يحيى محمد
نحن هنا بصدد الكشف عن الموضوع الذي يهتم بمعالجة مبادئ التكليف بما يترتب عليها من مقدمات ونتائج. ونحن نعلم ان هذه المبادئ كانت حاضرة بوعي وقوة كموضوع يراد له البحث والتنظير في الكلام التقليدي، فوضعت لاجل ذلك المناهج المعرفية والمفاهيم الاجرائية وقدمت التعاريف الخاصة بالعلم والوظائف المناطة به، كما بينت العديد من القواعد والاصول المعرفية. لكن السؤال هو: هل اننا نجد مثل هذه المواصفات لدى الدراسات الحديثة؟ فهل هناك في هذه الدراسات من كلام جديد ميزته انه يهتم بالاطار العقيدي من الاسلام او مبادئ التكليف بطبيعتها المعيارية الكلية مع اخذ اعتبار جوانب الاختلاف عما كان سائداً في السابق؟ وهل ان حضور هذا الاهتمام من البحث يمكن ان يشكل اليوم ما يطلق عليه العلم المتخصص، ام انه لا زال في طور الثقافة دون ان يتحول بعد الى مثل تلك المرتبة من العلم؟
يمكن القول ان هناك فعلاً ما يسمى بالكلام الجديد. فمن حيث المنهج المتبع يلاحظ انه قد تغير كثيراً عما كان مألوفاً في السابق. ومن حيث المفاهيم الاجرائية فيلاحظ انها تختلف عادة عما كانت عليه آنذاك. وكذا فان القضايا المطروحة هي في كثير من الاحيان مختلفة عما كانت تطرح من قبل. واذا اردنا ان نجمل بكلمة واحدة نوع المنهج المتبع وطبيعة القضايا المتداولة؛ فيمكن القول ان هذا المنهج هو عبارة عن ممارسة العقل البعدي المتكئ تارة على الواقع، واخرى على النص. اما القضايا المطروحة فغالباً ما كانت عبارة عن اشكاليات لها علاقة بحقوق الانسان والتوفيق مع العصر. بل يمكن القول ان هذه القضايا تتوزع على ما يقل عن ستة اصناف كالآتي:
1ـ قضايا عقدية الهية، كالبحوث الخاصة باصول الدين، وهي وان لم تكن جديدة من حيث الموضوع، لكنها عولجت معالجات مختلفة، كان من بينها تلك الردود الخاصة حول الشبهات الفلسفية والعلمية الحديثة. على ان اهم معالجة منهجية جديدة بهذا الصدد هي معالجة المفكر الاسلامي الكبير الشهيد الصدر، وذلك انه قام بتأسيس تلك الاصول طبقاً لمنهجية جديدة هي منهجية الاستقراء وحسابات الاحتمال، فقد وضع لهذا الغرض كتابين؛ احدهما يعد تبسيطاً وتوضيحاً للآخر، حيث عمد في كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) الى تأسيس عملية الاستقراء تأسيساً جديداً يهدف من وراءه الى البرهنة على وجود القاسم المشترك الذي يثبت كلاً من العلوم الطبيعية والايمان بالله، ثم اردفه بكتاب (المرسل والرسول والرسالة) ليوسع من دائرة اثبات قضايا العقيدة عبر النظر الى الواقع من منطق الاستقراء[1]، حتى قال بهذا الصدد: «ان قضايا اصول الدين والعقيدة ثبوتها لدينا كثبوت القضايا العرفية والتجريبية في الوضوح والحقانية، لانها تملك رصيداً من الدليل الحسي والاستقرائي على حد سائر القضايا الاستقرائية التجريبية»[2]. ومعلوم انه لا توجد ممارسة تنظيرية قائمة على الاستقراء وحسابات الاحتمال تلوح العقائد وتسوّي بينها وبين سائر القضايا العلمية والطبيعية قبل هذا الامام.
2ـ قضايا التربية العقائدية، وذلك ان هناك من اهتم بالعقائد على مستوى التربية الروحية والايمانية من اجل ترسيخ العقيدة في النفس المسلمة دون الاكتفاء بالاعتقاد المعرفي المنبني على الدليل والتحقيق. لكن تظل ان هذه القضايا كانت تبحث في السابق ضمن كتب الاخلاق والعرفان العملي.
3ـ قضايا ايديولوجية، اذ وُظفت العقيدة لاغراض التغيير الاجتماعي، وكان من بين ذلك تحويل معاني العقيدة الى معاني اجتماعية غرضها اصلاح الواقع الاجتماعي للأمة. ومن هذا القبيل ما فعله محمد اقبال في (تجديد التفكير الديني في الاسلام) الذي جعل من التوحيد الميتافيزيقي توحيداً قابلاً للتنـزيل بوصفه فكرة يمكن تنفيذها على مستوى المساواة والاتحاد والحرية[3]. كذلك ما فعله المفكر الصدر في بعض دراساته التي اعتبر فيها ان مطلب اقامة العدل في المجتمع ووحدة الامة هما مطلبان مستمدان من وحدة الله وعدالته.
كما كنا في مطلع الثمانينات من القرن العشرين قد اعددنا دراسة لم تنشر بعنوان(نظرية العدل التوحيدي للمجتمع) حاولنا فيها ان نجد رابطة بين الاصول الخمسة للامامية وبين المطالب الاجتماعية والمباني الايديولوجية، حيث اعتبرنا عدالة المجتمع ووحدته من الغايات الرئيسية التي يستهدفها الانسان في حركته التاريخية، وهما مستمدان من الاصلين الاساسيين لاصول الدين، وان هاتين الغايتين لا يتحققان الا عبر سلطات ثلاث يكامل بعضها البعض الاخر، وهي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وان هذه السلطات مستمدة من مفاهيم ما تبقى من اصول الامامية، وهي النبوة التي تمثل سلطة التشريع حيث تبليغ الاحكام، والامامة التي تمثل سلطة التنفيذ حيث الرئاسة الخاصة بتطبيق الاحكام، والمعاد الذي يمثل سلطة القضاء، حيث الحساب الخاص الذي يُعنى بامتثال ذلك التطبيق لاجل الغايتين المذكورتين.
4ـ قضايا نظمية، وذلك ان هناك من اهتم بابراز ما يتضمنه الاسلام من نظم تضاهي في قدرتها وقوتها الفاعلية سائر الانظمة الحديثة؛ كأطر فكرية يراد بها التعريف. ومن ذلك النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والاداري والتربوي وغيرها من النظم الاخرى المطروحة.
5ـ قضايا الحقوق الانسانية، وهي التي اخذت النصيب الاعظم من الاهتمام الكلامي بما تتضمن من بحث المفاهيم العامة التي اريد بها تغطية حاجات المسلم المعاصر، كالبحوث الخاصة في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمواطنة والقومية والخصوصية والديمقراطية والاشتراكية وغيرها. واول القضايا التي اهتم بها التفكير الاسلامي الحديث هو مثل هذه القضايا، وذلك ضمن اطار مشروع النهضة منذ رفاعة الطهطاوي خلال القرن التاسع عشر، حيث ظهرت على اثر ذلك مفاهيم عدة تم تداولها، وقد كان نصيب بعضها الاندثار والفشل، والبعض الآخر لا زال شاغلاً التفكير الاسلامي حتى يومنا هذا. فالتي اصابها الفشل مثل اشتراكية الاسلام، اما تلك التي لا زالت تحتل موقعاً من التفكير والنظر والتجديد هي مثل الحرية والديمقراطية والمواطنة والهوية والخصوصية.
6ـ قضايا التوفيق مع العصر، وهي القضايا التي شغلت الفكر الاسلامي الحديث على طول مدته، والتي تجسّدت تارة باعتبارات ما يطلق عليه التوفيق بين الاصالة والمعاصرة، واخرى باعتبارات التوفيق مع قضايا العلوم الطبيعية. وعلينا ان نذكّر هنا بأن افضل مؤسسة اسلامية فاعلة افادت من اشكالية التوفيق ونهجت نهجاً خاصاً من الجمع بين كتابي الوحي والكون، او الخطاب والواقع؛ هي مؤسسة المعهد العالمي للفكر الاسلامي.
تلك هي ابرز محاور الاهتمام في الكلام الجديد، وهي تتفاوت في حضورها، والغالب فيها هو قضايا التوفيق مع العصر والحقوق الانسانية. لكن مع هذا فقد جاءت البحوث الخاصة بتلك المحاور متفرقة لا يربطها رباط منظم ولا غرض موحد يمكن ان يعود بها الى علم عام جامع. كذلك فانه لا يوجد ما يجمعها على صعيد المنهج، ولا الاصول المعرفية. وبالتالي فان نقطة ضعف الكلام الجديد هو انه لم يتأسس بعد على مستوى التخصص العلمي، انما لا زال في طور الثقافة الممهدة.
فعلاً انه لابد لكل علم من ان يمر سلفاً بمرحلة الثقافة قبل ان يتشكل الى طور التخصص. فكل علم تخصصي لا يتأسس من فراغ، بل لابد ان يسبق ذلك وجوده كمعلومات متشتتة من هنا وهناك تفتقر الى الرابط الذي يجمعها، كما وتفتقر الى النظام الخاص الذي يوضح فيه موضوع العلم وهدفه والمنهج الذي يتبعه والاصول والادوات المعرفية التي يتأسس عليها. وهو امر ينطبق على الكلام الاسلامي التقليدي، حيث نشأ في بداية الامر على شكل ثقافة قبل ان يتشكل ويصبح علماً منضبطاً يتقيد بما ذكرناه. فالبحوث الكلامية التي تناولت قضايا الجبر والاختيار والارجاء والعلم الالهي ومرتكب الكبيرة وغيرها من المسائل لم تطرح في البدء كأجزاء من رباط علمي واحد يجمعها اصول معرفية ومناهج محددة، وانما طُرحت باستقلالية كآراء ينفصل بعضها عن البعض الآخر. وهو ذات ما نواجهه في الكلام الجديد.
وبعبارة اخرى ان من الممكن اجمال شروط التخصص العلمي ضمن هاتين النقطتين:
أ- تأطير القضايا المستهدفة للبحث ضمن اطار واحد يجمعها هدف محدد يتعلق بموضوع العلم بما هو في ذاته.
ب- أن تتضح المفاهيم الاجرائية والطرق المنهجية والاصول والقواعد المعرفية مهما بدا الاختلاف بينها.
ويلاحظ في الكلام الجديد انه ما زال يفتقر الى كل من هذين الشرطين وذلك كالآتي:
1ـ الملاحظ ان قضايا الكلام الجديد لم تندرج ضمن تشكيلة واحدة مؤطرة باطار خاص لتمييزها عن غيرها. فكتابات المفكرين متناثرة وذوات دواع مختلفة.
2ـ العلم لا يكون تخصصياً ما لم يحمل على الاقل وضوحاً منهجياً في التعامل مع القضايا، الامر الذي يفتقر اليه الكلام الجديد. فهو في جملة من الكتابات نجده يدافع عن قضايا النص، كما يلاحظ في عدد من الكتابات التي تدفع شبهات الغربيين والمستشرقين حول حقوق المرأة والانسان والحدود وما الى ذلك. لكنه في كتابات اخرى نراه يلجأ للتوفيق مع مقتضيات العصر، وذلك بتوجيه المفاهيم والنصوص الاسلامية توجيهاً يناسب الواقع الجديد؛ كتعامله مع قضايا المساواة والحرية والمواطنة والديمقراطية وما اليها. فمع ان القضايا الاولى هي كالقضايا الثانية تعود كلها الى قائمة حقوق الانسان؛ الا ان التعامل معها هو تعامل مختلف عادة، ومع ذلك لم يتوضح لماذا نجد مثل هذا الاختلاف من التعامل؟ وبالتالي وعلى نحو اعم اين هو الوضوح المنهجي في التقنين لمصادر المعرفة، فمثلاً ما هي العلاقات التي تربط كلاً من النص والعقل والواقع ؟ فمن يتحكم بمن، ومن يخضع الى من؟
3ـ لا يوجد في الكلام الجديد تأسيس واع يتعلق بالقواعد والاصول المعرفية التي عليها تنبني سائر القضايا،اذا ما استثنينا تلك المحاولة الشامخة التي أطلّ بها علينا المفكر الصدر في مشروعه الذي يخص الدليل الاستقرائي وعلاقته بتأسيس الخطاب.
هكذا يمكن القول ان كل ما هو مطروح مما يشكل كلاماً جديداً لا يعدو عن ان يكون قضايا متناثرة يغلب عليها الوسع الثقافي. لكن مع هذا فان من الممكن تشخيص خصائص هذه الثقافة ومقارنتها بالكلام التقليدي، سواء من حيث ما تمارسه من وظائف وما تهتم به من اشكاليات ضمن اطار مبادئ التكليف المحددة لهوية الكلام بما هو موضوع في ذاته، وعليه فالمقارنة بين الكلامين هي مقارنة ليست لها علاقة بتلك الهوية الذاتية من الكلام، وانما لها علاقة بالكلام كموضوع متحقق على ما سبق ان بينا، وذلك كالآتي:
1ـ ان الكلام التقليدي هو علم تخصصي لا اشكال فيه، بينما الكلام الجديد لا زال في طور الثقافة ولم يتحول بعد الى التأسيس العلمي التخصصي على ما عرفنا.
2ـ ان سبب نشأة الكلام التقليدي يعود الى امرين: احدهما كون النص لم يغط المسائل الاعتقادية بالكشف المفصل، والآخر عبارة عن التأثير السياسي. وكلاهما من العوامل الداخلية. اما سبب نشأة الكلام الجديد فيعود الى دوافع الدفاع والنهضة لما فرضته الحضارة الغربية من تطور وثقافة جديدة، مثلما يلاحظ لدى رواد الحركة الثقافية الاولى كما تجلت لدى الطهطاوي ومبارك والتونسي ومن ثم الافغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم.
3ـ ان اطار التفكير لدى الكلام التقليدي هو العقل في الغالب، وان الثقافة التي سادت لديه هي ثقافة عقلية تجريدية، اذ تم تأسيس قضايا الانتاج المعرفي طبقاً للعقل القبلي، وان اغلب الاشكاليات المطروحة كانت اشكاليات تجريدية. في حين ان اطار التفكير والثقافة والقضايا المطروحة لدى الكلام الجديد، وكذا عمليات التأسيس التي عولجت بها هذه القضايا انما تمت من خلال العقل البعدي، تارة بلحاظ الواقع وما يفرزه من اشكاليات، واخرى بلحاظ النص. ومن ذلك البحث في قضايا المواطنة والشورى والديمقراطية والقومية والحاكمية والعلمانية والمرأة والمساواة والحرية والعدالة والعلم والتراث والنهضة وما اليها من مضامين اجتماعية تتأطر في الغالب ضمن ورقة (حقوق الانسان(.
4ـ انه لما كان الكلام التقليدي معولاً على قضايا تجريدية؛ فالملاحظ في نتائجه انها كادت ان تكون ثابتة لصعوبة تمحيصها طبق موازين قابليتها على البطلان والتكذيب، وبالتالي فليس هناك ما يدعو الى تغييرها وايضاح الخلل فيها. لكن الحال مع الكلام الجديد يختلف تماماً. ذلك ان قضاياه مستمدة في غالبها من افرازات الواقع، وان الواقع متغير، وبالتالي كان من السهل ان يظهر التغير في هذه القضايا والنتائج المترتبة عليها، خصوصاً وانها مشبعة بآيديولوجيا الحاضر والحداثة. ولعل ابرز الامثلة على ذلك كيف انطفأت دعوات كانت تملأ الواقع العربي في بعض فتراته الحديثة ، ولم يعد لها اليوم من وجود، مثل تلك التي كانت تنادي باشتراكية الاسلام، ومثلها الدعوة الى الجامعة الاسلامية التي حل محلها الاقتناع بالخصوصية والوطنية. وقد كانت الديمقراطية موضع اجتذاب وتدافع منذ ان قبلها الطهطاوي ولا زالت هي بين المد والجزر، وكذا ان تاريخ الواقع العربي الحديث يشهد بكونه مسرحاً لتداول الاشكاليات المعرفية على التناوب، يظهر بعضها ثم يختفي ليحل محله بعض آخر، وقد يعود او لا يعود، وهكذا.. اذ بدأت مشكلة هذا الواقع بالتعليم والنهضة، ومن ثم الجامعة الاسلامية، وبعدها المرأة، ثم الخلافة، فالقومية، فالحاكمية، وبعد ذلك الخصوصية، وهكذا.. وفي جميع الاحوال انه لم تعد الافكار التي أُتخذت خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي نفسها التي آل اليها المفكرون والمثقفون المسلمون، خصوصاً - وكما قلنا- انها كانت مشبعة بروح الحاضر والحداثة ومتأثرة الى حد كبير بالواقع الغربي.
5ـ لقد استقطب اهتمام الكلام التقليدي محور المكلِّف وطبيعة علاقته الميتافيزيقية بالمكلَّف، وذلك ضمن النسق الخاص بالحق الالهي تبعاً للتضاد النظري بين الحق في ذاته وحق الملكية. في حين استقطب اهتمام الكلام الجديد محور المكلَّف، وذلك من حيث البحث في حقوقه الطبيعية والاجتماعية. كما وآلت البحوث الحديثة الى استهداف تنمية الروح الايمانية في النفس المسلمة عوضاً عن الاكتفاء بمجرد الادلة النظرية الموضوعة لأثبات العقيدة كما زاولها الكلام التقليدي الرسمي. كذلك انها عملت على جعل العقيدة تنبسط على الواقع من خلال اعطائها معان اجتماعية غرضها تغيير الامة واصلاحها.
وعليه كان التفكير في الكلام التقليدي يستقطبه الاهتمام المحدد بالورقة الالهية، على عكس الكلام الجديد الذي استقطبه الاهتمام بالورقة الانسانية. وانه اذا كان الاصل المولد للكلام العقلي القديم هو عبارة عن الحق المشروط او غير المشروط بما يتضمنان من مداليل تجريدية متعالية اريد بها البحث حول الذات الالهية بالخصوص؛ فان الحال مع الاصل المولد للكلام الجديد لم يتبلور فعلاً، لكنه بجميع الاحوال ليس بمعزل عن القضية الجوهرية التي اريد لها ان تكون محور اهتمامه، الا وهي حقوق الانسان.
6ـ لقد انشغل الكلام التقليدي بتقنين العلاقة التي تربط العقل بالنص، ومال غالباً الى ترجيح الدلالة العقلية على دلالة الظهور النصي. لكن في الكلام الجديد لم يظهر اثر للاهتمام بالدلالة العقلية التجريدية، وانما انصب الاهتمام بقضايا الواقع وان لم يتبلور موقف واضح وصريح يبرر من خلاله نوع العلاقة التي تربط الواقع بالنص، اذا ما استثنينا بعض الاجمالات ممن صرح بترجيح الواقع على النص كحسن حنفي الذي آل الى تسوية العلاقة بمنظار آيديولوجي مكشوف. لكن تظل عملية التقنين هذه هي موضع اهتمامنا ضمن اطار مشروعنا (حول النظام الواقعي وفهم الاسلام).
مع هذا فالملاحظ ان الكلام الجديد آخذ بالتوفيق بين النص والواقع لحساب هذا الاخير، كما يظهر ذلك بخصوص الحقوق المتعلقة بالحريات والمساواة والمواطنة التي اصبح التسليم بها امراً مألوفاً لدى غالب المفكرين والمثقفين المسلمين. وهو امر يبعث إما على توجيه النص وتأويله بما يتناسب ومضامين الواقع، او انه يبعث على اعادة فهم القضايا الاسلامية فهماً جديداً يتم من خلاله التوفيق بينها وبين الواقع. وقد كان الكلام التقليدي ينحو ناحية تأويل النص كلما وجده يتعارض مع المضامين القبلية للعقل، رغم الاختلاف الحاد في هذه المضامين بين الاتجاهات والمذاهب الكلامية.
7ـ تبعاً لعلم الطريقة ان من الصعب تحديد المرتكزات المعرفية للكلام الجديد، خصوصاً وانه لا زال يشكل ثقافة غير معلمنة بالعلم الاختصاصي، وهي تتفاوت وتختلف في الاتجاهات. فالمرتكزات المعرفية للكلام التقليدي واضحة تماماً، ففي الغالب ان المصدر المعرفي المعول عليه هو العقل اساساً، وان الالية المعرفية هي آلية قبلية تجريدية، في حين ان المولد المعرفي ينقسم في الغالب الى اتجاهين اساسيين هما الحق في ذاته وحق الملكية. اما مع الكلام الجديد فربما يكون هناك تنافس وتنازع في المصدر المعرفي بين الواقع والنص، وقد تكون الغلبة للواقع، وان الالية المتبعة هي آلية بعدية وليست قبلية، اما المولد المعرفي فمن الصعب تحديده، وان كان الاهتمام الغالب بالحقوق الانسانية يجعل له علاقة قوية بها.
8ـ انه على الرغم من الاختلاف بين المرتكزات المعرفية لدى كل من الكلام التقليدي والفقه؛ الا انه مع ذلك لم يتولد بينهما حالة من الصدام، وذلك لاختلاف القضايا المطروحة لدى كل منهما. فعلى الاقل ان موضوعات الكلام التقليدي تتصف بالتجريد بخلاف ما هو الحال في الفقه. بل على العكس نلاحظ ان الاتجاه الكلامي كان له تأثير على المنحى الفقهي، وان ظهر في قبال ذلك من المفارقات بين العلمين على ما اشرنا اليه في بحث مستقل[4]. اما الحال مع الكلام الجديد فالمتوقع له غير ذلك بالتمام، اذ اصبح التعامل سواء لدى الكلام او الفقه هو تعامل مرتبط بالواقع، ومنه حقوق الانسان. فالفقه له طريقته الخاصة في التعامل بحسب ما يجده من البيان النصي، في حين ان الكلام الجديد يميل على ما يبدو الى تغليب العقل البعدي المستمد من الواقع، وهو امر لابد وان يفضي في النهاية الى نوع من الصدام، طالما ان المرتكزات المعرفية لديهما مختلفة، وان هناك موضوعاً مشتركاً للبحث بينهما. ولا يقلل من هذه القضية ما يتصف به البحث الفقهي في التعامل الجزئي على خلاف ما يتصف به البحث الكلامي من الاطار الكلي. كما لا يقلل منها ما تتصف به الحركة الفقهية اليوم من محاولات التوفيق غير المنظّر مع قضايا الحداثة الجديدة.
9ـ ان الكلام التقليدي مؤطر بالمذهبية ونزعتها الجدلية، في حين ليس للكلام الجديد مثل هذا الاطار لاعتبارين: احدهما ان الكلام الجديد لا زال يعبر عن ممارسات تتصف بالفردية، خاصة وانه في مرحلة الثقافة ولم تتبلور بعد الاتجاهات التي تحدد المنظومات المعرفية مثلما هو الحال مع الكلام التقليدي. والثاني هو ان القضايا المطروحة في الكلام الجديد تختلف عن تلك التي كان يطرحها سالفه.
ان الخطر التقليدي في الماضي هو خطر يهدد الانتماء المذهبي من قبل المذاهب المنافسة الاخرى، وهو ما يبرر ظاهرة التشبث بالمذهب عبر الجدل الذي لا ينتهي، خصوصاً وان ذلك الانتماء كان يفوق سائر الانتماءات الاخرى. اما مع الكلام الجديد فانه لا يواجه مثل ذلك الخطر، بل ما يواجهه هو خطر الخصوم الخارجين عن الثقافة الاسلامية، وبالتحديد خطر الثقافة الغربية وهيمنتها. لذا فالتحدي في الكلام الجديد هو تحدي حضاري وليس مذهبي. وبالتالي فالايديولوجيا الجديدة هي آيديولوجيا حداثية تعبّر عن المطالب الاجتماعية واحياناً السياسية. في حين ان ايديولوجيا الكلام التقليدي هي ايديولوجيا مذهبية تعمل على ارضاء سلطة السلف والانتماء المذهبي، واحياناً تكون مندفعة لاغراض سياسية.
مع هذا فالظاهرة التي نشهدها اليوم هي ان ثقافة الكلام الجديد لما كانت منتجة عادة من الاوساط المذهبية، فانها لذلك ليست مقطوعة الصلة بالمذهبية. اذ لا زالت آثار الكلام التقليدي الممذهب في اذهان الكثير من اولئك الذين يمارسون الثقافة الكلامية الجديدة. أي ان هؤلاء تجديديون في قضايا الحداثة، لكنهم تقليديون في قضايا المذهب التي تنزع منزع التجريد. ويصل الامر احياناً الى نوع من المفارقة. فقد تجد المثقف او المفكر اشعري النزعة من حيث الرؤية، حيث يؤمن بمبدأ حق الملكية وان الحسن والقبح شرعيان، لكنه مع ذلك يرى ان الواقع يفرض عليه الاعتراف بالحقوق الطبيعية للانسان كالحرية والمساواة والخصوصية وغيرها من الحقوق التي ينتزعها من الهام الواقع وليس من النص الشرعي. ولا شك ان مثل هذه المفارقة التي تجمع كلاً من الكلامين القديم والجديد وتضعهما معاً صفاً بصف تحتاج الى من يطل عليها بضوء من الدراسة والتحليل.
اقتراحنا على المهتمين بالكلام الجديد
هناك عدد من الاقتراحات ارى ان اطرحها على المهتمين بالكلام الجديد بحسب النقاط التالية:
1ـ ينبغي تحويل ثقافة الكلام الجديد الى علم تخصصي، وذلك بجمع شتات القضايا المطروحة واظهار المناهج المتبعة في توليدها، ومحاولة وضع المفاهيم الاجرائية المناسبة، وعرض النظريات وابراز ما تعول عليه من طبيعة الادلة المعتمدة والاصول المعرفية المتخذة مع التحقيق فيها.
فمثلاً يمكن الاتكاء على قاعدة حسابات الاحتمال والاستقراء كمفهوم اجرائي يتخذ في التحقيق من القضايا؛ ليس فقط تلك المتعلقة بالتأسيس الخارجي للخطاب مثلما وظفه المفكر الصدر، وانما ايضاً ما يخص التأسيس الداخلي للخطاب، أي التحقيق في القضايا التي يطرحها النص من اجل الكشف عن مضامينه. فمبدأ الاستقراء وان تم توظيفه بجدارة في الفقه واصوله كما صنع الشاطبي في (الموافقات) الا انه لم يوظف بخصوص الكلام المتعلق بالنص. والشاطبي ذاته الذي يوظف المبدأ في الاول يتجاهله تماماً في الثاني. مع ما له من ثمار ونتائج مهمة تميل الى المنطقية[5].
2ـ لا بد من التحرر معرفياً من النزعة المذهبية بالمعنى الدال على الانتماء الاجتماعي. فهي نزعة بقدر ما تحقق الغرض الايديولوجي؛ بقدر ما تنافي العلم الموضوعي ونزعته الابستيمية. فاذا ما اريد للكلام الجديد ان يتقدم خطوة باتجاه العلم الحقيقي المثمر فلابد من ان ينزع عن جلده كل ما يعلق به من براثن مذهبية؛ كتلك التي حملته لوناً من الازدواجية، او ان يقطع صلته بظاهرة الاندماج والتماهي التي عمل الكلام التقليدي على تكريسها عندما وحد بين العلم والانتماء المذهبي وجعل من العلم مطية هذا الانتماء.
بل لابد للكلام الجديد من ان يتخذ مسلكاً جديداً يكون فيه نواة للتحقيق الابستيمي؛ بقطع الصلة عن جميع الصيغ الايديولوجية التي تقف ضد ذلك الغرض النبيل، سواء كانت مذهبية او سياسية او أي ايديولوجية مصلحية غير تلك التي تهدف الى التحقيق في القضية الكلامية ضمن دائرة الاتفاق الاسلامي، وهي الدائرة التي تنطلق من الايمان بمبادئ التكليف الاربعة، والتي يُفترض ان تكون التفاصيل التي تتضمنها محوراً لعمليات الاجتهاد والفهم طبقاً للمنطق العلمي الآنف الذكر.
ويستحسن التنبيه الى ان العمليات الاجتهادية المشار اليها وان كان من الممكن ان تتحول بالنتيجة الى مدارس ومذاهب اسلامية جديدة؛ الا ان ذلك يمكن ان يكون ظاهرة صحية اذا ما كان الاتجاه المذهبي المشار اليه يعبر عن الانتماء العلمي او المعرفي وليس الانتماء الاجتماعي، أي بالمعنى الذي يطلق عليه الرأي العام العلمي. ففي السابق كان الكلام التقليدي يرى في (الرأي العام) رأياً مذهبياً طبقاً للانتماء الاجتماعي. ولكي يتجنب الكلام الجديد هذه العقبة التي تصد عن المعرفة الحقة ويجعل من ذاته مختلفاً جذرياً عن الكلام التقليدي فانه لابد من ان لا يقر ذلك المنحى بمختلف تسمياته كالاجماع وما اليه، وان لا يحول الرأي العام مما هو علمي الى اطار اجتماعي. لكن ليس هناك من سبيل لتجنب الوقوع في ورطة الانتماء الاجتماعي غير اعتبار الاراء العلمية آراءاً اجتهادية خاضعة للفحص والمراجعة والتحقيق باستمرار دون ان يُعطى لها قيماً مطلقة ومقدسة. على ان هذه السمة من الفحص والمراجعة والتحقيق هي سمة امتاز بها العلم الطبيعي الحديث، وهي سر التقدم الذي حققه والفاصل الذي فصله جذرياً عن العلم القديم. فقد اصبح من المسلم به ان الاختلاف الاساسي بينهما ليس من جهة قيم نتائجهما في الصواب والخطأ، وانما يعود الى كون العلم الحديث سلك منهج الفحص والمراجعة المستمرة دون ان يسلكه العلم القديم او يوليه أي اهمية، اذ كان يعد النظرية التي يصل اليها تمثل حقيقة قاطعة ونهائية لا تحتاج الى فحص جديد[6]. لذا فبفضل المراجعة والتحقيق لم يكن ترجيح قبول نظرية كوبرنيكوس على نظرية بطليموس في النظام الشمسي مستمداً من صواب الاولى وخطأ الثانية، وانما رجحت الاولى على الثانية اعتماداً على مبدأ البساطة[7].
3ـ نوصي ان يكون شاغل الباحثين في قضايا الغيب والميتافيزيقا منصباً على الكليات المجملة، وان يكون اهتمامهم في قضايا الشهود والواقع قائماً على التفصيل، وذلك نظراً لامكانات العقل المحدودة بالنسبة للقضايا الاولى، ودفعاً للجدل الذي يصعب حسمه مثلما حلّ في الكلام التقليدي.
كما نوصي ان يتقيد الباحث في فهمه للحدود اللغوية للنص طبقاً لنفس القاعدة من الفهم المجمل، وذلك طمعاً في الوصول الى القطع ودفعاً لكثرة الاحتمالات الداعية الى كثرة الخلاف من غير حسم او ترجيح مثلما هو حاصل في الفقه. وتعويضاً لهذا التضييق ففي سعة الباحث ان يلجأ الى الارتكاز الى فهم الواقع (الكتاب التكويني) لتسديد ما يفتقر الى فهمه مفصلاً من (الكتاب التدويني)، حيث يجد في ذلك امكانية للمراجعة والاختبار، ومن ثم الترجيح وربما الحسم، مهما طال الزمن. وهو أمر يشغلنا التنظير له خارج حدود هذا البحث.
أ- تكثيف الجهود في التركيز على نظرية الاستخلاف وتوظيفها بشأن تحديد المواقف اللازمة من الاشكاليات الحديثة، خصوصاً تلك التي لها علاقة بحقوق الانسان وكذا التوفيق بين النص والواقع.
ب- البحث في مصادر المعرفة الاسلامية (النص والعقل والواقع)، وذلك بتحليل مفاهيمها واشكالياتها وعلاقاتها.
ت- الانشغال باشكالية العلم والدين عبر الاستفادة من بحوث فلسفة العلم والبحث في بعض اشكالياته لتوظيفها في الكلام الجديد، فكما يقول اينشتاين: «ان العلم (science) بدون دين اعرج، وان الدين بلا علم اعمى»[8]. فعلى الاقل هناك قضية هامة يمكن ان تدفع بالكلام الى ان يكون علماً يؤمل له الحضور على الصعيد العالمي. ويمكن عنونة هذه القضية بـ (العلم والمسألة الالهية):
العلم والمسألة الالهية
يعلم الذين يقيمون في الغرب ابعاد هذه القضية واهميتها، حيث تنتشر حالات الالحاد واللاأدرية، بشكل يبدو عليها الاعتزاز احياناً بكونها رافعة مشاعل العلم والتقدم؛ خلافاً لمظاهر الايمان التي تعد في نظر الكثيرين بأنها لا تتفق وطبيعة العلم، او على الاقل ان العلم لا يجد وسيلة ليؤكد مثل هذه المظاهر.
ويبدو لي ان جزءاً مهماً من المسؤولية عن انتشار ذلك الفهم وتلك الحالات يعود الى النهج الذي كرسته (فلسفة العلم)، وبالخصوص التأثير الذي مارسته الوضعية المنطقية التي لم تعد تجد للمسألة الالهية مطرحاً يمكن ان يدل عليها؛ لا بالعلم ولا بغيره.
لا يعنينا هنا ما يواجهه العلم اليوم من مشاكل جسيمة جرّاء انحلاله عن الالتزام بالقيم الاخلاقية والروحية التي تجد فيضها نابعاً من الايمان بالله. بل ما يعنينا هو التنبيه على امكانية طرح المسألة الالهية والبحث فيها من خلال توظيف بعض قضايا العلم واشكاليات فلسفته، وذلك على نحوين كالآتي:
1ـ الاشكالية العلمية ومسألة الايمان بالله، ذلك انه بالتعرف على طرق البحث العلمي وانشاء النظريات والمنطق المتبع في التحقيق وكذا الموقف من قضايا فلسفية كمبدأ السببية؛ كل ذلك يتيح بشكل كبير معالجة المسألة الالهية، فهي ليست مقطوعة الصلة عن المنهج المتبع في القضية العلمية كالذي حاول تأسيسه الشهيد الصدر في كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء) وكالذي لجأت اليه بعض المحاولات الغربية[9]. مع ما يلاحظ ان المسألة الالهية هي ليست على التماثل تماماً مع القضية العلمية. ولا اقصد بذلك الفارق الخاص بقابلية الادراك المباشر، اذ نجد الكثير من القضايا التي يقدّر وجودها العلم هي مما لا تقبل مثل هذا الادراك، بل تستنتج بحسب ما يبدو من الآثار الظاهرة، وهي بهذا تماثل المسألة الالهية. فالذي اقصده فعلاً هو الفارق الخاص بالتفسير بين ان يكون مغلقاً ومحصوراً او مفتوحاً وغير محصور. فالنظام المتبع في التفسير العلمي هو نظام مفتوح، ففيه يتم افتراض نظرية ما وسط عدد غير محدد من النظريات الممكنة او المحتملة، فاذا ما رفضت احداها يمكن ان تتقدم اخرى غيرها، وهكذا بانفتاح غير قابل للحصر. اما نظام التفسير في المسألة الالهية فهو من حيث الاساس نظام ثنائي مغلق، أي انه قابل للحصر العقلي المجمل. لكنه مع هذا يمكن ان يخضع الى ذات المنطق الذي يقوم عليه هذا العلم، وهو منطق الحساب الاحتمالي وكفاءة التفسير. حيث تنطلق الاشكالية فيه من البحث في طبيعة الاساس الذي تقوم عليه ظواهر الكون؛ إن كان يمكن تفسيرها طبقاً لمنطق المصادفة العشوائية او تبعاً لمبدأ القصد والتصميم. ويلاحظ اننا هنا امام حصر عقلي ثنائي مثمر يختلف عما يطرح على الصعيد العلمي. ويماثل ما نحن بصدده ما يلاحظ -مثلاً- في ظاهرة الكتابة. فالحروف المصفوفة بين الجلدين _لكتاب لا نعلم مصدره- هي ما يتشكل عليها البحث اولاً، وذلك من حيث التساؤل إن كان من الممكن تفسير الحالة المفترضة طبقاً لمنطق المصادفة العشوائية، او تبعاً لمبدأ القصد والتصميم؟ ولو اننا توصلنا الى قبول الفرض الثاني وترجيحه على الاول؛ فان من الممكن بعد ذلك البحث عن الاحتمالات الواردة حول طبيعة شخصية ذلك المصمم من خلال الاثر الذي اوجده. فهذا هو ما يماثل ما نحن بصدده في المسألة الالهية.
على ان هناك اختلافاً في القيمة المعرفية التي تترتب على الفارق الذي حددناه بخصوص القضية العلمية والمسألة الالهية. فالنظام العلمي المفتوح لا يبعث على القطع في القضايا غير المدركة مباشرة، وهو خلاف النظام المغلق لوجود الحصر.
2ـ الاشكالية العلمية وحكمة الخلق، والمقصود بذلك البحثعن القصد والحكمة في مظاهر الخلق، لا سيما تلك المتعلقة بالشرور ومن بينها الصراع العام بين الكائنات. إذ يلاحظ أن هذه القضية هي الفجوة التي يتسلل منها رجال الإلحاد واللاأدرية، حتى وُصفت بأنها صخرة الإلحاد، حيث يحسبون الإيمان بالله ليس فيه فائدة، إذ إنه على فرض وجوده إما أن يكون غير قادر على إزالة الشر من العالم، أو إنه إله بلا رحمة وشفقة. وهي شبهة تطرح على الدوام في البحوث المناطة بفلسفة الدين، وبدأت حديثاً منذ منتصف الخمسينات على يد الباحث الاسترالي جون ماكي، وقد خصصنا لها دراسة مستقلة.
مع ذلك يلاحظ أن إشكالية القصد والحكمة غير مفصولة عن الإشكالية العلمية ونتاجها؛ لذا كان لا بد من طرحها عبر هذا المدخل. بل وحري أن يتقدم ذلك إيجاد علم متخصص يغاير النهج العلمي الممارس في الغرب حالياً، وهو ان يهتم بلحاظ النتائج المكتشفة للعلوم القائمة ويبحث عن تفسيرها تحت طاولة مبدأ القصد والحكمة؛ كأن يعمل في البدء بتتبع واستقصاء حالات الحكمة وأنواعها ومظاهرها، وكذا لا بد من أن يحدد الحالات التي ما زال الإنسان عاجزاً عن ان يتوصل إلى إدراك مغزاها وحكمتها، لا سيما ما يتعلق بالدراسات البايولوجية وعلاقات الصراع الخاصة في الكائنات الحية. مع لحاظ ضرورة ان يتضمن هذا العلم مقدمة كلامية تخص البحث عن مسلّمة ذلك المبدأ وإعتباره؛ كمبدأ السببية. فمثلما ان عدم إدراك سببية حادثة ما لا يدعو إلى التشكيك بالمبدأ العام للسببية أو التنازل عنه، وإنما يبعث على البحث والتنقيب، وهو المسلك الذي ما زال العلم يستظل به رغم محاولات التشكيك المنبعثة من بعض الفلاسفة الغربيين، فكذا هو الحال مع المبدأ الآنف الذكر، فعدم إدراك القصد في ظاهرة معينة لا يعني بالضرورة التشكيك في المبدأ أو التنازل عنه؛ بقدر ما يعني ضرورة البحث والتنقيب عنه، إنطلاقاً من الإقرار بكون النظام الدقيق الدال على وجود الخالق العظيم لا يسمح وجداناً للفرض القائل بوجود ثغرة في خلقه تتسق مع العبثية أو غياب القصد والحكمة. وهو أمر يبعث على الفوائد العلمية، فالإعتقاد بهذا المبدأ يشجّع على البحث، وبدونه يكون الأخير عبثاً بلا جدوى ضمن هذه الزاوية. فمثلاً نتوقع أن يكون لوجود الكواكب الشمسية بهذه التشكيلة فائدة كبيرة على الأرض والحياة. فهذا الإفتراض يبعث على البحث في العلاقات الدائرة بين هذه الكواكب، وبدونه لا جدوى من البحث إذا ما اعتقدنا سلفاً بأن هذا التجمع في نظامنا الشمسي خاضع للصدفة بلا فائدة تذكر.
ورغم تشكيك الكثير من العلماء وفلاسفة العلم في صدق مبدأ السببية وامكانية انطباقه على العالم الذري الإلكتروني؛ فقد ظهر ميل إلى قبوله كمبدأ ميتافيزيقي لا غنى عنه في تأسيس البحث العلمي، مثلما هو إتجاه كارل بوبر في كتابه (منطق الكشف العلمي)[10]. فكذا يمكن القول حول مبدأ القصد والحكمة وما يستلزمه من اعتراف بوجود الصانع الحكيم، حيث يفترض أن يُتخذ كمبدأ ميتافيزيقي للعلم؛ تصبح به كلمة (بسم الله) ليست مجرد كلمة تقال في الشعائر الدينية، بل الأهم من ذلك إنها تصبح حقيقة يتأسس عليها التصور العلمي؛ سواء من حيث تكوينه الذاتي، أو من حيث إعادة بنائه بالشكل الذي لا ينفصل فيه عن منظومة القيم التي قطع الصلة عنها، وإن اثبتت الأيام حاجته الماسة إليها.
هكذا مثلما ان الحاجة تدعو إلى تأسيس علم يخص مبدأ القصد وحكمة الخلق؛ فكذا ان الفلسفة التي تؤطر هذا العلم هي الوظيفة التي ينبغي أن تكون على عاتق علم الكلام الجديد كما يؤمل للمثقف الديني مزاولتها. وما أجلّها من وظيفة!
[1] محمد باقر الصدر: موجز في اصول الدين، تحقيق عبد الجبار الرفاعي، ص127 وما بعدها.
[2] بحوث في علم الاصول، ج4، ص126. كذلك مقدمة الفتاوى الواضحة.
[3] محمد اقبال: تجديد التفكير الديني في الاسلام، ص178.
[4] انظر التمهيد في كتابنا: فهم الدين والواقع.
[5] انظر: مدخل الى فهم الاسلام.
[6]Wright, The Origins of Modern Science, The Structure of Modern Science Thought, p.15.
[7]Hempel, Philosophy of Natural Science, current printing 1987, USA, p.24.
[8] Frank, Philipp, einstein, mach, and logical positivium, The structure of scientific thought, printed in Great Britian in 1968, p.93.
[9] انظر مثلاً الفصلين الثاني والثالث من كتاب:Richard Swinburne, Is There a God? OxfordUniversity Press, 1996.
[10] انظر:Popper, K. The Logic of Scientific Discovery, United Kingdom, Anchor Press, First Impression 1959, Seventh Impression, 1974, p.248.