يحيى محمد
بحسب الإعتبارات العقلية لدى علم الكلام أنه يتوجب توقف قبول الدليل اللفظي على نفي المعارض العقلي. فبدون الأخذ بهذه النتيجة يفضي الأمر إلى نوع من التناقض وعدم الإتساق، فالذي يدعو العقل لإثبات المسألة الدينية هو ذاته يدعوه لإثبات القضايا الأخرى، كتلك المتعلقة بفهم النص الديني. وبعبارة أخرى، أن من التناقض أن تقبل الإعتبارات العقلية لتأسيس الخطاب من الخارج، وتمنع في الوقت ذاته من تأسيسه من الداخل.
فهذا هو عذر الدائرة العقلية لممارسة وظيفتها لفهم النص الديني. والقاعدة التي اعتمدتها بهذا الشأن هي ملاحظة ما يتقرر لدى العقل من إعتبارات (الإمكان والإستحالة). فكل شيء يراه العقل في النص ممكناً فهو مقبول، وكل شيء يراه مستحيلاً فإما أن يتم طرحه أو يمارس في حقه التأويل.
وعليه فحقيقة التأويل لدى هذه الدائرة هي النفي لا الإثبات. فالتأويل لا يقطع بمضمون حقيقة ما يتضمنه الخطاب، لكن يكفيه نفي الظاهر منه فحسب. لذا فقد اعتاد أصحاب هذه الدائرة بأن يطرحوا وجوهاً ممكنة متعددة للتفسير والتأويل، كالذي فعله المفسر الزمخشري في (الكشاف)، والشريف الرضي في (حقائق التأويل). وقديماً سأل الخياط جعفر بن بشر المعتزلي عن معنى قوله تعالى: ((يضل من يشاء ويهدي من يشاء)) (النحل/93)، وعن (الختم والطبع)، فقال في جوابه: «أنا مبادر إلى حاجة، ولكني أُلقي اليك جملة تعمل عليها، أعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها، ولا أن ينهى عن قاذورة ثم يدخل فيها، وتأوّل الآيات بعد هذا كيف شئت»[1]. وواضح من العبارة الأخيرة أنه ليس الغرض إثبات التأويل وتحديد معنى النص كما هو، بل يكفي نفي الظاهر المتعارض مع قبليات العقل المعياري، خلافاً للفهم الجاري وسط النظام الوجودي بشقيه الفلسفي والعرفاني، إذ يعمل على إثبات وتعيين صور التفسير من التأويل والإستظهار والإستبطان وفق ما تحدده منظومة القبليات الوجودية[2].
فمثلاً تختلف نظرية التمثيل الفلسفي عن التأويل الكلامي بأن ظاهر اللفظ وإن كان ليس مراداً لدى كلا المسلكين، إلا أن الأخير لا يعتقد بالظاهر ولا بالباطن، بل يرى الظاهر مجازاً لغوياً يرمي إلى حقيقة أخرى ليست باطنية بالمعنى المألوف، وإنما تشير إلى معنى آخر ضمن ما أطلقنا عليه (المجال)[3]، فتربطه بالظاهر اللغوي مناسبة لفظية أو سياقية تبعاً للإستعارة والتشبيه. في حين يعترف التمثيل الفلسفي بوجود لون من المماثلة والتشابه بين ظاهر اللفظ والحقيقة، فمع أن الظاهر غير مراد لكنه شبيه بالحقيقة لتقريب المعنى إلى أذهان العوام. وليس في التأويل الكلامي مثل هذا التقريب إلى الأذهان، إذ الظاهر يعارض الحقيقة المرادة، وبالتالي ليس بقدرة العوام معرفة المراد، لا على نحو الحقيقة، ولا على نحو التشبيه.
وقد انعكس هذا الفارق على تحديد علة وجود ما يعرف بالمتشابه، أو كون الظاهر اللفظي غير مراد. فالتبرير الكلامي قائم على أن ذلك جاء لتعريض العباد لتحصيل الثواب بالإجتهاد والبحث والنظر لمعرفة المطلوب[4]. في حين أن التبرير الفلسفي قائم على رعاية مشاعر الجمهور لقصورهم عن استيعاب الحقيقة كما هي، فقرّبها لهم الخطاب الديني على شكل صور محسوسة وخيالات وهمية[5]، كالذي فصلنا الحديث عنه في (الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية).
وإذا عدنا إلى العقل المعياري وما يحمله من ضوابط (الإمكان والإستحالة) سنرى بأن مشكلته تكمن في إعتباراته المتضادة والمتناقضة، فما يكون لدى بعض الإعتبارات ممكناً، يكون لدى البعض الآخر مستحيلاً. فالإعتبارات التي يعوّل عليها منطق الحق الذاتي هي غير تلك التي يعوّل عليها منطق حق الملكية. والأمر لا يتوقف عند حدود التباين والإختلاف بين هذين النوعين للإعتبارات، بل يصل إلى حد التضاد والتناقض في تطبيق القاعدة العقلية الخاصة بـ (الإمكان والإستحالة). فالكثير من قضايا النص التي يفهمها المنطق الأول بأنها مستحيلة؛ يراها المنطق الثاني ممكنة، والعكس بالعكس.
وبعبارة أخرى، إن المعارض العقلي للدليل اللفظي يخضع لإعتبارين متضادين وفقاً للمنطقين السابقين، فتأويل النص الذي يحدده أحدهما طبقاً لإعتبارات المعارض العقلي هو غير ما يراه الآخر، لإختلاف طبيعة هذا المعارض. وهكذا فإن العقل يتناقض بتناقض إعتباراته، ومنه ينشأ التناقض في القانون الكلي للمعارض العقلي (أي ترجيح الدليل العقلي على الدليل اللفظي)، ومن ثم التناقض في فهم النص الديني.
ومن الشواهد على ذلك، التناقض الحاصل في فهم النصوص المتعلقة بالصفات الإلهية ومنها رؤية الله وكلامه. فمثلاً أن المعتزلة والزيدية والإمامية الإثنى عشرية يحيلون الرؤية، ويعدونها دالة على الجسمية، بينما يذهب الأشاعرة إلى تجويزها، إذ أن مصحح الرؤية عندهم هو كون الشيء موجوداً[6]، مع أنه من الناحية المنطقية قد تكون طبيعة الموجود غير قابلة للرؤية والإدراك، وبالتالي فالوجود لا يدل بالضرورة على الوجدان.
على أن مثل هذه الإعتبارات العقلية المتعارضة قد دفعت كلاً من الإتجاهين إلى تأويل النصوص المخالفة لها. إذ قام الإتجاه الأول بتأويل النص القرآني: ((وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)) (القيامة/22ـ23)، واعتبره من المتشابهات خلافاً لنصوص أخرى عدّها من المحكمات وتدل على الغرض، وأقواها قوله تعالى: ((لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)) (الانعام/ 103)، وكذا اعتبر أن ما يقع ضمن هذه الدلالة قوله تعالى: ((قال ربي أرني أنظر اليك، قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)) (الأعراف/ 143).
وفي القبال منع الإتجاه الثاني حدوث الكلام الإلهي لإعتبارات عقلية متعلقة بإثبات المسألة الدينية. في حين تقبّل الإتجاه الأول هذا الحدوث لإعتبارات عقلية أخرى متعلقة بالتوحيد كما مرّ معنا. وهذا ما اضطر الإتجاه الثاني إلى تأويل الآيات المتعلقة بهذا الصدد، والتي ظاهرها يفيد الحدوث لا القدم، ومن ذلك تأويله لنص القرآن: ((ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه)) (الأعراف/143)، إذ ذُكر بأن معنى الآية هو أن موسى قد سمع الصفة الحقيقية للكلام الأزلي، ولم يسمع شيئاً حادثاً بإعتبار أن ذلك من المحالات لدى هذا الإتجاه[7].
ويبقى أن التعارض في الإعتبارات العقلية يخلّ بهدف الدائرة العقلية لترجيح الدليل العقلي على الدليل اللفظي. إذ لما كانت هذه الإعتبارات متعارضة؛ فكيف يمكن جعلها مرجعاً يُستند إليه في الحكم؟ وكيف يُعتمد عليها في إثبات المسألة الدينية أو تأسيس الخطاب من الخارج؟ وما هو نوع العلم والقطع الذي تفضي إليه كما يدعيه أصحابها؟ وبالتالي ما المانع من أن تكون هذه الإعتبارات، الموصوفة بالأدلة والبراهين العقلية، زائفة وهمية كما يصورها لنا أصحاب الدائرة البيانية؟
إذاً لا يمكن قبول القاعدة المنهجية لدى أصحاب هذه الدائرة والقائلة بضرورة القطع بعدم وجود المعارض العقلي في الدليل اللفظي. إذ أن هذا المعارض لا يستغني بدوره عن الحاجة للفحص والنظر بمنطق آخر مختلف لملاحظة ما إذا كان مقبولاً أو لا[8]؟
وأول ما يتبادر إلى الذهن بهذا الصدد هو السؤال عن كيفية تحصيل العلم والقطع في القضايا العقلية؟ فالعبرة ليس بذات الإعتماد على العقل، بل بالوصول إلى تلك المرتبة العليا من المعرفة. فلو كان الدليل اللفظي يفضي إليها دون العقل لما تردد أحد في ترجيح الأول على الأخير، كالذي ذهب إليه إبن تيمية من أصحاب الدائرة البيانية. وهنا لا بد أن نشير إلى عدد من الملاحظات تساعد في حل هذه الإشكالية كما يلي:
1ـ لا بد من التمييز بين العقل القبلي والعقل البعدي، وهو ما لم يكن معروفاً لدى التراث العربي الإسلامي. فما يعتمد على أحدهما هو غير ما يعتمد على الآخر، وأن القضية المدعمة بالأول لا تكون بقوة تلك المدعمة بالثاني؛ ما لم تكن من القضايا الوجدانية والبديهية واللوازم المستنتجة عنها، وعدا ذلك فإن القوة المعرفية التي يحظى بها العقل البعدي هي أكثر وثوقاً مما يحظى به العقل القبلي. وبحسب العقل البعدي فإن للدلالة الواقعية أهميتها الخاصة للكشف المعرفي، كما أن للدلالة النصية أهميتها للكشف عن مضمون الخطاب وبنيته. ويستعان في كلا الحالين بمنطق قرائن الإحتمال والإستقراء.
2ـ لا بد من تأسيس المعرفة – بما فيها تلك المعنية بتأسيس الخطاب من الخارج والداخل - طبقاً للإعتبارات المشتركة لا الخاصة، إذ كانت المشكلة التي واجهت الدوائر المعرفية للفكر الديني، ومنها الدائرة العقلية للنظام المعياري، هي أنها شيدت أنظمتها وفقاً للإعتبارات الخاصة لا العامة، وهذا ما جعلها تلاقي الكثير من المشاكل والإعتراضات، وكان أهمها إفتقارها للوثوق المعرفي.
3ـ إن الكشف المعرفي الخاص بمنطق قرائن الإحتمال والإستقراء؛ له صفة مزدوجة من السلب والايجاب. فهو من جهة يبعث على الوثوق المعرفي قبال ما يمارس من النشاط الذهني ضمن العقل القبلي. لكنه من جهة أخرى يفضي إلى نتائج متواضعة للكشف عن مضامين الخطاب، وبالتحديد أنه فعال لتحصيل العلم والقطع في القضايا المجملة لهذا الفهم دون التفصيل، ومن ذلك ما يتعلق بمقاصد الخطاب وأهدافه، كالذي بحثناه في (فهم الدين والواقع).
4ـ إذا كان من الممكن تحصيل العلم والقطع في الدليل اللفظي، فذلك يعني حصر المعرفة بحدود ما يدل عليه معنى الخطاب، أي أنه لا يدل في حد ذاته، وبغض النظر عن أي إعتبار آخر، على الكشف الخارجي للواقع والوجود، خلافاً للعقل، بما فيه العقل القبلي، إذ يفترض فيه عند القطع أن يكون كاشفاً عن الحقيقة الخارجية، مع لحاظ أن العقل القبلي لا يحتاج عند القطع إلى تأييد الواقع، كالحال مع مبدأ السببية العامة وما إليه. وبالتالي فإن القول: (إن الدليل اللفظي إن كان قطعياً فهو مرجح على الدليل العقلي) يتضمن عدداً من القضايا كما يلي:
أولاً: لا بد لهذا القول أن يفترض كون الدليل العقلي غير قطعي؛ كي لا يحصل التناقض.
ثانياً: يقتصر المقصود بالترجيح لهذا القول على معنى الخطاب من دون علاقة بالكشف عن حقيقة الموضوع الخارجي للواقع والوجود ، ما لم يُضف إلى هذا المضمون إعتبارات أخرى خارجية.
ثالثاً: إن الإقرار بقطعية كل من الدليلين اللفظي والعقلي؛ يعني أن كلاً منهما صحيح في ميدانه، فالمقصود من صحة الدليل اللفظي هو من حيث أصابة فهم معناه كما هو، عبر وجود التطابق بين ما هو لذاتنا وما هو في ذاته. أما صحة الدليل العقلي فهو من حيث كشفه عن حقيقة الموضوع الخارجي. وهذا يفضي بالنتيجة إلى كذب الدليل اللفظي وتهافت النص، وذلك عند مقارنته بحقيقة الموضوع الخارجي التي يكشف عنها الدليل العقلي. إذ يصبح الدليل اللفظي في هذه الحالة صحيح من حيث مفهوم النص، لكنه كاذب في كشفه عن حقيقة الموضوع الخارجي. وبالتالي لا تناقض بين القطعين المتعارضين للدليلين الآنفي الذكر، فلكل جهته الخاصة، خلافاً لما يُدّعى لدى الدائرتين العقلية والبيانية في النظام المعياري.
***
نشير - أخيراً - إلى أنه ليس هناك أدل على فشل الطريقة العقلية وتهافتها من الإعتراف الذي سجله الكثير من أصحابها المتأخرين، وهو إعتراف جرى لدى كل من أتباع المنطقين للدائرة العقلية، وأغلبهم كان ينتمي إلى منطق حق الملكية. فتارة كان هؤلاء يعبرون عن فشل طريقتهم بما هو معهود لدى الممارسة الكلامية، وأخرى بما هو صريح لدى الممارسة العقلية بإطلاق. فقد وُصفت هذه الممارسة بأنها مضرة تبعث على إثارة الشبهات، وتحريف العقائد ومحوها، وكما صرح الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين) أنه تبعاً لتبحّره في الكثير من العلوم ومنها علم الكلام فإن الطريق إلى حقائق المعرفة من الوجه الخاص بعلم الكلام مسدود، وهو وإن رأى أن هذا العلم لا ينفك عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، لكن على رأيه أن ذلك لا يكون إلا في النادر[9].
والذين تضرروا من الممارسة العقلية الصرفة لهذا العلم كثيرون، ويجمعهم الإعتراف بعجزهم عن الحصول على شيء من الدراية والحقيقة، رغم طول هذه الممارسة، وكل ما جنوه هو الندم على ما أصابهم من الشك وتضييع العمر، كالذي أشرنا إليه في عدد من المناسبات ضمن دراستنا (مدخل إلى فهم الإسلام).
[1] عبد الجبار الهمداني: فرق وطبقات المعتزلة، دار المطبوعات الجامعية، 1972م، ص81.
[2] أنظر الفصول الثلاثة الأخيرة من كتابنا: الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية.
[3] أنظر القسم الأول من كتابنا: منطق فهم النص. كذلك دراستنا: آليات قراءة النص الديني، مجلة المنهاج، عدد 30، 1424هـ ـ 2003م، ص91.
[4] شرح الأصول الخمسة، ص599ـ600. والزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، ج2، ص75ـ76.
[5] إبن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي، مصر، الطبعة الأولى، 1368هـ ـ1949م، ص50ـ51. وإبن رشد: تهافت التهافت، ص285. وصدر المتألهين: المبدأ والمعاد، مقدمة وتصحيح جلال الدين اشتياني، انجمن حكمت وفلسفه ايران، 1976م، ص423ـ424.
[6] لاحظ رأي الأشاعرة في كل من: اللمع، ص67ـ68. والتمهيد، ص266. ولمع الأدلة، ص101. والإقتصاد في الإعتقاد، ص72.
[7] الفخر الرازي: التفسير الكبير، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ج14، ص228.
[8] أنظر بهذا الصدد القسم الرابع من: منطق فهم النص.
[9] احياء علوم الدين، ضمن قواعد العقائد، الفصل الثاني. كذلك: شرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: فمن رام علم ما حظر عنه علمه).