يحيى محمد
لدى التصورات العقلية في علم الكلام، هناك شروط تصحح عملية التكليف وتعد من الألطاف الواجبة على المكلِّف، أبرزها: الإعلام والتمكين والإقدار والثواب والعقاب.
ويقف شرط الإعلام على رأس شروط التكليف المناطة بحق المكلَّف على المكلِّف. فما لم يتحقق الإعلام لم يحصل اللطف والعدل، إذ لا بد أن يعلم المكلَّف ما يُكلّف به. والإعلام على رأي القاضي الهمداني تارة يكون بخلق العلم؛ بأن يُحدثه الله في المكلَّف ليعرف تكليفه، وهو ما يطلق عليه العلم الضروري، وتعريفه - على نحو الإجمال – أنه ما لا يمكن نفيه عن النفس بوجه من الوجوه[1]. وأخرى يكون - الإعلام - بنصب الدلالة، ليستدل بها المكلَّف ليعلم تكليفه. وفي كلا الحالين يجب على المكلِّف أن يهيء للمكلَّف التمكين من المعرفة التي تخص التكليف.
ويعد العلم الضروري مقدماً على التكليف، ويجري مجرى التمكين والإقدار واللطف، حيث لا يتم التكليف إلا بهذه الأمور جميعاً، فلا بد من العلم الضروري لتنشأ عنه سائر العلوم المكتسبة التي يتأسس عليها التكليف. فهناك نوعان من المعرفة يجب أن يتقدما على التكليف، أحدهما ما يكمل به العقل، والثاني هو أصول الأدلة، وهي علوم ضرورية غالباً ما لا ينفك عنها كمال العقل. والقول بضرورة هذه الأصول يعود إلى تجنب الوقوع في التسلسل الباطل، إذ لو لم تكن للأدلة أصول للزم أن يحتاج كل دليل إلى دليل آخر، مما يؤدي إلى ما لا نهاية له من الأدلة، وهو باطل[2]. وفي المجال القيمي، يعتبر هذا الإتجاه أن أبرز العلوم الضرورية هي العلم بوجوب رد الوديعة وشكر المنعم والإنصاف وقبح الظلم والكذب والعبث وما إلى ذلك[3].
واذا كان تمكين الإعلام مما لا غنى عنه في التكليف، وهو من الألطاف والعدل، فإن تمكين الإقدار هو أيضاً مما لا غنى عنه، فبدونه يصبح المكلَّف مجبراً لا يقوى على التكليف، وهو ما يتنافى مع مبادئ التكليف من اللطف والعدل. وهنا تتصحح مسألة القضاء والقدر لدى أصحاب هذا المنطق، بنفي كل من الإلجاء والجبر في العملية التكليفية، وأن للإنسان قدرة مخلوقة من قبل الله تعالى، لكنها لا تبعث على الإلجاء في الفعل، فالإنسان حر في إرادته وإختياره ليستقيم بذلك التكليف وما يترتب عليه من الجزاء في الثواب والعقاب، ولولاه ما صحّ التكليف ولا الأمر والنهي ولبطلت الرسالات والجزاء من الثواب والعقاب، ولانتفت حجة الله على العباد.
ولدى الشريف المرتضى أنه لا يصح أن تكون أفعال العباد مخلوقة من قبل الله تعالى، وإلا لما صحّ الذم والمدح ولإنتفى غرض التكليف، بل لما صحّ حصول الأمر والنهي، مثل أوامره بالطاعة والإيمان والعبادة وعمل الخير وما إليها، إذ لو كان العباد مجبرين لما صحّ أن يخاطبوا بالأمر والنهي. وقد أكّد بأن العباد وإن لم يكونوا مجبرين على أفعالهم إلا أن هذه الأفعال غير مفوضة إليهم بإطلاق، فهم ليسوا مستقلين بانفسهم، إذ لو أن الله لم يقدرهم ويمكنهم بالآلات وغيرها لما تمكنوا من تلك الأفعال[4].
وبحسب القاضي الهمداني تعد هذه القضية أساسية، فبدونها لا يمكن الإستدلال على وجود الله أو الصانع. فقد رفض جواز الإستدلال بالسمع حول مسألة خلق أفعال الإنسان، كردّ على الأشاعرة، معتقداً أن صحة السمع تبنى على كون الله حكيماً عادلاً لا يفعل القبيح، كما أن إثباته تعالى يعتمد على إثبات الشاهد محدثاً حتى يصح قياس الله عليه، ومن أنكر إحداث العباد لأفعالهم فقد منع في رأيه الإستدلال على الله أو الصانع[5].
مع هذا فإن أصحاب هذا الإتجاه لم يقفوا على حقيقة ما تتضمنه القضية الأخيرة، سواء من حيث ما تؤكده النصوص القرآنية من صور متعارضة يكمل بعضها البعض الآخر، أو من حيث ما يبديه الواقع من حقائق تتطابق مع تلك النصوص في تأكيد الحالتين من الجبر والتفويض، أو حتى من حيث ما تبديه بعض نصوص الحديث التي يستشهد بها جماعة من اتباع هذا المنطق ومنهم رجال الشيعة بطريقة غير صحيحة، ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق قوله: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين»[6]. فقد ذهب علماء الشيعة إلى إتجاه لا يختلف عن الإتجاه الذي ذهب إليه المعتزلة في نفي الإلجاء جملة وتفصيلاً، وأخذوا يأولون هذا الحديث رغم أنه يتسق مع مضامين النص القرآني وشواهد الواقع. ونستثني من علماء الإمامية المرحوم مرتضى مطهري الذي تناول موضوع القضاء والقدر بطريقة أقرب إلى الواقع منه إلى ما كان يمارس تحت هيمنة علم الكلام. ففي كتابه (الإنسان والقدر) عالج القضية معالجة اتخذ فيها من النص محوراً مركزياً للفهم والتأسيس، خلافاً لما اعتاد عليه المتكلمون من الأعراض عن ظواهر النصوص لصالح النظر القبلي المجرد، ومنهم متكلمو الإمامية الإثنى عشرية. وقد اعتبر الشيخ مطهري أن خطأ هؤلاء الأخيرين هو أنهم كانوا تحت تأثير كل من المعتزلة والأشاعرة[7]. ورغم أنه لم يشر إلى ما للواقع من أهمية في حل المشكل المبحوث؛ لكننا نعتقد بأن السلوك الذي اتبعه والعلاج الذي وضعه إنما كان بتوجيه الواقع ولو بشكل لا شعوري. فقد فسّر حركة الإنسان ضمن إعتبارات السنن الإجتماعية، مشيراً إلى صراحة النص في التنبيه على الأثر الإلهي في السلوك البشري الخاص بالتكليف، وهي النقطة التي لم يقرّها كل من االمعتزلة والإمامية لإعتقادهم بأنها تخالف العدالة الإلهية، لما تؤدي إليه من الإلجاء أو الجبر، لهذا فقد عملوا ما بوسعهم لتأويل الآيات الصريحة.
[1] شرح الأصول الخمسة، ص49.
[2] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص11 و14 و17.
[3] أبو جعفر الطوسي: عدة الأصول، تحقيق محمد رضا الأنصاري القمي، مطبعة ستارة، قم، الطبعة الأولى، 1417هـ، ج2، ص759.
[4] مجموعة رسائل الشريف المرتضى، اعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف أحمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ، ج1، ص138، وج3، ص191.
[5] نظرية التكليف، ص343ـ344. والمجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص419.
[6] أبو جعفر الصدوق: الإعتقادات في دين الإمامية، عن دليل برنامج المعجم العقائدي الإلكتروني، الاصدار الأول، 1422هـ ـ2001م، ص10.
[7] مرتضى مطهري: الإنسان والقدر، ترجمة محمد علي التسخيري، ايران، 1404هـ.