يحيى محمد
ليس غرضنا - هنا - استعراض واحصاء كل ما يصدر عن منطق الحق الذاتي من تأويلات، بل هدفنا هو فهم الممارسة التطبيقية لعملية التأويل وعلاقتها بقضايا العقل القبلي، وعلى رأسها تلك التي لها علاقة بالاصل المولد. ولهذه الممارسة تطبيقات كثيرة كتلك الجارية حول مسائل العقيدة التي نطق بها الخطاب الديني، سواء في المجال المعياري او المجال الوجودي، كالذي سنتعرف عليه خلال الفقرتين التاليتين:
1ـ التأويل في المجال المعياري
من الممارسات التأويلية في المجال المعياري ما جاء حول مسألة القضاء والقدر، حيث غرضها دفع حالات الجبر والالجاء كما تبدو من النصوص القرآنية. والحاكم في هذا التأويل هو التشريع العقلي الذي ينص على أن الفعل الإلهي مقيد بالعدل تبعاً للأصل المولد، وان الجبر والالجاء هو مما يتنافى مع هذا العدل.
وابرز النصوص التي طالتها يد التأويل بهذا الصدد تلك التي تتعلق بالهداية والضلال، ومن ذلك ما ذكره الشريف المرتضى حول معنى الآية القرآنية: ((إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء)) (القصص/56)، فاعتبر معناها هو انك لا تنجي من العذاب من احببت. ثم قال: «فإن قيل: فلم زعمتم أن هذا هو تأويل الآية؟ قيل له: لما كان الله قد هداهم؛ بأن دلهم على الايمان، علمنا أنه لم يهدهم بهدى الثواب، وقد بيّن الله تعالى أن الهدى بمعنى الدليل قد هداهم به، فقال ((إن يتّبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى)) (النجم/23) يعني الدلالة والبيان. فإن قيل له: إنما أراد به ليس عليك نجاتهم، ما عليك إلا البلاغ ولكن الله ينجي من شاء. فإن قيل: فلِمَ قلتم هذا؟ قيل له: لما اخبر الله تعالى أن النبي (ص) قد هدى الكافر فقال: ((وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم)) (الشورى/52)، وانما يريد انك تدل، فلما كان قد دلّ المؤمن والكافر كان قد هدى الكافر والمؤمن، فعلمنا أنه أراد بهذه الآية هدى الثواب والنجاة. فقس على ما ذكرناه جميع ما يسأل عنه من امثال هذه الآية» (30).
بهذا التحديد قام المرتضى بتقسيم الهدى الى نوعين؛ احدهما بمعنى الدليل والبيان، والآخر بمعنى الثواب والنجاة، ودللّ على كل منهما ببعض الشواهد القرآنية، فعلى النوع الأول قوله تعالى: ((وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)) (فصلت/17)، وقوله: ((وما منع النّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى)) (الإسراء/94)، وقوله: ((انا هديناه السبيل أما شاكراً وإما كفوراً)) (الانسان/3)، وعلى النوع الثاني قوله تعالى: ((والذين قتلوا في سبيل الله فلن يُضِلّ اعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم)) (محمد/4ـ5)، وقوله: (( يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام)) (المائدة/16)، وقوله: ((ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم)) (يونس/9) (31).
بيد أن هناك نوعاً اخر للهداية تفسر به الايات التي أوّلها الشريف المرتضى الى معنى النجاة والثواب (32) ، حيث ظواهرها يشير الى معنى (الالجاء) الخاص بدفع السلوك البشري باتجاه معين من غير شعور، كإن يخلق الله الدواعي للفعل باتجاه معين دون غيره. ويحظى هذا المعنى، الذي تدل عليه الكثير من الايات، بتأييد من الواقع. وينطبق الامر على مسألة (الضلال) والتي حصرها المرتضى بالمعنى المحدد للعقاب والهلاك كجزاء على الكفر، ومن ذلك ما استدل به في قوله تعالى: ((ان المجرمين في ضلال وسعير)) (القمر/47)، أي أن المجرمين في هلاك وسعير، مع أن هناك الكثير من الآيات التي تتحدث عن إضلاله تعالى للكافرين بما تدل عليه من (الإلجاء)، وذلك على شاكلة ما يجري مع الهداية، فالالجاء لا مفر منه سواء بالهداية او الضلال، كما يدل عليه قوله تعالى: ((من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً)) (الكهف/17)، وقوله: ((يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً)) (البقرة/26)، ويؤيده الواقع بما يحمل من سنن انسانية، كالذي سنشير اليه فيما بعد.
وعلى هذه الشاكلة جاء عن القاضي عبد الجبار الهمداني تأويله الكثير من الآيات بهذا الصدد، ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى: ((فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً)) (الأنعام/125)، حيث اعتبر أن المراد بالهدى في تلك الآية هو زيادة الهدى لكي ينشرح صدره للاسلام والايمان. كما اعتبر أن المراد من الإضلال في الآية هو الاضلال عن تلك الزيادات لعلمه تعالى بأنه لا ينتفع بها فيجعل صدره ضيقاً حرجاً فتضطرب عليه اعتقاداته الفاسدة إذا فكّر فيها. وقد عدّ تفسيره هذا دليلاً على أنه تعالى «يفعل بالمؤمن ما يكون اقرب الى ثباته على الإيمان من شرح الصدر بزيادات الأدلة، ويفعل بالكافر ما يكون اقرب الى أن يقلع عن الكفر من ضيق الصدر» (33). مع أن هذا التفسير جاء على عكس الظاهر الذي يبدو من الآية، إذ تدل صراحة على كون انشراح الصدر هو سبب الهداية لا العكس، وكذا أن انقباض الصدر وضيقه هو سبب الضلال.
كما قام الهمداني بتأويل قوله تعالى: ((فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة)) (الأعراف/30)، فعلى رأيه أنه إذا كان الله تعالى قد هدى الجميع؛ فما معنى اضلاله للبعض كما نطقت به الآية السابقة؟ لهذا ذكر أن المراد بها هو الجزاء في الاخرة، فيكون الهدى بمعنى الثواب، والضلالة بمعنى العقاب (34). وعلى هذه الشاكلة فسّر قوله تعالى: ((من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون)) (الأعراف/178)، فاعتبر بان المراد هو من يهد الله الى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا، ومن يضلل عن الثواب الى العقاب فهم الخاسرون في الدنيا. وكذا الامر في تفسير قوله تعالى: ((من يضلل اللّه فلا هادي له)) (الأعراف/186)، اي من يضلله عن الثواب في الاخرة فلا هادي له اليه. كما جاء في تأويله لقوله تعالى: وأنّ اللّه يهدي من يريد)) (الحج/16) بان المراد هو ان الله يكلّف من يريد، باعتبار ان بعض الناس لا يبلغون حد التكليف، واحتمل في الاية مراداً آخر هو الهداية الى الثواب الخاص بالمطيعين دون غيرهم (35). ومنها ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ((أتريدون أن تهدوا من أضلّ اللّه)) (النساء/88)، فقال بأن المراد بذلك هو من اضله الله تعالى عن الجنة، إذ لا يصح ان يهديه اليها وقد حكم عليه بالعقاب (36). وكذا بالنسبة لتفسيره للاية: ((يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً)) (البقرة/26)، حيث اوّلها الى معنى الثواب والعقاب (37). كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ((ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)) (البقرة/7)، بان للعلماء جوابين ممكنين: الاول استبعد فيه ان يكون الله تعالى هو من منعهم عن الايمان والهداية، والا لما ذمهم، وعليه فإن معنى الغشاوة على السمع والبصر هو من باب التشبيه، اذ رغم ازاحة كل العلل المانعة عن الايمان فإنهم مع ذلك لم يؤمنوا وكأن عليهم غشاوة. ثم ذكر استدراكاً لهذا الجواب، وهو انه حتى لو ثبتت الغشاوة حقيقة لما جاز ان تكون مؤثرة على واقع كونهم عقلاء مكلفين. أما الجواب الثاني للاية فيتضمن بأن الختم علامة يفعلها الله تعالى في قلوبهم كي تعرف الملائكة كفرهم فيكونوا محل ذم لها (38). وهو جواب بعيد عن ظاهر معنى الاية. وعلى هذه الشاكلة اعتبر ان المراد في قوله تعالى: ((في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاًَ)) (البقرة/10)، هو ان في قلوبهم غماً او حسداً على ما يخص الله تعالى به رسوله واصحابه، فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمهم، لذا فمعنى قوله ((فزادهم الله مرضاً)): اي زادهم غماً بما يفعله الله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالاً بعد حال. وقد انكر ان يكون معنى المرض الكفر والنفاق باعتباره يفضي الى نفي العدل عن الله (39). كذلك اعتبر المراد في قوله تعالى: ((ويمدهم في طغيانهم يعمهون)) (البقرة/15)، هو ان يمدهم الله في جزاء طغيانهم، لا ان يمدهم في نفس طغيانهم، كما احتمل ان يكون ذلك عاقبة امرهم، فمعنى يمدهم اي يبقيهم على حالهم (40). وهناك تأويل آخر ذكره في (متشابه القرآن) وهو ان معنى يمدهم هو امداده لهم في العمر نعمة منه عليهم كي يستدركوا ما فاتهم فيتوبوا، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم ولا يزدادون الا شراً، فالذي ينسب الى الله تعالى هو المد في العمر، اما الطغيان والعمه فيضاف اليهم (41). وايضاً انه اعتبر المراد في قوله تعالى: ((ان الذين لا يؤمنون بالاخرة زينّا لهم اعمالهم)) (النمل/4)، هو تزيين ما ينبغي ان يعملوه وما يجب عليهم السعي فيه (42). ومن ذلك ايضاً انه اعتبر قوله تعالى على لسان ابليس: ((قال فبما أغويتني)) (الأعراف/16) ان المراد منه هو بما احرمتني من الثواب وخيبتني منه، لا ان المراد به الضلال، بل الحرمان (43). وكذا بالنسبة الى تفسيره لقوله تعالى على لسان نوح: ((ولا ينفعكم نصحي إن اردت ان أنصح لكم إن كان الله يريد ان يغويكم)) (هود/34)، فاعتبر ان ما اراده نوح (ع) هو ان نصحه لا ينفع مادام الله اراد حرمان قومه عن الفوز بالثواب وانزال العقاب (44). وكذا تفسيره لقوله تعالى: ((ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثماً)) (آل عمران/178)، بان اللام في ((ليزدادوا)) للعاقبة لا للتعليل (45) ، مع ان الظاهر هو العكس. وايضاً تفسيره لقوله تعالى: ((ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين)) (الزخرف/36)، حيث اعتبر المراد به هو ان من يعش عن ذكر الرحمن في الدنيا فان الله يقيض له شيطاناً في الاخرة فيصبح قرينه، ثم استدرك في هذا التأويل وذكر ان بدونه يمكن تفسير النص طبقاً للتخلية بين الكافرين والشياطين، مثلما جاء في تفسير قوله تعالى: ((ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم ازاً)) (مريم/83)، اذ بسبب كفرهم خلى بينهم وبين الشياطين (46).
ومثل ذلك ما ذكره الشريف الرضي في (حقائق التأويل)، حيث فعل الشيء الذي فعله شقيقه الشريف المرتضى من تأويل الايات الخاصة بالهداية والاضلال، ومن قبله الهمداني، فقام بتأويل بعض ايات الازاغة، مثل قوله تعالى: ((فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم)) (الصف/5)، فاعتبر ان الازاغة الثانية هي على سبيل العقوبة في الاخرة، وهو ان الله أزاغ قلوبهم عن طريق الجنة والثواب، تبعاً للإزاغة الأولى منهم في الدنيا، وبالتالي كانت الازاغة في الدنيا قبيحة، وفي الآخرة حسنة (47).
مع هذا فقد نقل الشريف الرضي رأياً يعود الى بعض التابعين لذات المنطق؛ لا ينكر فيه الازاغة في الدنيا، لكنه يفسرها تبعاً لتخلية الله تعالى بين العبد ولطفه، كعقوبة تأتي بعد المعصية والانحراف. وبحسب ما جاء في هذا الرأي هو ان إضلال الله وإزاغته ليسا كإضلال إبليس وإزاغته، لان الله تعالى قد ذم ذلك وبرئ منه، فعلمنا أنه تعالى لا يضل عن الحق وهو يدعو إليه، ولا يمنع منه وهو يأمر به. لذا لم يأتِ ان الله ابتدأ قوماً بالإزاغة، بل قال: ((فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم))، فأخبر الله بأنه فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم وجزاء على فعلهم، فمنعهم الالطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه كل من آمن به، ووقف عند حده، وخلاهم واختيارهم، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكرها في كتابه، فقال: ((والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (محمد/17) فأضاف سبحانه الفعل في الازاغة إلى نفسه، على اتساع مناهج اللغة في اضافة الفعل إلى الآمر، وإن وقع مخالفاً لأمره، فسمي من كان سبب الضلال مضلاً، وان لم يكن منه دعاء إلى الضلال ولا إلى ضده، مثلما قال سبحانه: ((وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الاصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس)) (البقرة/126)، فأضاف تعالى ضلال القوم إلى الاصنام، إذ جعلوها سبباً لضلالتهم، وهي جماد لا يكون منها صرف عن طاعة ولا دعاء إلى معصية. ومثل ذلك ما يقال: إن الرجل يشغف بالمرأة، فإذا عظم وجده بها وقلقه من أجلها، قال لها: قد أسهرتِ ليلي، وأمرضتِ قلبي، وكدرتِ صفاء عيشي، ولعلها لم تعلم بشيء من أمره، ولم تشعر بأوقات قلقه وسهره، ولكنه لما اعتقد أنها سبب لذلك - وإن لم تفعله - جاز أن ينسب إليها فعله. وآكد من ذلك أنها لو شعرت بما يقاسيه فيها ويعانيه من حبها، فزجرته عن نفسها وخوفته عواقب الاشتغال بها، فكان ذلك سبباً في تضاعف شغفه، فانحلت قوى أمره واسترخى وتر صبره وطال بها سهر ليله وتشاغل عن مصالح نفسه، كان جائزاً أن ينسب ذلك إليها، فيقول: إنها أسهرت ليلي وأطالت فكري، واقتطعتني عن مصالحي، وذهبت بي عن مراشدي، وهي لم تعظه إلا ليتعظ، ولم تزجره إلا ليزدجر. وكذا ما يتعلق في الاية حول الازاغة، وهو ان الله ليس هو المباشر في الازاغة، بل قد يكون ذلك بفعل الاحالة بينهم وبينه دون ان يقدّم لهم الالطاف الهادية بسبب انحرافهم (48). وهو تفسير على شاكلة ما سبق اليه القاضي الهمداني لبعض الايات التي مرّت معنا. وان كان ذلك لا يفسر لنا معنى الالجاء الذي تؤكده النصوص الدينية بما يخالف ما ذهب اليه هذا الاتجاه.
ومن التأويلات الاخرى ما جاء عن المفسر الزمخشري، حيث فسّر قوله تعالى: ((ومن يُرِد اللهُ فتنته فلن تملك له من الله شيئاً اولئك الذين لم يُرِد الله ان يطهّر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم)) (المائدة 41)، بمعنى ان الله تركه مفتوناً ومخذولاً، بان لا يمنحه وامثاله من الطافه ما يطهّر به قلوبهم (49). وكذا تأويله لقوله تعالى: ((ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)) (البقرة/7) حيث صرح بأنه لا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وانما هو من باب المجاز تبعاً للاستعارة او التمثيل. وهو بذلك ينفي ان يكون الختم والتغشية من قبل الله تعالى، باعتبار ان ذلك يخالف منطق الحق في عدالة الله وحسن صنيعه، واعتبر انه يجوز ان يستعار الاسناد في نفسه من غير الله لله؛ فيكون الختم مسنداً الى اسم الله على سبيل المجاز، كإن يكون الشيطان او الكافر هو الخاتم في الحقيقة، الا ان الله لما كان هو الذي اقدره ومكّنه فقد اسند اليه الختم. كما احتمل ان ذلك جاء لأن هؤلاء الكفار اصبحوا بلا طريق للايمان طوعاً واختياراً الا بالقسر والالجاء، لكن لو حصل هذا لانتقض غرض التكليف، لذا عبّر عنه بالختم. وهناك وجوه محتملة أخرى طرحها الزمخشري كلها تصب في نفي أن يكون الختم والتغشية راجعيْن الى الله بالذات (50).
***
ويلاحظ في التأويلات السابقة انها تتفادى الوقوع في مستنقع الجبر الذي يحيله اصحاب منطق الحق الذاتي سمعاً وعقلاً، بتبرير انه يتنافى مع العدل والاصل المولد. أما من حيث التحقيق فالواقع يشهد على صور الالجاء ضمن ما يعرف بالسنن الاجتماعية والكونية، ومن ابرزها سنن التطبع والعادة وما يترتب عليها من نتائج تتعلق بالتأثير على قوة ميل الارادة عند الممارسة المتكررة. فمن حيث هذه القوة ان من فعل شيئاً لمرات معدودة ليس كمن اعتاد عليه، وابلغ ما تظهر به صورة الالجاء هي عند الحد الذي يطلق عليه العادة والتطبع. فالذي يعتاد على ممارسة شيء يكون كالمجبر عليه، وكلما زاد الفعل كلما زاد الاعتياد والالفة، الامر الذي يؤثر على فعل الارادة وقوتها (51). ولا يتوقف الحال عند هذا الحد، بل يحدث نوع اخر من الالجاء يتصف بكونه من سنخ الشيء المعتاد عليه. وبعبارة اخرى يحصل فيما نحن بصدده تطوران من الالجاء؛ حيث تبدأ الممارسة بالتطور الكمي للفعل الذي يترتب عليه الاعتياد والتطبع، ومن ثم تفضي العملية الى تطور كيفي، حيث يبدأ بممارسة أفعال اخرى تتسق مع تلك التي تم الاعتياد عليها، وهي بدورها قابلة للتحول الى العادة والتطبع بفعل التكرار. وكل ذلك يتضمن الالجاء.
وعليه فالانسان محكوم بقدرين: ارادته من جهة، والسنن الكونية والاجتماعية من جهة اخرى. الامر الذي غفل عنه اصحاب المنطق السابق، حيث بهذين القدرين يمكن تفسير ما تشير اليه النصوص القرآنية التي مرت معنا دون حاجة للتأويل. وهي حقيقة لا تتنافى مع العدل الالهي، حيث ان الالجاء المشار اليه في النصوص؛ كالمد في الطغيان، وزيادة الكفر ومرض النفاق في القلوب، وجعل الغشاوة، وتسليط الشياطين على الكافرين.. الخ، كل ذلك جاء عقوبة لسوء الفعل والاختيار دون إلغاء الإرادة كلياً. فهو عبارة عن جزاء مرتب وفق ذات السنن الكونية في ضغطها على الإرادة وميولها. ولا يتنافى ذلك مع حكم الاخرة الذي لسنا معنيين به على نحو التفصيل لجهلنا بخصوصيات الحساب والتقدير وفق العدل والاحسان.
والشيء نفسه يقال حول الالجاء المتعلق بالهداية، حيث كلا الحالين (الهداية والضلال) يخضعان للأسباب والمسببات، والآيات القرآنية تشير الى هذا المعنى وتضع المسؤولية على عاتق الانسان وخياراته، إذ تترتب عليها النتائج الخاصة بالهداية والضلال، ومن ذلك النصوص التالية: ((ان الذين امنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم)) (يونس/9).. ((الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب)) (الشورى/13).. ((يُضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يُضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك هم الخاسرون)) (البقرة/26ـ27).. ((إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل)) (النحل/37).. ((أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون)) (الجاثية/23).. ((يثبّت اللّه الّذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ويضلّ اللّه الظّالمين ويفعل اللّه ما يشاء)) (إبراهيم/27).. ((فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين)) (الصف/5).. ((كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)) (المطففين/14).. ((نسوا الله فنسيهم)) (التوبة/67).
فبحسب هذه النصوص أن سبب الهداية والضلال مناط بخيار الانسان، وهو أمر لا ينقطع من حيث المد والزيادة ((ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)) (مريم/76)، فالهداية تجر الهداية، والضلال يجر الضلال، وهكذا بلا حدود. ومنه يتبين فشل الممارسة التأويلية التي ابداها أصحاب منطق الحق الذاتي، سواء عولنا في ذلك على كثرة النصوص القرآنية التي تبدي المعاني الخاصة بالالجاء، او عولنا على ما يظهره الواقع الخارجي من الحقائق والسنن الكونية.
مع هذا نشير الى ما حكي عن بعض اتباع هذا المنطق من أنه اعترف بصور الالجاء التي جاء ذكرها في القرآن؛ مثل الختم والطبع والغشاوة والازاغة والاضلال وغيرها، إذ ذهب الشيخ عبد الواحد بن زيد البصري (المتوفى سنة 150هـ او 177هـ) وابن أخته بكر الى اعتبارها توابع وعقوبات من الله لأصحاب الجرائم، كالذي تدل عليه ظواهر النصوص (52).
2ـ التأويل في المجال الوجودي
اما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي فابرزها تلك المتعلقة بقضايا الصفات الالهية. ومن ذلك تأويل الشيخ المفيد لسمع الله وبصره، وهو انه عالم بالمسموعات وعالم بالمبصرات (53). وكذا تأويل الشيخ الطوسي لمسألة حب الله وهو انه يأتي بمعنى الارادة فحسب، كما في قوله تعالى: ((إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين)) (البقرة/190)، اي انه لا يريد ثوابهم ولا مدحهم (54). وجاء عن اصحاب هذا المنطق تأويلهم لايات الرؤية، كما في قوله تعالى: ((وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة)) (القيامة/22ـ23)، حيث تعني عندهم بان وجوه المؤمنين منتظرة ثواب ربها ونعيمه، او بمعنى ان المؤمنين ينظرون الى هذا الثواب، ولدى البعض لا مانع من المعنيين معاً، حيث لا تنافي بينهما (55).
ومن ذلك ايضاً ما قام به الزمخشري من تأويل اية الكرسي: ((وسع كرسيه السماوات والارض)) (البقرة/ 255)، معتبراً ان مفاد الاية هو غير هذا الظاهر، بل هناك وجوه للمعنى، منها: انها جاءت لتصوير عظمة الله وتخيلها «ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد». إذ أنها جاءت بمثل ما جاء به قوله تعالى: ((وما قدروا الله حق قدره والارض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)) (الزمر/67)، حيث لا توجد قبضة وطي ويمين «وانما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي» بدلالة مقدمة الاية ((وما قدروا الله حق قدره)). وهناك وجه اخر لمعنى الكرسي، وهو العلم، فسمى العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم. كما هناك وجه ثالث، وهو ان الكرسي بمعنى الملك، باعتبار ان الله مالك كل شيء (56). كما قام الزمخشري بتأويل اية الامانة: ((إنّا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فابيْنَ ان يحملنها واشفقْنَ منها وحملها الانسان، انه كان ظلوماً جهولاً)) (الاحزاب/ 72)، معتبراً ان عرضها على الجماد من السماوات والارض والجبال وعدم حملها واشفاقها منها انما جاء مجازاً لا حقيقة (57). ومثل ذلك تأويله لخشوع الجبل وتصدعه في قوله تعالى: ((لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)) (الحشر/ 21)، حيث اعتبر ذلك من التمثيل والتخييل كالذي جاء في عرض الامانة، بدلالة مؤخر الاية ((وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)) (الحشر/21) حيث الغرض منها توبيخ الانسان على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره (58). وعلى هذه الشاكلة تأويله لقوله تعالى: ((ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعاً او كرهاً قالتا اتينا طائعين)) (فصلت/11)، حيث عد ذلك من المجاز والتمثيل، وانما الغرض هو تصوير اثر قدرته في الاشياء بلا قول ولا جواب (59). وجاء في تأويله لاية الميثاق الذي اخذه الله على عباده في سابق الزمان: ((واذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنّا عن هذا غافلين)) (الاعراف/172)، فاعتبر ذلك من التمثيل والتخييل والتصوير، والمعنى عنده هو ان الله نصب لهم الادلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم لتميّز بين الهدى والضلالة، فكأنه اشهدهم على انفسهم بما جاء في الاية، ومثل ذلك اقرارهم، وكل هذا من التمثيل (60).
***
نستخلص مما سبق النقاط الثلاث التالية:
1ـ يتضح من الممارسات التأويلية السابقة ان للعقل استقلالية في التشريع والاحكام، وهو بذلك لا ينافس تشريع الخطاب فحسب، بل يكون حاكماً عليه. اذ غرض ممارسات التأويل هو تسديد الثغرة الخاصة بعدم انسجام ما يبدو من نص الخطاب مع قبليات العقل وتشريعه، لذلك كان تسديد هذه الثغرة مستمداً من مفردات هذا العقل وتصوراته الاولية ضمن اطار منطق الحق الذاتي. حيث استند هذا المنطق في تبريره للثغرة الانفة الذكر الى المفاهيم المترتبة على اصله المولد، ومن ذلك مفهوم الحكمة، حيث ان افعال الله لا تخلو من الحكمة، ومن بين ذلك ما يتعلق بجعل الخطاب الديني بعضه متشابهاً. وكان من الاصول التي اعتمدها هذا المنطق هو رد المتشابه من النصوص الدينية الى المحكم منها. فمن الوجوه التي ذكرت في علة وجود المتشابه في القرآن، هو ان الله اراد تكليفنا بازالة التشابه عبر النظر في النص والاجتهاد في معرفة معناه كي لا يكون هناك جهل وتقليد، وبالتالي كان لا بد من التشريع العقلي واعتباره حاكماً على الخطاب (61).
2ـ كما يلاحظ ان الممارسات التأويلية في المجال المعياري تعتمد على ما للعقل من تشريع مستمد من الاصل المولد لمنطق الحق الذاتي. فكما عرفنا ان الغرض من تأويل نصوص مسألة القضاء والقدر هو ابعاد الشبهة المتعلقة بالجبر والالجاء والتي لا تتسق مع مبدأ العدل الالهي المنتزع عن بداهة الحق الذاتي.
أما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي، كما هو الحال مع نصوص الصفات الالهية، فيلاحظ انها لا تتعلق بالاصل المولد للحق الذاتي مباشرة، لكنها تعزز من اعتبارات هذا الاصل، طالما ان لها علاقة بالعدل الالهي. حيث حرص هذا المنطق على أن تتصف الذات الالهية بكامل التجريد عن المشابهة مع المخلوقات وصفاتها الجسمية، وذلك كي لا تكون محكومة باعتبارات النقص الذي عليه هذه المخلوقات وطبائعها، سواء فيما يتعلق بـ «النقص الوجودي» كحالات التركيب والتغير في الذات، او ما يتعلق بـ «النقص المعياري» كحالات الظلم وغياب الحكمة؛ لاعتبارات الشهوة والغضب وما اليها من النقائص الاخرى التي هي من طبائع المخلوقات. فهذا هو التوحيد في اقصى درجاته من التجريد كما يتصوره منطق الحق الذاتي، وبالتالي كان لا بد من تأويل الايات التي تتنافى معه، كتلك التي تتعلق بالقضايا الوجودية للصفات الالهية، لا فقط لاعتبارات التعالي عن الجسمية والمادة، بل كذلك للتعالي عن طبائع المخلوقات الباعثة على الظلم او الفعل القبيح. الامر الذي تتوثق به الصلة بين الاعتبارين الوجودي والمعياري.
3ـ تتصف الممارسة العقلية للتأويل، سواء لدى منطق الحق الذاتي او حق الملكية، بأنها لا تفيد اثبات شيء من التفسير بقدر ما تفيد نفي ظاهر النص. إذ انها لا تهدف من الممارسة التأويلية اكثر من عدم معارضة النص لقبلياتها المعرفية، وبالتالي فانها لا تمانع من طرح وجوه ممكنة للتفسير دون الاقتصار على وجه معين بالخصوص، خلافاً لمسلك النظام الوجودي الذي يستهدف باستظهاره وتأويله واستبطانه اثبات المعنى التفسيري؛ كما هو منعكس عن قبلياته المعرفية الوجودية، سيّما الاصل المولد المتمثل بالسنخية.