان احد المحكوم لهما أخذ منه ما لا يستحقه ظلماً بحكم القضاء. فهنا يلاحظ ان هناك تعارضاً بين الوجدان العقلي في العدل والاستحقاق، وبين ما عليه الصنعة الفقهية من اعتبارات وضعية لا دليل عليها في النص ولا في العقل، حيث أصبح تعدد الاقرار وتساويه له من التأثير في الحقوق أكثر مما يستوجبه واقع الامر.
ومثل ذلك الشاهد ما أجمع عليه فقهاء الشيعة من أنه اذا ظلم قوي عاملاً فحبسه حائلاً بينه وبين عمله الذي يدرّ عليه وعلى عياله القوت؛ قالوا: ان القوي آثم يستحق الذم والعقاب، ولكن لا يجوز الحكم عليه بالمبلغ الذي فوّته على العامل، وبالتالي لا يحكم عليه بالعطل والضرر. لكن لو غصب دابة ضَمن منافعها سواء استوفاها الغاصب أم لا. وقد استند الفقهاء في ذلك التمييز والتفريق - بحسب ما أملت عليهم الصنعة من اعتبارات وضعية - إلى ان العامل نفسه انسان حر لا يتقوم بمال، فمنافعه كذلك، بخلاف الدابة فانها تتقوم هي ومنافعها بالمال. مع ان هذا الحكم، كما يرى الشيخ مغنية، يتنافى مع مبدأ الحرية واحترام الأنفس والأموال. والعرف لا يرى أدنى تفاوت بين حبس عامل لو ترك حراً لحصل على المال، وبين التعدي على ماله الحاصل. وبالتالي فإن الحكم السابق يتعارض مع الوجدان العقلي ومقاصد الشرع من ضرورة التعويض في الحقوق المضيعة بالاعتداء.
ومن ذلك ما ذكره صاحب (جواهر الكلام) بأن من الغريب ما صدر عن عدد من الفقهاء المعاصرين، ومنهم بعض مشايخه، من فتوى توجب على المحبوس في المكان المغصوب الصلاة على الكيفية التي كان عليها اول الدخول إلى هذا المكان؛ فإن كان قائماً فقائم، وإن كان جالساً فجالس، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة ايضاً، وذلك باعتبار ان أي حركة إنما هي تصرف في مال الغير بغير اذنه، ومن هؤلاء من يقول أنه ليس له ان يحرك أجفان عيونه أكثر مما يحتاج اليه، ولا يديه ولا سائر اعضائه، وان الحاجة تقدر بما تتوقف عليه حياته ونحوها. وهي فتوى ادعى أصحابها ان الفقهاء عليها. لكن النجفي اعتبرها من الخرافات غير اللائقة، خاصة وانها تفضي إلى ظلم المحبوس بأعظم من ظلم الظالم الذي الجأه إلى هذا الحبس المغصوب[2].
وعلى هذه الشاكلة ما ظهر من فتاوى أفضت إلى هدر الأموال وتبديدها، مثل تلك المتعلقة بصرف الخمس؛ كفتوى دفنه كله أو نصفه، أو القائه في البحر، أو الوصية عليه من واحد إلى آخر حتى ظهور الإمام المهدي. وقد استمر العمل ببعض هذه الفتاوى إلى ما يقارب تسعة قرون، ثم هجرها الفقهاء - مؤخراً - لإدراكهم أنها تخالف الوجدان بتضييعها الأموال وهدرها.
ومن ذلك ايضاً ما ذكره الشهيد الثاني في (المسالك) من الحيل المحرمة، وكذا الشيخ النجفي والبحراني، وهو أنه اذا كرهت المرأة زوجها، وارادت انفساخ عقد الزواج، فارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه.. فاذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قُبل منها وتمت الحيلة[3].
ومثل هذا الاحتيال الذي يتنافى مع العقل والمقاصد فتح بعض الفقهاء الباب أمام الذين لا يريدون دفع الزكاة، وذلك ان بامكان الشخص ان يهب ماله إلى زوجته مثلاً قبل انقضاء الحول بيوم أو اكثر، ولو مع الاشتراط عليها ان تعيده له بعد اتمام الحول بيوم أو اكثر، وبذلك يتصور أنه لا يشمله هذا الفرض العظيم[4].
وكذا هو الحال فيما جاء في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) من أنه اذا أراد رجل ان يقول لزوجته: انت طاهر، فسبق لسانه وقال: انت طالق، يحكم القاضي بصحة الطلاق[5]. فبحكم الصنعة الفقهية اعتاد الفقهاء أن يتعبدوا باللفظ، وكأنه علة لا بد من ان يأتي معلوله على سنخه وشاكلته. فعندهم كما يقول قاسم أمين: (متى ذُكر اللفظ تم الأثر الشرعي)[6].
كما جاء في (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) أنه إذا أتت الزوجة بالولد لدون أربع سنين ولو بساعة من حين طلقها الزوج، بعد انقضاء عدتها بالأقراء، فإن الولد يلحق بالزوج. رغم ان ذلك في غاية البعد وخلاف السنن الطبيعية[7].
ومثل ذلك ما نُقل عن ابي حنيفة قوله أنه اذا قال رجل لامرأة بحضرة الحاكم إن تزوجتكِ فأنت طالق، ثم قبِل نكاحها من الحاكم بإذنها، فإن الطلاق يقع عقيب النكاح، وعلى رأيه أنه لو أتت بولد لستة أشهر فإنه يلحقه، مع أنه غير معقول ويعد خروجاً عن السنن الطبيعية[8].
وكذا ما نُقل عن الشافعي بأنه إذا تعاشر الزوجان على الدوام مدة عشرين سنة فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئاً ولم يكسها شيئاً، فعلى رأيه ان القول قولها، رغم ان ذلك خلاف العادة[9]. ومثله ما رآه الشافعي بأنه لو وطئ رجل أمته ثم استبرأها بقرء ثم أتت بتسعة أشهر من حين الوطء فإن ذلك لا يكفي إلحاق الولد بالرجل. مع ان هذه المدة تعد كافية وغالبة في الالحاق. وهو يقر بإلالحاق بأقل من هذه المدة في حالة الزوجة. لذلك خالفه بعض أصحابه[10]. وايضاً ما رآه الشافعي من أنه لو ادعى السوقة على الخليفة أو على ملك عظيم أنه استأجره لكنس داره وسياسة دوابه، فإن هذه الدعوى تقبل، رغم أنها غير معقولة، وقد خالفه بعض أصحابه لهذه العلة[11].
وهناك آراء ساقطة ما لا تحتاج إلى تعليق؛ كالذي رآه البعض ان من بين الترجيحات الخاصة بالأحق بالامامة هو ان يكون الإمام أحسن زوجة، وكذا أكبر رأساً وأصغر عضواً! فقد جاء في (الدر المختار) للحصفكي ان الأحق بالامامة تقديماً بل نصباً: الأعلم بأحكام الصلاة، ثم الأحسن تلاوة، ثم الاسن، ثم الأحسن خلقاً، ثم الأحسن وجهاً، ثم الأشرف نسباً، وبعضهم زاد الأحسن صوتاً، ثم الأحسن زوجة، ثم الأكثر مالاً، ثم الأكثر جاهاً، ثم الأنظف ثوباً، ثم الأكبر رأساً والأصغر عضواً، ثم المقيم على المسافر، ثم الحر الأصلي على العتيق، ثم المتيمم عن حدث على المتيمم عن جنابة...[12]. وعلق ابن عابدين على هذا النص، وقال فيما قال: قوله (ثم الأحسن زوجة) لأنه غالباً يكون أحب لها وأعف لعدم تعلقه بغيرها، وهذا مما يعلم بين الاصحاب أو الأرحام أو الجيران، إذ ليس المراد ان يذكر كل منهم اوصاف زوجته حتى يعلم من هو أحسن زوجة... (ثم الأكبر رأساً) لأنه يدل على كبر العقل مع مناسبة الأعضاء له، والا فلو فحش الرأس كبراً والأعضاء صغراً كان دلالة على اختلال تركيب مزاجه المستلزم لعدم اعتلال عقله. وفي حاشية ابي السعود: وقد نقل عن بعضهم في هذا المقام ما لا يليق أن يذكر فضلاً عن أن يكتب. وكأنه يشير إلى ما قيل ان المراد بالعضو الذكر[13].
اخيراً فإن هناك ممارسات إجتهادية لا يستسيغها الوجدان لكون بعضها يتناقض مع البعض الآخر ضمن المذهب الواحد، كتلك التي عرضها ابن القيم في (اعلام الموقعين) عن اتباع المذاهب الأربعة[14]. واعظم من ذلك تكريس منطق الفرقة الناجية وسط ما يطلق عليه فرق الضلال، ومن ثم إبطال عبادات أهلها، وعدم الاعتراف لهم بالايمان، مما ينافي كلاً من مقاصد التشريع ووجدان العقل الفطري.
[1] انظر: محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان، دار التعارف، الطبعة الرابعة، 1399هـ ـ1979م، ص370ـ372.
[2] محمد حسن النجفي: جواهر الكلام في شرائع الإسلام، مؤسسة المرتضى العالمية ـ دار المؤرخ العربي، الطبعة الاولى، 1412هـ ـ1992م، ج3، ص416-417.
[3] مسالك الافهام، ج9، ص204. وجواهر الكلام، المعجم الفقهي، ج32، ص203. والحدائق الناضرة، ج25، ص379. والشيعة في الميزان، ص372.
[4] محمد رشيد رضا: تفسير المنار، دار الفكر، الطبعة الثانية، ج2، ص119. ومن ذلك ما نقل عن تحايل ابي يوسف في هذه القضية من دفع الزكاة خلاف المقاصد، كالذي نقله صدر المتألهين في تفسيره لسورة البقرة (تفسير القرآن الكريم، حققه وضبطه وعلق عليه محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف، 1419هـ ـ1998م، ج3، ص84).
[5] الشيعة في الميزان، ص372.
[6] قاسم أمين: تحرير المرأة، الاعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1989 م، ص404.
[7] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، المثال الثالث ضمن فصل (فيما أثبت على خلاف الظاهر).
[8] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، المثال الرابع عشر ضمن الفصل السابق.
[9] المصدر السابق، المثال الثالث عشر.
[10] المصدر السابق، المثال السادس.
[11] المصدر السابق، المثال الحادي عشر.
[12] الحصفكي: الدر المختار شرح تنوير الابصار في فقه مذهب الإمام ابي حنيفة النعمان، دار الفكر، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية: www.yasoob.com ، ج1، ص600ـ601.
[13] ابن عابدين: حاشية رد المختار على الدر المختار، دار الفكر، بيروت، 1415هـ ـ1995م، عن المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص601.
[14] اعلام الموقعين، ج1، ص278 وما بعدها. كما انظر كتابنا: العقل والبيان والاشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، الفصل الرابع.