يحيى محمد
تعد مسألة السببية وعلاقاتها في الطبيعة أهم مسائل الخلاف العقلي بين منطقي الحق الذاتي وحق الملكية ضمن مجال الوجود والواقع. فإذا كان منطق حق الملكية يميل إلى تفسير السببية طبقاً للعادة تبعاً لمقولة (لا فاعل في الوجود إلا الله)، الأمر الذي يتسق مع البداهة الأولية لهذا المنطق، فإن الأمر مع منطق الحق الذاتي مختلف، فطائفة من هذا الإتجاه اعتمدت في تفسيرها للسببية على منطق ذي علاقة بمفهوم (التوليد) كالذي فصّل الحديث عنه القاضي الهمداني في كتابه (المجموع المحيط بالتكليف). فمفهوم السبب عند الهمداني يتضمن معنى الواسطة؛ مشبهاً إياها بالآلة أو الأداة، فتارة يعبر عن الواسطة بأنها ذات السبب، وأخرى يعد السبب واسطة بين الفاعل المختار وفعله[1]. وعلى هذا المعنى يجوز حصول سبب من غير مسبَّب، فقد يقع عارض يمنع وجود المسبَّب رغم وجود السبب، كما يمكن أن يكون هناك مسبَّب من غير سبب، إذ يحدث المسبَّب إبتداءاً بفعل الفاعل المختار، وكذا قد يكون المسبَّب حادثاً بفعل السبب والذي يطلق عليه التوليد. وكما يقول الهمداني بهذا الصدد: «قد ذكرنا أن في أفعالنا ما لا يصح منا أن نفعله إلا بسبب، وفي أفعالنا ما يصح أن نفعله إبتداءاً وبسبب، وفيها ما لا يصح أن نفعله إلا مبتدأ دون أن يقع بسبب، فالضرب الأول هو الصوت والألم والتأليف، والضرب الثاني هو الإعتماد والكون والعلم، والضرب الثالث هو الإرادة والكراهة والظن والنظر، وما كان من باب الإعتقاد الذي ليس بعلم»[2].
وما يقصده الهمداني من (الإعتماد) هو أن يحصل المتولد في غير محل القدرة، كالذي يحدث في الحركات والظواهر النائية المنفصلة عنا وعن أي فاعل مختار، مثل ما يحصل من احراق النار التي تولد التفريق، وما يكون في الماء من الثقل ما يوجب النزول، ويسمى ذلك عند البعض طبعاً، ويطلق عليه لدى طائفة من المعتزلة (الإعتماد)، حيث أنه معلق على القادر، إذ يصح منعه من التوليد والإيجاب[3].
وفي جميع الأحوال لا ينفي الهمداني ما يصطلح عليه الفلاسفة بمبدأ السببية العامة، فهو يردّ كلاً من السبب والمسبَّب سواء كانا مقترنين أو منفردين إلى الفاعل المختار، وهو المتمثل بالمكلِّف والمكلَّف، ومن ذلك قوله: «إذا كان المبتدأ احتاج إلى فاعل لحدوثه، فالمتولد إذا كان حادثاً يجب أن يجري مجراه في الحاجة إلى المحدث، ولا يمكن أن يقال أن حدوثه واجب، لأنه إنما يراد بالوجوب الاستمرار»[4]. وهو ما يلزم عنه مضامين الحسن والقبح، سواء بفعل الفاعل للسبب أو بما قد يتولد عنه من المسبَّب، أو حتى من حيث فعل المسبَّب من غير سبب. وكل ذلك لا يتنافى مع مبدأ السببية العامة.
ويعترف الهمداني بأن قدرتنا لا تسمح لنا في أغلب الأحيان اتيان المسبَّب من غير سببه، خلافاً للقدرة الإلهية المطلقة التي يسعها ذلك مثلما يسعها فعل المسبَّب عن السبب بالتوليد. وعليه فإن هذا المعنى يختلف كلياً عن المعنى الخاص بعلاقة العلية التي يبشر بها الفلاسفة، ذلك «إن المتولد ذات منفصلة عن السبب، حادثة كحدوث نفس السبب، فأمكن أن يقال أنه حدث من جهة القادر، وموجب العلة ليس بأمر يحدث فتصبح أضافته إلى الفاعل، بل ليس ينفصل عن المعلول»، لذا فالمعنيان مفترقان[5]. فالمسبَّب أو المتولد مرتبط بالفاعل المختار حسب ما يفعله من السبب أو الواسطة، وهو بالتالي أولى أن يناط بفاعله من سببه[6]، لأن السبب واسطة بين الفاعل المختار وفعله، لذا لا يطلق على الفاعل موجباً، حيث الفعلية تنافي الايجاب، كما لا يقال عن السبب مولّد، لكون المولّد من أسماء الفاعل، والفعل ليس حادثاً بالسبب، وإنما حدوثه بالقادر أو الفاعل المختار، وبالتالي يصح القول أن ما احدث الفعل هو القادر بهذا السبب[7]. مما يعني أن للسبب تأثيراً على المسبَّب، وإن لم يكن هذا التأثير موجباً كالعلة بالنسبة إلى المعلول عند الفلاسفة. والغرض من هذا التحديد هو تنقيح قاعدة الحسن والقبح، حيث لا تصدق فقط على الأفعال الإبتدائية وإنما كذلك على ما يترتب عليها من متولدات ومسبَّبات.
هكذا أن المفهوم السابق للسببية والتوليد مفيد لأكثر من إعتبار: فهو من جهة لا يتعارض مع الضرورات العقلية، بإعتباره يحافظ على مبدأ السببية العامة القائل بأن لكل حادث لا بد له من «سبب» يوجده، أو بحسب تعبير هذا الإتجاه هو أن لكل حادث لا بد له من فاعل، إبتداءاً أو توليداً، ومن ذلك أنه يعتبر العلم بتعلق الفعل بفاعله من الضرورات العقلية، مثل تعلق الجواهر والأعراض كالروائح والألوان والطعوم بالخالق[8]. أما من جهة ثانية فهو يتسق تماماً مع البداهة الأولية للحق الذاتي، إذ يجعل من العلاقة بين الفعل والفاعل علاقة غير محتمة أو لزومية، وبالتالي فإنه يحفظ لنا إرادتنا وإختيارنا عندما تتولد عنهما الأفعال والمسبَّبات، فليس هناك ما يجبرنا ويلجئنا على الفعل، الأمر الذي تتصحح به صورة الحسن والقبح. ومن ذلك ما يقوله القاضي الهمداني: «إن الذم يتوجه على المتولد من الأفعال، كما يتوجه على المبتدأ، وذلك لأن أحدنا يذم على الكذب والظلم والقتل وغيرها، وكل هذه الأفعال تقع متولدة، فلو لم تكن حادثة من جهتنا لقبح ذمنا عليها»[9].
ويلاحظ أن فكرة هذا الإتجاه عن السببية تختلف عن فكرة الإتجاه الأول الذي حصر التأثير على الأشياء بالله دون سواه. فعلى الرغم من أن إتجاه الحق الذاتي يرى أن ما يقوله الأول ممكن تبعاً للقدرة الإلهية غير المتناهية، إلا أنه مع ذلك إعترض عليه بإعتباره يتنافى مع العدل وغرض التكليف، وهو أنه لا بد أن يكون للغير تأثير كي يتصحح الفعل البشري وما يستحقه من الثواب والعقاب طبقاً لمنطق الحق الذاتي. وهو يطلق على هذا التأثير إحداث الفعل، كإن يكون مصدر هذا الإحداث هو الله، أو الإنسان بما أحدثه الله فيه من قدرة. وبهذا يتصحح تكليفه وما يستحقه من جزاء. وهو لا ينكر - في هذا المجال - تأثير الأشياء بعضها على البعض الآخر طبقاً لمنطق التوليد والإعتماد وتبعاً لما أودعه الله فيها من قوى وخواص، ولو شاء لما كان لها هذا التأثير أو التوليد البتة، بل جعل ذلك من الأمور التي تتصحح بها معرفة المعجزة وإثبات النبوة، إذ لا تعرف المعجزة بأنها معجزة ما لم تكن خارقة للعادة[10]، ومن ذلك خرقها لخواص الأشياء التي هي عليها، أي مبطلة لعلاقة التأثير بين السبب والمسبَّب.
وهذا ما لا يقره الإتجاه الأول؛ لأن الفعل عنده محصور بالله، وأنه لا تأثير للأشياء ولا توليد للمسبَّبات، كما ليس هناك من قوى فاعلة، بل كل حالة إقترانية بين شيئين هي نتاج فعل الله، فلا عرض حادث إلا والله خالقه وفاعله، إتساقاً مع البداهة الأولية لحق الملكية، إلى الدرجة التي ذهب فيها بعض أصحاب هذا المنطق إلى إعتبار الإعتقاد بتأثير الأشياء بعضها على البعض الآخر يعد كفراً وبدعة، ومن ذلك ما قام به السنوسي في (المقدمات) بتأويل قوله تعالى: ((الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء)) (الروم/48)، فقد نفى وجود تأثير الرياح على الغيوم، لتضمّنه إثبات العلل الوسيطة، معتبراً مثل هذا الإعتقاد أصل الكفر والبدعة. وعليه عدّ العلاقة بين الرياح والغيوم ما هي إلا «إسناد مجازي» عقلي محض[11].
وبالتالي فإن عموم أتباع حق الملكية يختلف رأيهم في السببية عن أتباع الحق الذاتي، فالإقتران السببي بين الظواهر العرضية للطبيعة لدى الأول؛ هو مجرد إقتران دون أن يتضمن تأثيراً في العلاقة الإقترانية، في حين أنه لدى الأخير يتضمن هذا التأثير، فإحدى الظاهرتين العرضيتين تؤثر على الأخرى بقدرة الله، طبقاً لمنطق التوليد والإعتماد.
مع هذا فهناك من أصحاب منطق الحق الذاتي من قدّم تصوراً آخر يقترب بعض الشيء من التصور الفلسفي الوجودي. وقد نقل الأشعري في (مقالات الإسلاميين) عن المعتزلة بأنهم اختلفوا في السبب هل هو موجب للمسبَّب أم لا على قولين؟ فذهب أكثر المعتزلة المثبتين للتولد بأن الأسباب موجبة لمسبَّباتها[12]، وهو قول الفلاسفة. وعلى هذه الشاكلة جاء عن معمر بن عباد السلمي (المتوفى سنة 220هـ) أنه اعتبر الأعراض في الأجسام المادية من اختراعات الأجسام بحسب (الطبع)، كالنار التي تحدث الإحراق، والشمس التي تحدث الحرارة، والقمر الذي يحدث التلوين. كذلك ذهب الجاحظ إلى إثبات الطبائع للأجسام، فأثبت لها أفعالاً مخصوصة مثلما هو رأي الفلاسفة[13]. كما اعتقد أبو القاسم البلخي (المتوفى سنة 319هـ) بأن الأجسام مخلوقة من طبائع لا يمكن تغييرها بعد أن خلقها الله كما هي عليه، ومما استدل به قوله تعالى: ((وهو الّذي يرسل الرّياح بشراً بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد مّيّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون)) (الأعراف/57)، فاعتبر أن كثيراً من الأشياء قائمة على الطبع؛ إذ بيّن الله بأنه يُخرج الثمرات بالماء الذي ينزله من السماء، وهو أمر غير منكر، إنما المنكر - بنظره - هو من يقول بقدم الطبائع وأن الجمادات فاعلة، خلافاً لمن قال بأن الله هو الفاعل لهذه الأشياء، فهو تارة يفعلها مخترعة بلا وسائط، وأخرى بوسائط. وقيل أن أكثر أهل العدل أنكروا هذا القول عليه، وقالوا أن الله أجرى العادة بإخراج النبات عند انزال المطر مع قدرته على إخراج ذلك من غير مطر؛ لما تقتضيه الحكمة من وجوه المصالح الدينية والدنيوية[14].
ووقف مع إتجاه البلخي الشيخ المفيد من الإمامية، فذهب يقول ضمن عنوان (القول في الثقيل: هل يصح وقوفه في الهواء الرقيق بغير علاقة ولا عماد): «أقول إن ذلك محال لا يصح ولا يثبت، والقول به مؤدٍّ إلى إجتماع المضادات. وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وجماعة من المعتزلة وأكثر الأوائل، وخالفهم فيه البصريون من المعتزلة، وقد حكي أنه لم يخالف فيه أحد من المعتزلة إلا الجبائي وإبنه وأتباعهما». كما قال المفيد تحت عنوان: (القول في الجسم: هل يصح أن يتحرك بغير دافع): «أقول إنه لو صحّ ذلك بأن توجد فيه الحركة اختراعاً كما يزعم المخالف، لصح وقوف جبل أبي قبيس في الهواء بأن يخترع فيه السكون من غير دعامة ولا علاقة. ولو صحّ ذلك لصح أن يعتمد الحجر الصلب الثقيل على الزجاج الرقيق، وهما بحالهما، فلا ينكسر الزجاج، وتخلل النار أجزاء القطن، وهما على حالهما، فلا تحرقه. وهذا كله تجاهل يؤدي إلى كل محال فاسد»[15]. وما زال لهذا الإتجاه أتباع وسط الإمامية الإثنى عشرية، ومنهم السيد الخوئي والمفكر الصدر في عدد من كتبه[16].
والخلاف الحاصل بين أصحاب هذا الإتجاه والفلاسفة هو أن الأخيرين تصوروا بأن العلاقة بين المبدأ الأول والممكنات هي علاقة قائمة على الحتمية والايجاب، إذ يعدّ المبدأ الأول عندهم علة تامة من دون انتظار أمر آخر، فهو واجب من جميع الجهات بما في ذلك العلية[17]. والحال ليس كذلك لدى أصحاب الإتجاه السابق، لأن ذلك يعني عندهم نفي القدرة والإرادة رأساً، لكنهم مع ذلك يوافقون الفلاسفة على وجود الضرورة لعلاقات الطبيعة. ولا شك أن هذا الجمع بين نفي الضرورة من حيث الأصل، والإعتراف بها فيما بعد، يشكل ازدواجاً لا يخلو من إشكال، فنفي الضرورة من حيث الأصل يقتضي أن تكون العلاقة بين المبدأ الأول والكائنات علاقة أجنبية منفصلة، حيث يقوم المبدأ الأول بخلقها من لا شيء تبعاً لقدرته التامة، وهذا يعني أن مصدر هذه الموجودات هو العدم من غير أن يكون لها ارتباط حتمي بالحق تعالى، فلماذا تظهر الضرورة والحتمية فيما بعد؟ ولماذا لا يكون القادر على الخلق من لا شيء قادراً في الوقت نفسه على تبديل صفة العلاقة التي عليها الكائنات الموجودة دون تغيير لشروطها المادية. فالأمر في حد ذاته جائز، سواء بالنسبة للعلاقة الأولى الأصلية، أو بالنسبة للعلاقات اللازمة عنها، فكل ذلك يعني الخلق والتسوية من العدم، طالما أن الكائنات لا تحتفظ بشيء من الوجود المحتم كما يدعيه الفلاسفة.
وعلى العموم يلاحظ أن أصحاب منطق الحق الذاتي منقسمون على أنفسهم في الإعتقاد بين متأثر برأي الفلاسفة، رغم الخلاف الحاصل بين الفريقين كما لاحظنا، وبين صنف آخر يقابل ما عليه منطق حق الملكية. وقد يكون تصنيف المعتزلة إلى بصريين وبغداديين له شيء من العلاقة بهذا الإنقسام، كما قد تكون الإمامية أقرب إلى التصور الذي عليه البلخي أو البغداديون منه إلى البصريين. وكما رأينا فإنه مثلما كان بعض المعتزلة متأثراً بفكرة الفلاسفة عن السببية أو العلية، فإن الأشاعرة بدورها تقترب من التصور العرفاني في فهمها لكرامات الأولياء؛ بناء على فكرة العادة والخلق المباشر المستمر وأنه لا فاعل في الوجود غير الله. وهو أمر يجعلنا أمام تصورات عديدة مختلفة عن السببية.
[1] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص384 و402.
[2] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص391.
[3] المصدر السايق، ج1، ص102.
[4] نفس المصدر، ج1، ص384.
[5] نفس المصدر، ج1، ص382. وشرح الأصول الخمسة، ص389ـ390.
[6] نفس المصدر، ج1، ص382.
[7] نفس المصدر، ج1، ص402.
[8] شرح الأصول الخمسة، ص51 و90.
[9] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص383.
[10] شرح الأصول الخمسة، ص571.
[11] لويس غرديه وج. قنواتي: فلسفة الفكر الديني، تعريب صبحي الصالح وفريد جبر، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1967م، ج3، ص214ـ215، وج3، هامش ص271.
[12] مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، فقرة: واختلفوا في السبب هل هو موجب للمسبَّب أم لا؟
[13] الملل والنحل، ص29 و32.
[14] مجمع البيان في تفسير القرآن، ج4، ص276.
[15] أوائل المقالات، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (4)، ص129 و130.
[16] أبو القاسم الخوئي: محاضرات في أصول الفقه، حررها محمد اسحاق الفياض، مطبعة الاداب، النجف، ج2، ص92ـ93. ومحمد باقر الصدر: فلسفتنا، دار التعارف، بيروت، الطبعة العاشرة، ص208. والاسس المنطقية للإستقراء، دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، ص79ـ80. والإستقراء والمنطق الذاتي، ص44 وما بعدها. كذلك دراستنا: المهمل والمجهول في فكر السيد الصدر، قضايا إسلامية معاصرة، عدد 11ـ12، 2000م، ص154.
[17] صدر المتألهين الشيرازي: الشواهد الربوبية، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، مركز نشر دانشكاهي، الطبعة الثانية، ص37ـ38. وملا محمد جعفر اللاهيجي: شرح رسالة المشاعر، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، نشر مكتب الاعلام الإسلامي في طهران، ص221 وما بعدها.