يحيى محمد
جاء عن أصحاب منطق حق الملكية، كما يتمثل في الأشاعرة، أن الله تعالى مريد لكل شيء ما لم يكن مستحيلاً، كالخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والعصيان، وأن ما يريده يخلقه وما لا يريده لا يخلقه أبداً[1]. لكن قد يقال أن ذلك يفضي إلى مقالة قدم العالم، فحيث أن إرادة الله قديمة وهي من الصفات الذاتية، أو كونه مريداً، فلا بد من تعلق الإرادة بالمراد، فيثبت قدم العالم، على شاكلة قول النظام الوجودي. وأجيب على ذلك بأن إرادة الله محددة بإرادة كل شيء في وقته المحدد دون لزوم قدم الأشياء، كالذي أفاده الغزالي في رده على الفلاسفة[2].
كما قرر أصحاب هذا المنطق أنه على الرغم من أن الله يريد الكفر والسفه والجور، إلا أنه ليس بكافر ولا سفيه ولا جائر، وذلك على غرار الحالة التي يخلق فيها الشهوة لغيره مع أنه غير متصف بها. وعلى العموم ليس كل ما يخلقه لغيره ينبغي أن يتصف به[3].
ومن الأدلة التي قدمها هؤلاء على الإرادة المطلقة، ما ذكره الشيخ أبو الحسن الأشعري بقوله: «إن الإرادة إذا كانت من صفات الذات بالدلالة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة في كل ما يجوز أن يراد على حقيقته، كما إذا كان العالم من صفات الذات وجب عمومه لكل ما يجوز أن يعلم على حقيقته. وأيضاً فقد دلت الدلالة على أن الله تعالى خالق كل شيء حادث ولا يجوز أن يخلق ما لا يريده. وقد قال الله تعالى: ((إنّ ربّك فعّال لما يريد)) (هود/107). وأيضاً فإنه لا يجوز أن يكون في سلطان الله تعالى ما لا يريده، لأنه لو كان في سلطان الله تعالى ما لا يريده لوجب أحد أمرين: إما إثبات سهو وغفلة أو إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده. فلما لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه ما لا يريده». ثم قال: «وأيضاً فقد دلت الدلالة على أن كل المحدثات مخلوقات لله تعالى.. وأيضاً فلو كان في العالم ما لا يريده الله تعالى لكان ما يكره كونه، ولو كان ما يكره كونه لكان ما يأبى كونه، وهذا يوجب أن المعاصي كانت شاء الله أم أبى، وهذه صفة الضعيف المقهور»[4].
كما استدل على ذلك بنصوص من الخطاب الديني، كقوله تعالى: ((وما تشاؤون إلا أن يشاء الله)) (الإنسان/30).. ((ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)) (السجدة/13).. ((ولو شاء ربك ما فعلوه)) (الأنعام/112).. ((ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً)) (يونس /99).. ((ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد)) (البقرة/253) [5].
ومع أن لهذه الآيات دلالة على المعنى الذي أفاده أصحاب هذا المنطق في كون ما يريده الله يفعله، لكن من الواضح أن هناك معنيين للإرادة، أو قل توجد إرادتان: إحداهما تكوينية لأن بها يحدث كل ما يريده الله من الخير والشر طبقاً للسنن التي سنّها في الوجود، وهي تأتي بمعنى المشيئة، والأخرى ما يتعلق بها الأمر أو الطلب الذي يقتضي وجودها في التكليف، كإرادته الإيمان والعدل والصدق والوفاء، وعدم إرادته الكفر والظلم والنفاق... الخ. وتعتمد الإرادة الأخيرة على الحب والبغض، والقبول وعدم القبول. ومن الأمثلة عليها ما جاء في قوله تعالى: ((ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) (المائدة/6)، وقوله أيضاً: ((إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)) (الأحزاب/33)، حيث جاءت الإرادة بالمعنى القيمي المعياري وليس بالمعنى التكويني، فمثلاً بالنسبة للآية الأولى هو أن الله يريد اليسر في الدين، كما يريد التطهير واتمام النعمة، بأمر انشائي وليس بالزام تكويني. وجاء في الحديث عن أحد أئمة أهل البيت أنه قال: «إن لله إرادتين ومشيئتين، إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى، وأمر ابراهيم أن يذبح اسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة الله تعالى»[6]. وواضح أنه لا يتحتم في هذه الإرادة حدوث الشيء الذي يريده الله، لا لعجز منه، بل لمشيئته السابقة في جعل الحياة حرة تقبل التكليف بلا الزام وجبر حتميين. ولا شك في أن الإرادتين غير متناقضتين، لإعتماد الأخيرة على الأولى، وكلاهما يتأسس على مبدأ رضى الله.
هكذا فعلى الرغم من أن المنطق السابق قد فسّر لنا الإرادة الأولى، إلا أنه لم يقر الإرادة الثانية، واعتبر (الأمر) لا يقتضيها. بل وفقاً للاتجاه السابق، وما ينقل عن المشهور من رأي الأشعري وأصحابه، بأنه تعالى يحب الكفر والفسوق والعصيان، وقيل أن الأشعري هو أول من قال ذلك. فهو عندهم محبوب كسائر المخلوقات «إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق، فكل مخلوق فهو عندهم محبوب مرضي»[7]. وهو قول يقرّب هذا الإتجاه من نزعة النظام الوجودي.
[1] الأشعري: اللمع، ص47 و49، والابانة عن أصول الديانة، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ1985م، ص102. والجويني: الإرشاد، ص237. والإقتصاد في الإعتقاد، ص106.
[2] الغزالي: تهافت الفلاسفة، قدم له وعلق عليه علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م، ص45.
[3] الأشعري: اللمع، ص79 و90 و116ـ117. والابانة، ص103ـ104. وكذا: أبو بكر الباقلاني: التمهيد، تصحيح الأب رتشرد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957م، ص283.
[4] الأشعري: اللمع، ص47 و49. والابانة، ص100ـ101. ولاحظ أيضاً: أصول الدين، ص94. والمحصل، ص288.
[5] اللمع، ص57ـ58.
[6] أصول الكافي، ج1، ص151.
[7] إبن تيمية: النبوات، دار القلم، بيروت، ص69.