يحيى محمد
من تجليات التضاد بين منطق الحق الذاتي، كما يتمثل في المعتزلة وأشباهها، وبين حق الملكية، كما لدى الأشاعرة؛ تلك المتعلقة بعالم الفقه والتشريع. إذ تفتح الاعتبارات المختلفة للبداهتين باباً من التعارض حول طريقة الاجتهاد في القضايا الفقهية وتشريع الأحكام. فبحسب اعتبارات الحق الذاتي ينبغي أن يكون الاجتهاد قائماً في الأساس على العقل دون التوقف عند حدود الخطاب الديني، وذلك لجميع قضايا الحقوق والمصالح والمفاسد القابلة للإدراك. أما بحسب اعتبارات حق الملكية فلا مجال للاجتهاد العقلي إلا ضمن ما يسمح به الخطاب الديني.
فمثلاً لا مجال للاجتهاد في ما لا نص فيه من القضايا، ولا مجال للإستعانة بالقياس وغيره، ما لم يكشف عنه الخطاب الديني. ورغم أن واقع التشريع الفقهي لم يلتزم حرفياً بهذه الإنعكاسات المنطقية الناتجة عن البداهتين الأوليتين لإعتبارات مختلفة، إلا أنه توجد مؤشرات للتعارض المتسق بين المذاهب التشريعية يمكن عدها مستلهمة من إنعكاسات التضاد بين الأصلين المولّدين.
ففي بعض دراساتنا عرفنا كيف ذهب المعتزلة والزيدية والإمامية الأصولية إلى الإعتقاد بأن العقل يدرك جملة من الواجبات السابقة لأحكام الخطاب الديني، مثل وجوب رد الوديعة وشكر المنعم ووجوب النظر ومعرفة الخالق وما إلى ذلك، الأمر الذي يناقض ما لجأت إليه الأشاعرة. إذ يتأسس هذا الخلاف على الاعتبارات المتعارضة بين الأصلين المولّدين. وهو ما جعل الأمر ينعكس على الصعيد الفقهي، إذ كان المتكلمون وبعض الفقهاء يعطون للعقل صلاحيات الكشف عن الحكم، فأقرت بعض المذاهب عدداً من القواعد الأصولية الفقهية التي يستعان بها عند عدم وجدان النص، مثل قاعدة البراءة الأصلية التي تُسند عادة إلى القاعدة العقلية (قبح العقاب بلا بيان)، وكذا مسائل الحسن والقبح العقليين ونفي الضرر المحتمل وما إليها.
وعلى خلاف هذه القواعد والمسائل، ثمة قاعدة التوقف والإشتغال ومسألة الحسن والقبح الشرعيين، وجميعها يعارض القواعد الأولى. وإذا كانت القواعد الأولى تتسق ومنطق الحق الذاتي، فإن أغلب القواعد الأخيرة هي مما تتسق ومنطق حق الملكية.
لكن من حيث الواقع الفقهي نجد تجاوزات لدى بعض أصحاب كلا المنطقين بما لا يتفق مع ما يلجأ إليه من البداهة الأولية أو الأصل المولّد. فالغزالي مثلاً، وهو القائل بمنطق حق الملكية، يعتقد بالبراءة العقلية قبل التشريع أو ورود السمع[1]، وهو موقف يناقض الأصل المولّد الذي تبنّاه. ومثله ما ذهب إليه ابن فورك، حيث اعتبر أن المجتهد الذي لم يعثر على دليل نقلي بعد التقصي؛ فله أن يرجع إلى ما تقتضيه العقول من براءة الذمة[2].
كذلك ما ذهب إليه ابن كنج وهو ينتمي إلى نفس المنطق، من أن العقل يدل على أن ما لم يتعرض له الشرع فهو باق على النفي الأصلي، أو نفي الأحكام، فكما قال: قد ثبت عندنا أن حجة العقل دليل، فإذا لم نجد سمعاً علمنا أن الله لا يهملنا، بل أراد بنا الرجوع إلى العقل فصرنا إليه[3].
وعلى هذه الشاكلة ذهب الإمام الصدر وعدد من أصوليي الإمامية إلى الأخذ بالقاعدة العقلية لإشغال الذمة لكل ما هو محتمل عقلاً، لكنهم من حيث النتيجة تمسكوا بالبراءة بسبب تسامح التشريع الديني. ولا شك أن تعويلهم على القاعدة العقلية لإشغال الذمة يناقض قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن ثم فهو يناقض البداهة الأولية للحق الذاتي التي تشترط ضرورة الإعلام.
والمعلوم أن الإعتماد على العقل في قضايا الفقه التي لم يرد فيها نص هو خاصة المذهب الإمامي الذي لم يتقبل الأخذ بموارد الرأي الظني الشائعة لدى الإتجاه السني، مثل القياس والمصالح المرسلة والإستحسان وغيرها من المصادر الظنية. لذلك فإن المتقدمين من المذهب الإمامي اعتبروا أنه ما لم يتم الحصول على الحجة الشرعية من خلال النص، فإن مآل الأمر الرجوع إلى الحكم العقلي، تعويلاً على الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، إذ تنص قاعدة الحسن العقلية بأن «كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً»[4]، استناداً إلى البداهة الأولية للحق الذاتي.
ويقف الشريف المرتضى على رأس قدماء الإمامية الذين دافعوا عن هذا المسلك لأصالة التشريع العقلي للقضايا الفقهية. فقد صرح، وهو بصدد إستدلاله على عدم جواز العمل بخبر الآحاد، إنه إذا لم يوجد دليل شرعي في المسألة فسيتوجب العمل بما يقتضيه الحكم العقلي[5]. وقال في هذا الصدد: «قد ثبت أن المنافع التي لا ضرر فيها عاجلاً ولا آجلاً في أصل العقل مباحة».
وطبق هذا الحكم العقلي على مورد نكاح المتعة، مستفيداً في ذلك من الكشف الواقعي الذي يفيد عدم وجود الضرر لهذا المورد. فقال: «إن سألت الدلالة على انتفاء الضرر عن هذا النكاح الذي فيه إنتفاع لا محالة، قلت: الضرر العاجل يعرف بالعادات والأمارات المشيرة إليها، ويعلم فقد ذلك، والضرر الآجل إنما هو العقاب، وذلك تابع للقبح، ولو كانت هذه المنفعة قبيحة مستحق بها العقاب لدلّ الله تعالى على ذلك، لوجوب إعلامه المكلَّف ما هذه سبيله»[6]. واتبعه في هذا المقال ابن ادريس في (السرائر)[7].
كما استفاد المرتضى من كشف الواقع لصالح الحكم العقلي، في مورد ادخال الضرر على البهائم، فقال: «إعلم أن ادخال الضرر على البهائم، المؤذية لنا منها وغير المؤذية، لا يحسن إلا بإذن سمعي، إلا أن يكون ذلك الضرر يسيراً، أو النفع المتكفل به لها عظيماً فيحسن من طريق العقل. فإن كثيراً من الناس أجازوا ركوب البهائم عقلاً من غير افتقار إلى سمع».
ثم قال: «وإذا تكفلنا لها بما تحتاج إليه من غذاء وديار ومصلحة ربما كانت لها فائدة لولا تكفلنا جاز أن ندخل عليها ضرر الركوب، لأنه يسير في جنب ما نتحمله من منافعها»[8].
وعلى هذه الشاكلة ذهب معتزلة البصرة إلى الإباحة. بل قيل ذهب إلى ذلك أغلب المعتزلة، وفي طليعتهم كل من أبي علي وإبنه أبي هاشم الجبائيين وأبي عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار الهمداني، وكذا من تأثر بهم كأتباع أبي حنيفة وغيرهم[9].
مع ذلك لا نجد هذا الإتساق لدى جميع من ينتمي إلى منطق الحق الذاتي، ومن ذلك أن الكثير من معتزلة بغداد والإمامية الإثنى عشرية اعتبروا أن الحكم العقلي المستقل، سواء قبل ورود النص، أو بغض النظر عنه، يدل على الحظر في قضايا فقه الإنتفاع بالأشياء. فقد انشطر العلماء إلى ثلاثة اتجاهات كما يلي:
الاتجاه الأول: ويقول بالحظر ما لم يدل على ذلك نص من الخطاب الديني، واليه ذهب الكثير من البغداديين كالكعبي وأتباعه، وطائفة من الإمامية، وجماعة من الفقهاء، ومنهم من ينتمي إلى منطق حق الملكية كأبي عبد الله الزبيري والأبهري. لكنهم مع ذلك اختلفوا، فمنهم من قال: كل ما لا يقوم البدن إلا به ولا يتم العيش إلا معه فهو على الإباحة، وما عداه على الحظر. أما البعض الآخر فقد ساوى بين الكل في الحظر[10].
الاتجاه الثاني: ويقول بالإباحة وهو مذهب أكثر المتكلمين من البصريين وكثير من الفقهاء، وهو الذي اختاره الشريف المرتضى من الإمامية، كما ذهب إليه بعض من ينتمي إلى منطق حق الملكية كأبي إسحاق المروزي.
الاتجاه الثالث: وهو قد بنى رأيه على مبدأ الوقف حتى يرد سمع من النص الديني، وقد ذهب إليه أنصار منطق حق الملكية، وعلى رأسهم الأشعري وأتباعه، وعنوا به انتفاء الحكم لا التردد فيه. فهي مسألة مبتناة على أن العقل المستقل لا يدل على قضية الحسن والقبح، وبالتالي كان لا بد من سماع الشرع، فإليه يعود الحكم، سواء بالإباحة أو التحريم، وبدون وروده فإن المتعين هو الوقف من غير تحديد حكم معين.
ويتسق هذا الموقف مع ما جاء به منطق حق الملكية، خلافاً لمن ذهب منهم إلى الحظر أو الإباحة.
لكن من الأشاعرة من قام بتوجيه رأي الذاهبين إلى الحظر أو الإباحة بما لا يتنافى مع الخط المتسق والمتمثل في الوقف، إذ اعتبر الزركشي أنهم ذهبوا إلى ذلك إعتماداً على الخطاب الديني لا العقل المستقل، فكما قال:
«إعلم أن من قال من أصحابنا بالحظر أو الإباحة ليس موافقاً للمعتزلة على أصولهم، بل لمدرك شرعي. أما التحريم فلقوله تعالى: ﴿يسألونك ماذا أحل لهم﴾ (المائدة/ 4) ومفهومه أن المتقدم قبل الحل التحريم، فدلّ على أن حكم الأشياء كلها على الحظر. وأما الإباحة فلقوله تعالى: ﴿خلق لكم ما في الأرض جميعاً﴾ (البقرة/ 29). فهذه مدارك شرعية دالة على الحال قبل ورود الشرع. فلو لم ترد هذه النصوص لقال هؤلاء الفقهاء: لا علم لنا بتحريم ولا إباحة، بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون: المدرك عندنا العقل ولا يضرنا عدم ورود الشرع»[11].
وممن ذهب إلى الوقف بعض المعتزلة[12]، والطوسي من الإمامية كما في (عدة الأصول)، إذ صرح بأن القضايا التي لم يرد فيها نص فطريقها العقل[13]، وهي بحكم هذا الأخير تكون على الوقف، ولا يمنع ذلك ما قد يدل عليه النص من الحظر أو الإباحة. ومن ثم فإن ما يقدّره العقل من الوقف لا يتنافى مع ما جاء به النص من الإباحة «بل عندنا الأمر على ذلك واليه نذهب، وعلى هذا سقطت المعارضة بالآيات»[14].
وهو المذهب الذي كان ينصره شيخ الطوسي أبو عبد الله المفيد[15]، ويُعدّ أقرب ما يكون إلى منطق حق الملكية، خلافاً لما انتهى إليه استاذه الشريف المرتضى من أن حكم العقل في الإنتفاع من الأشياء هو الإباحة لا الحظر ولا الوقف.
ومع أن الأصوليين من الإمامية كانوا يرون أنّ العقل قادرٌ على الحكم في القضايا التي لا نصّ فيها، سواء جرى حكمه وفق البراءة الأصلية أو من خلال الاشتغال والاحتياط؛ إلا أنّ المتأخرين منهم - منذ عصر الوحيد البهبهاني (المتوفى سنة 1206هـ) - أدركوا أنّ هذه القواعد ليست كاشفة عن حقيقة الحكم الشرعي، بل هي وظائف عقلية عملية غايتها إفراغ الذمّة وإبراؤها فحسب.
ووفقاً للمفكر محمد باقر الصدر فإن نواة اختمار هذه الفكرة بدأت بالظهور لدى المحقق جمال الدين، ثم نضجت وتبلورت لدى البهبهاني وتلامذته، وأطلقوا عليها اسم (الأصول العملية)[16].
وبذلك انفردت القضية العقلية المستقلة بالاندراج ضمن ما يُعرف بالحسن والقبح، أو ما يُعبَّر عنه بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وتتفرع عن هذه القضية قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، التي اعتمد عليها معظم الأصوليين، إذ يُستبعد عقلاً أن يعاقب اللهُ المكلَّف على ما لم يبيّنه له. وهي قاعدة راسخة في الوجدان العقلائي؛ فالناس لا يؤاخذ بعضهم بعضاً إلا ضمن حدود ما يتوفر لهم من العلم، وإلا فإن العقاب يُعدّ قبيحاً، الأمر الذي ينسجم تماماً مع منطق الحق الذاتي.
***
وإذا عدنا إلى الاتجاهات الثلاثة السابقة نجدها تتعارض في أدلتها العقلية. ورغم الانسجام الحاصل بين منطق الحق الذاتي وقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، إلا أن السجال الذي دار بين هذه الإتجاهات لم يكن معنياً بهذه النقطة الجوهرية.
فمن أبرز ما احتجّ به أصحاب مذهب الوقف أو الحظر إزاء الانتفاع بالأشياء التي لم يرد بشأنها نص، هو ما ثبت في العقول بأن الإقدام على ما لا يأمن المكلف قبحه، هو كالإقدام على ما يعلم بقبحه؛ تبعاً لقاعدة دفع الضرر المعلوم والمظنون عن النفس.
في حين أجاب أنصار مذهب الحلية: بأن المكلَّف يمكنه أن يأمن من قبح الإنتفاع بالأشياء؛ لأن القبح لا يتحقق ما لم تقترن به مفسدة. وإذا كانت هناك مفسدة؛ وجب على المولى تعالى إعلام المكلَّف بها، وإلا غدا التكليف قبيحاً. فما لم يعلمه بذلك؛ دلّ على أن الإنتفاع حسن لا قبيح، وهو ما يلزم عنه الإباحة.
لكن أورد بعضهم اعتراضاً على هذا الجواب، ومفاده أنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بشك المكلَّف، وأن المفسدة قد تكمن في إعلامه تفصيل الحكم، لذا يقبح هذا الإعلام، وتكون المصلحة في الوقف والشك[17].
غير أن جواب القائلين بالحلية ليس صحيحاً، وعليه يزول الاعتراض الذي طرحه القائلون بالوقف. فعدم إعلام المولى للمكلَّف بمفسدة الشيء لا يُستنتج منه إثبات الحسن ولا القبح، بل ما يعنيه هو عدم جواز المؤاخذة على فعل الإنتفاع به عقلاً ونصاً. فالعقل هنا لا يشرّع الحكم إن كان حلالاً أو حراماً، حسناً أو قبيحاً، بل يحدد فقط ما يبرئ الذمة، كما قرره المتأخرون من الأصوليين، وعلى رأسهم وحيد الدين البهبهاني. وهو ما يعني أن الإقدام على القبيح دون العلم بقبحه لا يُعدّ قبيحاً، ومن ثم لا يلزم عنه الحظر والإحتياط.
فبحسب منطق الحق الذاتي، إن من واجبات المكلِّف أن يبيّن للمكلَّف ما عليه فعله أو اجتنابه، متى ما انتفت موانع البيان، بما في ذلك الإعلام بالحظر أو الوقف أو الاحتياط، ودونه يسقط التكليف. وسبب ذلك هو أن عدم الإعلام يجعل المكلِّف مخلاً بواجبه، كما نلحظ ذلك في الشاهد حين يُقاس على الغائب. فالسيد لا يعاقب عبده على عدم إتيانه بشيء ما لم يُبلغه بذلك، والأمر يصدق في الغائب أيضاً، رغم أن الأشياء تظل على حالها بما تتضمنه من مصلحة ومفسدة، أو حسن وقبح، فكل ذلك لا يفي بتحقق التكليف ما لم يشترط فيه الإعلام.
هذا إذا كنّا نفكر ضمن دائرة الحق الذاتي، أما إذا جرى التفكير وفق اعتبارات حق الملكية، فالصورة تختلف. لذلك نجد التناقض واضحاً لدى من ينتمي إلى دائرة الحق الذاتي حينما يذهب إلى الحظر أو الإحتياط، وكأنه يخلط بين الاعتبارات المتناقضة لمنطقين متباينين لا يجتمعان: منطق الحق الذاتي ومنطق حق الملكية.
وعلى سبيل المثال، ما تبناه المفكر الصدر من مسلك أطلق عليه (حق الطاعة)، إذ ذهب إلى نفس الإتجاه القائل بالحظر والإحتياط ضمن الإتجاهات الثلاثة السابقة. واستدل بمثل ما استدل به اتجاه الحظر القديم، حيث عوّل على الحظر باعتبار أنه لا يجوز إستخدام ما هو عائد إلى ملكية الغير إلا بإذنه، مثل علمنا بقبح التصرف فيما لا نملكه في الشاهد[18]. كما استدل بدليل آخر سبق أن عوّل عليه القدماء ممن ذهب إلى الحظر والوقف، وهو عدم الأمان من الوقوع في الضرر لأيّ شيء جديد يراد منه الإنتفاع، فالتحرز من المضار واجب في العقول، وإذا كان ذلك واجباً لم يحسن الإقدام عليه، كإن يحتمل كون الشيء المنتفع به ضاراً لا نافعاً، حيث لا يُعلم إن كان سماً - مثلاً - أو غذاء.
وقد ناقش القدماء من الإتجاه الآنف الذكر أولئك الذين عولوا على التجربة لمعرفة النافع من الضار، من خلال العرض على الحيوانات، فمنعوا هكذا تجربة واعتبروها غير كافية لتحصيل العلم، لأن من الأشياء ما ينفع الحيوان ويكون له غذاء، مع أنه قد يكون للإنسان سماً. فالظب - مثلاً - تأكل شحم الحنظل وتغتذي به، في حين لو أكله الإنسان لهلك في الحال. وكذا تأكل النعامة النار وتستمرئها[19]، ولو أكل ابن آدم ذلك لهلك في الحال. أيضاً فإن الفأرة تأكل البيش وتعيش عليه[20]، ورائحة ذلك تقتل الإنسان[21].
والواقع إن مسلك المفكر الصدر في حق الطاعة، وقبله مسلك القائلين بالحظر وفق الملكية، إنما يتجه نحو الجهة التي يذهب إليها الأشاعرة في تبنيهم لمنطق حق الملكية. فرغم إعترافه بمبدأ الحسن والقبح العقليين، إلا أنه يستبعد في الوقت ذاته قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، لكنه لا يعزل العقل - بذلك - عن التشريع طالما يُفتي بلزوم الإحتياط وإعطاء الطاعة حقها، خلافاً لما أفضى إليه الأشاعرة من إبطالهم للعقل في التشريع بمنطق العقل ذاته.
ويشابه التبرير الموظّف لدى الصدر في بعض فقراته، ذلك المستخدم عند الأشاعرة، وهو أن لله ملكية مطلقة تفترض حق الطاعة التامة، حتى في موارد المحتملات والموهومات.
فالأشاعرة يجعلون الحق مطلقاً لله ويتوقفون عن التشريع في الأحكام عقلاً ما لم تأذن بذلك البيانات الشرعية الصادرة عن المالك المطلق. وقريب من ذلك ما فعله الصدر، فهو من حيث الواقع العرفي أقرّ بصدق قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) وفقاً للمرتكز العقلائي، إلا أنه رأى وجود فارق بين الشاهد والغائب، وهو أن الله مالك حقيقي، مثلما أنه منعم حقيقي، الأمر الذي يجعل مولويته حقيقية تختلف عن الحاصل في الشاهد المتعلق بالواقع العرفي، وهذا ما يعطيه الحق في معاقبة المكلَّف لعدم الإحتراز والإحتياط، وإن لم يرد عنه البيان. فللمالك الحقيقي مطلق الحق في الطاعة حتى في موارد القضايا المحتملة والموهومة.
وكما قال: «هكذا يتخلص أنه لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا موجب للذهاب إلى البراءة العقلية في الشبهات، بل العقل يحكم بلزوم الإحتياط فيها جميعاً، لأن حق إطاعة مولانا الحقيقي ثابت بنحو مطلق ما لم يحرز إذن المولى في المخالفة فيرتفع موضوع الحق المذكور. ومن هنا يكون الأصل الأولي في الشبهات هو الإحتياط ولا نخرج عنه إلا بمقدار ما يثبت من الترخيص الشرعي والحكم الظاهري في موارد الأمارات أو الأصول الشرعية». وقال أيضاً: «المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات، كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية».
وينطبق الأمر السابق حتى على المشكوكات والمحتملات من التكاليف، بل ويمتد حتى إلى التكاليف الموهومة، لسعة مولوية المولى الحقيقي[22]. كما أنه ينطبق حتى على الشبهات الموضوعية، وإن كان مسلك حق الطاعة محكوم لأدلة البراءة الشرعية، حيث يحكم العقل بالإحتياط ما لم يرد ترخيص شرعي[23].
والتشابه بين موقف الصدر وموقف الأشاعرة واضح تماماً، مع وجود بعض الفوارق، فالأول يستند إلى مبرر الملكية المطلقة لإفتراض منطق حق الطاعة، كما ويبرر هذا المنطق بحجة عقلية. كذلك أن الأشاعرة تستند بدورها إلى مبرر تلك الملكية لإفتراض منطق ما يريده الحق على نحو مطلق من غير قيود، كما تبرر ذلك بحجة عقلية، وهي أن الله منفرد في ملكه وخلقه، الأمر الذي يختلف فيه الحال عن الشاهد، لإفتقاره إلى الإنفراد والملكية الحقيقية، وهو نفس التبرير العقلي الذي لجأ إليه المفكر الصدر.
لكن مورد الإختلاف بينهما هو أن ما يناسب منطق الأشاعرة هو القول بالوقف، بمعنى أن العقل لا يشرع شيئاً، سواء كان ذلك على نحو البراءة الأصلية، أو على نحو الإحتياط، ومن ثم لا مجال للقول بالحساب والعقاب. في حين إن العقل لدى مسلك حق الطاعة يتلبس بالتشريع الفعلي، وهو حكمه بإشغال الذمة ولزوم الإحتياط وما يترتب على ذلك من القول بالحساب والعقاب.
يبقى أن القول بالمولوية وحق الطاعة، حتى في دائرة المحتملات والموهومات، يثير عدداً من الإشكالات على صعيدي المكلِّف والمكلَّف.
فعلى صعيد المكلِّف، فإن إدراج هذه المحتملات ضمن دائرة التكليف، مع إخفائها عن المكلَّف، يفضي إلى ما يُعرف بمنطق (المصالح الخفية). إذ يُفترض، في هذه الحال، وجود مصلحة خفية اقتضت من المكلِّف إخفاء التكليف، وبالتالي لا بد من محاسبته على تركه. ولا ريب أن هذا المسلك غير معقول، بل مردود على الصعيد الأخلاقي تبعاً لمنطق الحق الذاتي، إذ كيف يمكن تصور وجود مصلحة خفية تبرر للمكلِّف الامتناع عن إعلام المكلَّف، مع إخفائه التنبيه إلى وجوب الإحتياط وإشغال الذمة؟!
وقد أكّد القرآن هذا المقتضى العقلي في قوله تعالى: ﴿رسلاً مبشرين ومنذرين لئِلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً﴾ (النساء/ 165)، والمعنى بيِّن، وهو أن الحجة لا تتم على الخلق إلا بعد التبليغ، وإلا انعكست الحجة على المكلِّف لا على المكلَّف، وهو ما ينقض أصل المولوية.
أما من جهة المكلَّف، فلتصوّر حال من لم يصله التشريع الإلهي، كأهل الفترة، كيف يمكنه التحرك في عالم يموج باحتمالات لا متناهية من التكاليف المحتملة؟! فعدم بلوغ الحجة يجعل المكلَّف محاطاً بشبكة لا نهاية لها من التكليفات الممكنة، مما يورثه العجز عن العمل، ويوقعه في ورطة (التكليف بما لا يطاق)، وهو ما لا يقبله العقل ولا الشرع، تبعاً لمعيار الحق الذاتي.
وحتى لو قيل إن هؤلاء مخاطبون بشرعٍ سابق، كما قد يُستفاد من قوله تعالى: ﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ (فاطر/ 24)؛ فذلك لا يغير من طبيعة الإشكال، سواء من حيث الإفتراض - وفرض المحال ليس بمحال - أو من حيث الواقع، وهو أن من الناس من لم يصلهم التبليغ. لذا فالإشكال وارد وثابت، عقلاً وشرعاً.
[1] المستصفى، ج1، ص100 و217ـ218.
[2] البحر المحيط، فقرة 1533.
[3] المصدر السابق، فقرة 1527.
[4] أصول الفقه، ج2، ص 209.
[5] رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص20.
[6] المصدر السابق، ج2، ص127.
[7] السرائر، ج2، ص618. أيضاً: محمد حسين كاشف الغطاء: أصل الشيعة وأصولها، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، الطبعة السادسة، ص126.
[8] رسائل المرتضى، ج2، ص372ـ373.
[9] البحر المحيط، فقرة 88.
[10] المصدر السابق، فقرة 88ـ89.
[11] المصدر نفسه، فقرة 89.
[12] المصدر نفسه، فقرة 89.
[13] ومن ذلك قوله: «الكلام في الحظر والاباحة فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل» (عدة الأصول، ج1، ص41).
[14] عدة الأصول، ص750. والفوائد المدنية، ص238ـ239.
[15] عدة الأصول، ص296. والمفيد: شرح عقائد الصدوق، وهو ملحق خلف أوائل المقالات، نشر مكتبة الداوري، قم، ص244. والطبعة الحديثة بعنوان: تصحيح الإعتقاد، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (5)، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م ـ1414هـ، ص143.
[16] محمد باقر الصدر: بحوث في علم الأصول، تحرير محمود الهاشمي، المجمع العلمي للإمام الصدر، الطبعة الأولى، 1405هـ، ج5، ص11. ويبدو أن ما قصده المفكر الصدر من المحقق جمال الدين هو الشيخ حسن العاملي صاحب كتاب معالم الدين (والمتوفى سنة 1011هـ). لكن إذا كان قصده المحقق محمد الخونساري (المتوفى سنة 1125هـ) فالملاحظ أنه سبقه في ذلك الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ).
[17] عدة الأصول، ص296. والفوائد المدنية، ص233ـ234.
[18] عدة الأصول، ص297. والفوائد المدنية، ص235.
[19] قيل إن من عجائب النعامة أنها تبتلع الجمر فيكون جوفها العامل في اطفائه فتغتذي به وتستمرئه. وهي أيضاً تبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء. وقيل أيضاً إنه إذا حميت صنجة مائة درهم من الحديد حتى تحمر ورميت إليها فانها تبتلعها وتستمرئها (محمد بن موسى الدميري: حياة الحيوان الكبرى، منشورات الرضي، قم، الطبعة الثانية، 1368هـ، ج2، ص362ـ363. كما لاحظ خلف هذا الكتاب: زكريا بن محمد القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، ص286).
[20] البيش هو نبات عشبي معمر وسام قاتل يعيش في المناطق الجبلية، ويستعمل في الطب كدواء لعلاج التشنج (المنجد في اللغة، دار المشرق، بيروت، الطبعة الخامسة والثلاثون، 1996م، مادة بيش). وقيل عنه إنه نبات بأرض الصين يؤكل في تلك البلاد وهو أخضر، فإذا يبس كان قوتاً لأهل الصين دون أن يضرهم منه شيئاً، لكن لو بعد عن هذه البلاد ولو مائة ذراع واكله آكل لمات من ساعته (حياة الحيوان الكبرى، ج1، ص573).
[21] عدة الأصول، ج2، ص750ـ751. والفوائد المدنية، ص239ـ240.
[22] بحوث في علم الأصول، ج5، ص28ـ29 و42 و24. كذلك: محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الرابعة، 1417هـ، ج3، ص35 وما بعدها.
[23] المصدر السابق، ج5، ص79.