يحيى محمد
بحسب اعتبارات الحق الذاتي هناك تكافؤ في الحقوق والواجبات بين طرفي العلاقة التكليفية، فحيث هناك واجبات إلهية، ففي قبالها توجد حقوق إنسانية، والعكس بالعكس. أما فيما يخص إعتبارات حق الملكية فالأمر مختلف، فمادام هناك إنفراد في الملك فهناك واجب في الطرف المقابل؛ بقدر ما للملكية من سلطة وحقوق من غير عكس. إذ تتحدد الحقوق في طرف، والواجبات في طرف آخر. لذلك سنتحدث عن الحقوق الإلهية، وفي قبالها الواجبات الإنسانية، طالما أنه لا يوجد ما يطلق عليه واجبات إلهية وحقوق إنسانية كما يرد لدى منطق الحق الذاتي.
تتمثل نظرية السلطة الإلهية بالمحور الذي تدور حوله رحى منطق حق الملكية، وذلك إستناداً إلى التفرد المطلق للإله، فلهذا الأخير مطلق الحق والمشيئة فيما يفعل ويريد دون قيد أو شرط، خلافاً لما لدى تفكير منطق الحق الذاتي. وبذلك تتبين مظاهر الإختلاف والتعاكس في الشروط والقيود بين الإتجاهين. فإذا كان منطق الحق الذاتي قائماً على نفي الشروط والقيود الخارجية التي تبرر فكرة الحق وما يترتب على ذلك من واجبات، فإن نتائج هذه العملية مقيدة بهذه الشروط والقيود، فالحقوق والواجبات التي تلوح المكلِّف هي غير تلك التي تلوح المكلَّف، اذ يتعين على كل منهما حقوق وواجبات بحسب ما تفرضه شروط نظرية التكليف، شبيه بما عليه صيغة التعاقد بين المتعاقدين من البشر. وعلى العكس من ذلك فيما يخص إتجاه السير لدى منطق حق الملكية، فالحق مشروط ومقيد بالملكية، وهو بهذا ليس له صفة ذاتية إطلاقية كالذي رأيناه لدى المنطق الأول، ومع هذا فإن نتائج الحق المشروط هي نتائج غير مشروطة أو مقيدة، على العكس مما سار عليه الأول. إذ تتجه العملية مع (حق الملكية) باتجاه واحد إطلاقي ليس فيه نمط التعاقد ولا صيغ الشروط والقيود، إذ كل ما تحكم به السلطة الإلهية يعد حقاً، فرغم أن تحديد (الحق) هو تحديد مقيد في الأصل، إلا أن نتائج هذا التحديد هي نتائج تتعالى على التقييد والإشراط.
ونفس الشيء نراه حول موقف هذا الإتجاه من العقل في المجال المعياري، فمع أن العقل هو أساس تبرير قيد الملكية لمنطق الحق، لكن هذا الأساس سرعان ما يختفي ليترك الساحة لغيره، أو أنه يشهد على عدم صلاحيته لتحديد أي شيء عملي، طالما يعمل على إبطال نفسه بنفسه. وهو أمر مفهوم تماماً، إذ لو لم يفعل ذلك لوقع في التناقض الصريح، لكونه سلّم مفاتيح العمل لغيره مطلقاً، وبالتالي فإن مزاحمته لهذا الغير تفضي إلى التناقض. وهو أمر يختلف عما لدى المنطق الأول الذي اعتبر الحق ذاتياً غير مشروط، رغم أن نتائجه محددة بالشروط والقيود.
على ذلك ليس هناك ما يمكن تطبيقه تبعاً لقاعدة قياس الغائب على الشاهد، أو لنقل أن الأدلة العقلية التي تبررها هذه القاعدة غير مقبولة؛ بإعتبارها تتعارض مع المنطق السابق. بل يمكن القول أن العقل العملي أو القيمي لدى هذا المنطق يعتمد على إعتبارات غير تلك التي يعتمدها العقل النظري الإستدلالي، فإذا كان الأخير مقبولاً، وهو في ذلك لا يختلف عن العقل الذي يعتمد عليه أصحاب منطق الحق الذاتي، فإن الحال مع العقل العملي أمر مختلف، طالما أن مبدأ حق الملكية لا يجيز له الحكم والإستدلال، مثلما لا يجيز له الإعتماد على قاعدة قياس الغائب على الشاهد، فكل قياس يوقع ذلك المنطق في التناقض، وكل عقل يقام يفضي إلى نفي ذاته، وبالتالي فمن حيث المرجعية يكون العقل العملي هو غير العقل النظري لدى هذا المنطق.
وبعبارة أخرى أنه إذا كان العقلان النظري والعملي لدى منطق الحق الذاتي يسيران معاً باتجاه واحد من التوازي، وأنهما مقبولان في هذا المسار، وأن قاعدة قياس الغائب على الشاهد تتخذ مبررها العقلي في كلا الحالين، فإن الأمر مع منطق حق الملكية مختلف. فالاتجاه الذي يسير فيه العقل النظري ليس نفس الإتجاه الذي يسير فيه العقل العملي، فنتائج الأول مقبولة خلافاً للآخر، لأن نتائج الأخير تطعن في أصل الفكرة التي بنى العقل عليها منطقه، وهو حق المكلية، وبالتالي فقد وضع العقل مبدأ تخليه عن الميدان لمجرد هذه الفكرة، وذهب دون رجعة.
وعموماً فإن الفهم الذي يقيمه منطق الحق الذاتي للحقوق والواجبات بين طرفي العلاقة التكليفية هو فهم قائم على العرف العقلائي الإنساني بما يتضمن من علاقة بين السيد وعبده. وليس الأمر كذلك مع الفهم المبتنى على منطق حق الملكية، فالحقوق والواجبات لدى الأخير لا تقوم على الإعتبار السابق، لأن الصلة بين السيد وعبده لا تتضمن الملكية الحقيقية، وبالتالي لا يوجد شاهد يمكن أن تطبق عليه العلاقة التكليفية بين الخالق والمخلوق، فليس هناك غير مالك واحد حقيقي هو الله. لذلك فإن هذه النظرية غير مقتبسة من العرف العقلائي، ولا مقتبسة مما يدل فيه الشاهد على الغائب، خلافاً لما عليه المنطق السابق.
وقد تكون قاعدة قياس الغائب على الشاهد التي يتوقف عليها أغلب نتاج الدائرة العقلية للنظام المعياري هي ما دعت الفارابي إلى إتهام العقل لدى الكلاميين بأنه على شاكلة ما يؤمن به عامة الناس خلافاً لما لدى الفلاسفة. فبحسب نظره أن آراءهم العقلية مستمدة من آراء العامة رغم دعواهم بأن العقل الذي يتحدثون عنه هو كالذي يتحدث عنه ارسطو[1].
لا شك أن النتائج التي تترتب على فكرة حق الملكية كثيرة، أبرزها ما يخص إعتبارات حسن الأفعال وقبحها والتي لا تقوم على قاعدة قياس الغائب على الشاهد، لإختلاف طبيعة السلطة الإلهية ذات الملكية المطلقة عن غيرها من السلطات الإعتبارية. وهو ما يفضي إلى اعتبار الحسن والقبح من الخيالات العقلية المنزوعة على الأشياء والموهمة بأنها تحدد من مشيئة الله المطلقة.
بهذا التفريق الذي نهجه منطق حق الملكية يتحدد معيار حسن الأفعال وقبحها. فهو لا يرى هذه القضايا راجعة إلى طبيعة الفعل وصفاته وأحواله كالذي عليه منطق الحق الذاتي، بل يراها تعود إلى ما حسّنه الله وقبّحه عبر الخطاب الديني.
وبعبارة أخرى أن مآل التكليف عائد إلى السمع دون العقل، وأن العقل بذاته لا يدل على تحسين شيء ولا تقبيحه، وأنه لا حظر ولا إباحة، ولا يعرف شيء من ذلك حتى يرد السمع فيه. فالعقل آلة تدرك بها الأشياء، كما يدرك بها الحسن والقبح عن طريق السمع[2]. وكما قال إمام الحرمين الجويني: «المعني بالحسن ما ورد الشارع بالثناء على فاعله، والمراد بالقبيح ما ورد الذم بذم فاعله»[3]. وبعبارة أدق ما صرح به الإمام أبو نصر بن القشيري في (المرشد) من أن مقولة (لا يدرك الحسن والقبح إلا بالشرع) مجازية، بإعتبارها توهم أن الحسن زائد على الشرع وليس الأمر كذلك، فإن الحسن عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله وكذا القبيح[4].
هكذا نعلم أن مرد تبرير قضايا الحسن والقبح حسب إعتبارات حق الملكية يعود إلى العقل؛ إستناداً إلى فكرة الملكية المطلقة، لكن نتائج هذه العملية تفضي إلى إفتراض مصدر آخر يكشف عن دلالات هذه القضية لدى من له الحق المطلق، وهو المالك الحقيقي. ولا شك أنه لا يمكن أن يكون المصدر المشار إليه هو الخطاب الديني ما لم يتم تأسيس هذا الخطاب تأسيساً خارجياً بعيداً عن البداهة الأولية لهذا المنطق، وبغير ذلك يصدق الدور الباطل والمصادرة على المطلوب، لأن الخطاب الديني هو الذي يقرر مترتبات تلك الفكرة العقلية، في الوقت الذي يكون فيه مديناً في إثباته لهذه المترتبات، وهو دور واضح بلا شك. وعلى العموم أن الحديث عن مترتبات حق الملكية بنحو عقلي لا يقتضي بالضرورة أن تكون له صلة بالخطاب الديني، فقد تحصل هذه المترتبات ويحصل معها نفي الخطاب الديني أو عدم وجود ما يدل عليه. الأمر الذي يختلف مع منطق الحق الذاتي، فهذا الأخير يجعل من الحق أداة العقل الذي يتأسس عليه الخطاب خارجاً وداخلاً.
ويتحدد الخلاف بين المنطقين حول مسألة الحسن والقبح بالتحليل الذي أفاده أصحاب منطق حق الملكية حولها. فعلى رأيهم أن هناك ثلاثة معان لهذه مسألة، فقد يراد بها ملائمة الطبع ومنافرته، وكذا موافقة الغرض ومنافاته، كحسن الحلاوة وقبح المرارة، كما قد يراد بها صفة الكمال والنقص، كحسن العلم وقبح الجهل، وقد يراد بها أيضاً ما كونه موجباً للثواب والعقاب وكذا المدح والذم. ومع أن الكل يتفق على أن المعنيين الأولين عقليان وتامان، أو أن العقل يدرك صفاتهما، إلا أن الإختلاف يرد حول المعنى الثالث[5]. فبحسب منطق حق الملكية لا تعود علة الحسن والقبح إلى ذات الفعل وصفاته، وبالتالي لا يمكن إدراك هذه القضية عن طريق العقل، خلافاً لمنطق الحق الذاتي الذي يعتبر علة الحسن والقبح تعود: إما إلى ذات الفعل، كالذي عليه البغداديون من المعتزلة، أو أنها ترجع إلى صفات الفعل والوجوه الإعتبارية فيه، كما لدى القاضي الهمداني ومعظم البصريين من المعتزلة[6].
وقد اتخذت الماتريدية موقفاً وسطاً حينما اعتبرت الحسن والقبح من الأمور العقلية والذاتية؛ دون أن يترتب عليهما تكليف أو جزاء، بل ذلك موقوف على ورود الشرع[7]. كما ذهب بعض الأشاعرة المتأخرين، مثل بدر الدين الزركشي مع جماعة من أصحابه وآخرين غيرهم، إلى أن الحسن والقبح ذاتيان لكن الوجوب والحرمة شرعيان، وأنه لا ملازمة بينهما. فقد صرح الزركشي بالقول: «إن حسن الأشياء وقبحها ثابت بالعقل، والثواب والعقاب يتوقف على الشرع، فنسميه قبل الشرع حسناً وقبيحاً، ولا يترتب عليه الثواب والعقاب إلا بعد ورود الشرع، وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصاً. وهو المنصور لقوته من حيث النظر وآيات القرآن المجيد وسلامته من التناقض وإليه إشارات محققي متأخري الأصوليين والكلاميين، فليتفطن له، حيث هاهنا أمران؛ أحدهما: إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها، والثاني: إن ذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد شرع. لكن لا تلازم بين الأمرين». وقد استدل الزركشي على هذا الرأي بعدد من نصوص القرآن التي تشير إلى ذاتية الحسن والقبح مع نفي الثواب والعقاب من دون شرع، حيث دلل في بعضها على الحسن والقبح الذاتيين، وفي بعضها الآخر على النفي المشار إليه. ففي الحالة الأولى مثل قوله تعالى: ((ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون)) (الأنعام/131)، وقوله ((ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً)) (القصص/47)، وفي الحالة الثانية الخاصة بنفي الثواب والعقاب مثل قوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) (الإسراء/15)، وقوله: ((رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)) (النساء/165)[8].
وذهب إلى هذا الإتجاه المتوسط كل من إبن القيم الجوزية كما في كتابه (مفتاح دار السعادة) وبعض الأصوليين من الإمامية الإثنى عشرية[9]. وبالتالي فقد استقطب هذا الإتجاه من كل دائرة معرفية جماعة. ونرى أن الصواب هو ما سبقت الإشارة إليه من أن الحسن والقبح ذاتيان عقليان، وعليهما يترتب استحقاق الثواب والعقاب، رغم أن العقاب قد يُعطّل دون تنفيذ لإعتبارات خارجية، كاللطف والرحمة والمغفرة وما إلى ذلك، كالذي يبشر به البيان الديني.
ويمكن تصوير الخلاف بين المنطقين السابقين ضمن حدود ما أورده الخطاب الديني من مدح وذم، أو ثواب وعقاب: فهل ما ورد في الخطاب جاء لقبح الأفعال وحسنها؟ أو العكس هو الصحيح، وهو أن القبح والحسن ثبتا بسبب ما ورد في الخطاب؟ فإذا كنّا نعرف بأن منطق الحق الذاتي يرى أن ما أورده الخطاب الديني كان إمضاءاً لما أقرّه العقل لمثل هذه المسألة، فإن الأمر مع منطق حق الملكية هو العكس. وبصورة أدق، إنه بحسب هذا المنطق فإن ما حسّنه الخطاب الديني هو حسن، وما قبّحه هو قبيح. فطالما أقرّ العقل الأولي لهذا المنطق بداهة حق الملكية؛ فلا محيص من قبول تلك النتيجة. وتظل هناك تفريعات كثيرة من القضايا المستنتجة تحتاج إلى تبيان علاقتها بهذا المبدأ، كما بينا ذلك في دراسة مستقلة.
[1] توبي هف: فجر العلم الحديث/الإسلام ـ الصين ـ الغرب، ترجمه محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (260) الكويت، 1421هـ ـ2000م، ص130.
[2] البحر المحيط، فقرة 81.
[3] الجويني: الإرشاد، نشر مكتبة الخانجي، مصر، ص258. ومثله في: الشهرستاني: نهاية الاقدام في علم الكلام، مكتبة المثنى، بغداد، ص370.
[4] البحر المحيط، فقرة 81.
[5] لاحظ حول ذلك المصادر التالية: الغزالي: المستصفى من علم الأصول، المطبعة الأميرية، مصر، الطبعة الأولى، 1322هـ، ج1 ص56. والفخر الرازي: الأربعين في أصول الدين، مطبعة دائرة المعارف العثمانية ببلدة حيدر آباد الدكن، الهند، ص247. ونصير الدين الطوسي: تلخيص المحصل، انتشارات مؤسسة مطالعات إسلامي، ص339. والمولى حسن چلبي: شرح المواقف، طبعة حجرية قديمة، ج3، ص146ـ147.
[6] نظرية التكليف، ص438.
[7] عبد العلي الأنصاري: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه، وهو مطبوع في ذيل كتاب (المستصفى من علم الأصول)، ج1، ص25. ويس سويلم طه: مختصر صفوة البيان في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، مكتبة الكليات الأزهرية، 1393هـ ـ1973م، ج1، ص29.
[8] البحر المحيط، فقرة 84.
[9] لاحظ: محمد علي الكاظمي: فوائد الأصول، من افادات الميرزا محمد حسين النائيني، تعليقات ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ج3، ص60.