يحيى محمد
طبقاً لمنطق حق الملكية – كما يتمثل بالأشاعرة - أن من المحال وجود واجبات على المكلِّف، إذ يجوز له إيلام العباد بغير عوض ولا جناية، ولا يجب عليه فعل الصلاح والأصلح، ولا ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وله المشيئة المطلقة من غير قيد؛ فلا يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين؛ لأن التكليف ما هو إلا تصرف في عبيده ومماليكه[1]. وقد استدل الفخر الرازي على ذلك؛ بأنه لما كان الحكم لا يثبت إلا بالشرع، وحيث لا حاكم عليه، فلا يجب عليه شيء إطلاقاً[2].
ورغم أن تحديد ما يجب على المكلِّف من الفعل يعتبر تدخلاً سافراً فيما لا يجوز لنا السؤال عنه ((لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون)) (الأنبياء /23)، إلا أن هناك فرقاً بين ما يحكم به هذا المنطق من نفي الواجب عليه وبين تحديد ذلك بحدود الحكمة. فلو أنه عذب المؤمنين ونعّم الكافرين لحكمة ما معقولة؛ لما صحّ الإعتراض عليه، ولا كان في فعله شيء من القبيح. في حين لو لم تشترط الحكمة في مثل هذه الحالة، وكانت أفعاله غير معللة بل على سبيل الفوضى والعبث، كما يؤدي إليه هذا المنطق، لكانت مثل هذه الأفعال قبيحة بحكم الوجدان.
فهنا نشهد نوعين من التطرف لاحا منطقي الدائرة العقلية. فقد مال منطق الحق الذاتي إلى تضييق دائرة الحكمة الإلهية حول طبيعة الأفعال التي ظن أنها واجبة عليه تعالى، مما جعله عرضة للنقد والإنكار. كما أن منطق حق الملكية نفى من جهته الواجبات والقيود عن أفعال الله تعالى، فأفضى الأمر إلى انتفاء الغرض والحكمة منها، وهو بذلك أشد تطرفاً من سابقه.
مع ذلك يلاحظ أن الإعتراض على المنطق الأخير يجعلنا نتجاوز البداهة الأولية التي يتأسس عليها. فلو سلّمنا بهذه البداهة من حق الملكية فسوف يسقط الإعتراض السابق. إذ لو كنّا نؤمن حقاً بأن أمور التحسين والتقبيح والعدل والظلم رهينة حق الملكية، لما جاز أن ننسب القبح والنقص إلى فعل المكلِّف. هذا من الناحية المنطقية، رغم أن الوجدان العقلائي لا يحتمل أن يفعل المكلِّف غير ما يتصف به من الحكمة. فمثلاً أن الفرض القائل بجواز فعل كل شيء، كائناً ما كان، كإدخال المؤمنين العدول النار والكافرين الظالمين الجنة، هو فرض غير مقبول من الناحية الوجدانية، وإن كان مقبولاً بحسب التسلسل المنطقي لتلك البداهة. إذ يصبح الظلم عبارة عن التصرف بملك الغير، أما تصرف المالك بملكه فلا يعد ظلماً مهما كان نوع هذا التصرف، ولمّا كان الله مالك كل شيء، لذا فإن له حق التصرف بملكه مطلقاً، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
فهذه هي النتيجة الطبيعية لتلك البداهة، وهي التي أكّد عليها الأشاعرة في إستدلالاتهم، ومن ذلك ما ذكره اليافعي من أن الظلم هو التصرف في ملك الغير، والله لا يتصرف في ملك غيره، فكل ما يفعله هو عين العدل؛ كالعطاء والمنع، والنفع والضرر، والرفع والخفض، والجلب والدفع، والجمع والتفريق[3]. كما ذكر المهلب بأن لله تعذيب من لم يكلفه لعبادته في الدنيا؛ لأن كل شيء ملكه، فلو عذبهم لكان غير ظالم[4]. وكذا ما قاله الشيخ أبو بكر، وهو أن الظلم عند العرب هو فعل ما ليس للفاعل فعله، وليس من شيء يفعله الله إلا وله فعله «ألا ترى أنه فاعل بالأطفال والمجانين والبهائم ما شاء من أنواع البلاء فقال تعالى: ((أُغرقوا فأُدخلوا ناراً)) (نوح/25) فأغرقهم صغيرهم وكبيرهم، وقال: ((وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم)) (الذاريات/41) وغير ذلك من الآيات الواردة في تعذيب الصغير والكبير والأطفال والمجانين بأنواع البلاء»[5]. ومثله ما قاله أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان: «وليس لقائل أن يقول إذا خلق - الله - كسبه ويسره لعمل أهل النار ثم عاقبه عليه كان ذلك منه ظلماً، كما ليس له أن يقول إذا مكّنه - الله - منه وعلم أنه لا يتأتى منه غيره ثم عاقبه كان ذلك منه ظلماً، لأن الظلم في كلام العرب مجاوزة الحد، والذي هو خالقنا وخالق أكسابنا لا أمر فوقه ولا حاد دونه، وكل من سواه خلْقه وملكه، فهو يفعل في ملكه ما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون»[6].
ونقل الحافظ البيهقي نصوصاً عن جماعة من السلف تذهب هذا المذهب من منطق حق الملكية، ومن ذلك ما رواه من أن عمران بن حصين قال لأبي الأسود الديلمي: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فأجاب الديلمي: بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم. فقال عمران: أفلا يكون ظلماً؟! وتقول الرواية أن الديلمي فزع من ذلك فزعاً شديداً وقال: «كل شيء خلْق الله وملك يده؛ فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون»[7]. وفي رواية ثانية عن أبي كعب أنه قال لإبن الديلمي: «يا إبن أخي إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم»[8]. وكذا جاء في رواية أخرى أن عمرو بن العاص قال لأبي موسى الأشعري: وددت أني أجد من أخاصم إليه ربي، فقال أبو موسى أنا، فقال عمرو: أيقدّر الله عليّ شيئاً ويعذبني عليه؟ فقال أبو موسى: نعم، قال: لِمَ؟ قال: لأنه لا يظلمك، فقال: صدقت[9].
وبحسب هذا المنطق إن العقل معزول في مثل هذه المسائل من الحسن والقبح[10]. فقد جاء الخطاب الديني مشرّعاً للأحكام إبتداء دون سابقة، أما الحاجة إلى العقل فهي لتقرير مقدمات الشرع؛ كالتوحيد وجواز بعثة الأنبياء والنظر في المعجزات، ولمّا تمّ للعقل إثبات ذلك فلم يبق إلا أن ينعزل ويصير مأموراً بامتثال ما يصدر عن الشرع[11].
هكذا فبحسب منطق حق الملكية لا يمكن أن نفترض وجود غرض وراء الفعل الإلهي، فكل تحديد للغرض يعني تقييداً للمشيئة والإرادة المطلقتين. وواضح أن نفي قيد الغرضية عن فعل المكلِّف يتسق ومنطق حق الملكية، إذ لمّا كان المالك مستغنياً بذاته، وأنه المالك المطلق الذي له حق التصرف بكل شيء، فإنه على ذلك لا يتقيد بغاية وغرض من الفعل الذي يقوم به. وقد استدل الفخر الرازي على ذلك بقوله: «لا يجوز أن يفعل الله شيئاً لغرض.. لنا أن كل من كان كذلك كان مستكملاً بفعل ذلك الشيء، والمستكمل بغيره ناقص لذاته، لأن كل غرض يفرض فهو من الممكنات، فيكون الله تعالى قادراً على إيجاده إبتداءاً، فيكون توسط ذلك الفعل عبثاً. لا يقال: لا يمكن تحصيله إلا بتلك الواسطة، لأنا نقول: الذي يصلح أن يكون غرضاً ليس إلا إيصال اللذة إلى العبد، وهو مقدور لله تعالى، من غير شيء من الوسائط»[12]. وقال أيضاً: إن طلب اللمية عندنا باطل «لأنه ليس يجب في كل شيء أن يكون معللاً، وإلا لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ولزم التسلسل، بل لا بد من الانتهاء إلى ما لا يكون معللاً البتة، وأوْلى الأمور بذلك أفعال الله وأحكامه.. فكل شيء صنْعه، ولا علة لصنعه»[13] .
وربما يتفق ما قدّمه الفخر الرازي من الإستدلال مع المنطق الوجودي للفلاسفة أكثر من اتفاقه مع طبيعة النظام المعياري الذي ينتمي إليه منطق حق الملكية. لكن يظل أن ما يدعو إليه المنطق الأخير من نفي الغرضية لا يفسره سوى إعتبارات حق الملكية المطلقة مع غنى ذات المكلِّف. فحيث أن الله غني ومالك كل شيء، فله حق التصرف المطلق وعدم التقييد بقيود الغرضية. وفي جميع الأحوال يتصف فعله بالحق والعدل مطلقاً.
كما قد يقال أن الأدلة التي قدمها الفخر الرازي يقابلها أدلة عقلية أخرى ترى العكس هو الصحيح. والأهم من ذلك ما قد يقال أنها لا تتفق مع ظواهر النصوص الدينية الدالة على غرضية فعل المكلِّف، ومن ذلك أن الله يفعل بالمؤمنين ما يشاء لغرض هدايتهم وإنزال السكينة والرحمة عليهم، فلو كان الغرض يستلزم - بالضرورة - استكمال فاعله لثبت بالخطاب الديني نقصه، وهو باطل.
علماً بأنه ليس بالضرورة أن يكون الغرض متمثلاً بإيصال اللذة كما هو مبنى المعتزلة، إنما المهم أن يتضمّن الحكمة المعقولة، وبها ينتفي لزوم التسلسل، فيكفي مثلاً أن يخلق الله الناس ليبتليهم ويجزيهم على أعمالهم بالثواب والعقاب، وهذا الغرض يمكنه تصحيح الفعل الإلهي دون حاجة للسؤال مرة أخرى، رغم أن طبيعة الذهن البشري لا تتوقف عند الحد المذكور وتتمنى معرفة علة هذا الإختيار للفعل الإلهي دون غيره، لكن لا بد للسؤال من الإنقطاع مادامت أسرار الغيب لم تتكشف بعد، وذلك على طريقة ما سألت به الملائكة عن علة خلق البشر الذي وصفته بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكان الرد الحاسم هو قوله تعالى: ((إنّي أعلم ما لا تعلمون)) (البقرة/30). فهذا الجواب يؤكد غرضية الفعل الإلهي وحكمته وإن تضمّن السر الذي احتفظ به المكلِّف لنفسه. فالمهم أن ندرك بأن هناك غرضاً حكيماً وراء الفعل الإلهي، وجاء في هذا المعنى العديد من نصوص الخطاب الديني، من قبيل قوله تعالى: ((وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)) ( الحجر/85)، ((وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)) (الجاثية/22)، ((وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين)) (الأنبياء/16)، ((وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الجاثية/13)، ((وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون)) (الذاريات/56)، ((رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً)) (النساء/165)، ((ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) (المائدة/6).
وما يلزم عن هذا المنطق تأويل أصحابه لهذه الآيات لدفعها عما تتضمنه من وجود الغرض في الفعل الإلهي. وكان من تأويلهم انهم اعتبروا اللامات في القرآن الخاصة بالفعل الإلهي وأمره هي لامات عاقبة وصيرورة وليست لامات تعليل، مثلما اعتبروا كل الباءات الخاصة بالأسباب والمسبَّبات هي باءات مصاحبة وليست باءات سببية[14]. وكما نقل إبن فورك عن الأشعري قوله: كل لام نسبها الله لنفسه فهي لام الصيرورة لإستحالة الغرض عليه[15].
كما لزم عنهم أيضاً فهم حكمة الله المصرح بها في كثير من الآيات بمعنى يخالف غرض الفعل الإلهي، فالغرض الإلهي منفي عندهم، والحكمة المترتبة عليه منفية أيضاً. وعليه حصروا الحكمة بمعنى اتقان الخلق من حيث التكوين فحسب[16]، أو ردّوها إلى العلم والقدرة، فجعلوا مطابقة المعلوم للعلم ووقوع المقدور على وفق القدرة هو الحكمة. لذا ردّ عليهم إبن القيم بقوله بأن تعلق القدرة بمقدورها والعلم بمعلومه أعم من كون المقدور والمعلوم مشتملاً على حكمة أو مجرداً عنها، والأعم لا يشعر بالأخص ولا يستلزمه، وبالتالي فالحقيقة إن هذا القول ما هو إلا نفي للحكمة[17].
مع هذا نجد بعضهم لم يتقيد بالفهم السابق، واعترف بدور الحكمة لكلٍ من خلق الله وأمره، كالغزالي[18]، ومثله أولئك الذين تمسكوا بمقاصد الشريعة وعلى رأسهم الإمام الشاطبي.
[1] الغزالي: الإقتصاد في الإعتقاد، ص163ـ165. وابو الحسن الأشعري: اللمع، مطبعة مصر، 1955م، ص117.
[2] تلخيص المحصل، ص341ـ342.
[3] عبد الله بن أسعد اليافعي: مرهم العلل المعضلة في رفع الشبه والرد على المعتزلة (لم يكتب مكان طبعه ولا سنة نشره) ص29ـ30.
[4] إبن حجر العسقلاني: فتح الباري، دار المعرفة، بيروت، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج13، ص368.
[5] أبو بكر أحمد البيهقي: الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، تحقيق أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ، نسخة برنامج التراث: مكتبة العقائد والملل، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ص150.
[6] الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص147.
[7] نفس المصدر السابق، ص148.
[8] المصدر السابق، ص149.
[9] المصدر نفسه، ص149ـ150.
[10] الفخر الرازي: أصول الدين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 1404هـ ـ1984م، ص93.
[11] البحر المحيط، فقرة 84.
[12] المحصل، ص296. وتلخيص المحصل، ص343.
[13] المحصل، ص298. وتلخيص المحصل، ص346.
[14] إبن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، ضمن: الإلزام الثامن عشر (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).
[15] البحر المحيط، فقرة 500.
[16] نهاية الاقدام في علم الكلام، ص401ـ402.
[17] مفتاح دار السعادة، ج2، ضمن: الإلزام الثامن عشر.
[18] المنقذ من الضلال، ص147.