يحيى محمد
لا تخلو الحالات التي لم يتم التأكد منها بوجود عالم آخر للذم والعقاب، من وجود بعض الإحتمالات المحددة المتنافية. فبحسب منطق الإحتمال يتردد الأمر من الناحية القبلية بين وجود عالم للإستحقاق وعدمه؟ وكل فرد يمكن أن يواجه هذين الإحتمالين: إما بالعمل وفق الإحتياط أو بتركه، لكن الذي يدع الإحتياط لا يضمن النجاة من الوقوع في دائرة الذم والعقاب.
ويمكن تمثيل العملية الإحتمالية بالشكل التالي:
- إحتمال وجود عالم آخر للذم والعقاب.
- إحتمال عدم وجود هذا العالم.
وطبقاً لهذين الإحتمالين فإن على الإنسان إما العمل بالإحتياط أو بتركه. لذا تتشكل لدينا أربعة عوامل ممكنة كما يلي:
1ـ عامل العمل بالإحتياط مع وجود العالم الآخر.
2ـ عامل العمل بالإحتياط مع عدم وجود العالم الآخر.
3ـ عامل ترك الإحتياط مع وجود العالم الآخر.
4ـ عامل ترك الإحتياط مع عدم وجود العالم الآخر.
والملاحظ من هذه العوامل الممكنة أنه لا توجد خسارة إلا في العامل الثالث المتضمن لترك الإحتياط. وفي حالة العمل بالإحتياط؛ إما أن يكون المكسب حاصلاً لوجود العالم الآخر، أو على الأقل ليست هناك خسارة لعدم وجود ذلك العالم.
وهناك من الغربيين من حدد هذه المسألة بما يسمى (حجة الرهان)، وهي عبارة عن الإحتمالات المحددة التي تشابه تلك التي تحصل مع لاعبي القمار، فالضرورة فيها ليست إستدلالية عقلية، بل نفعية للربح والخسارة.
بهذا الاسلوب حكم باسكال على الإنسان بأنه مراهن شاء أم أبى. وصوّر حجته في الرهان من خلال محاورة أجراها بين مؤمن (م) وملحد (ح)، ننقلها للفائدة كما يلي:
م: الله موجود، أو غير موجود، على ماذا تراهن؟
ح: إني لا أريد المراهنة.
م: ولِمَ ذلك؟
ح: لأن في الرهان مجازفة.
م: وبمَ تجازف؟
ح: بحريتي وإرادتي.
م: نعم، يجب عليك وضعهما في الميزان، بل القذف بهما في معترك الحياة. أنتَ حر وتستطيع أن تنكر وجود الله، وتضرب بحقائق الدين عرض الحائط، إذا أردت، كما تستطيع أن تقرر وجود الله وتقبل حقائق الدين، إذا شئت. ولكنك لا تستطيع تجنب الإختيار بين واحد من الأمرين.
ح: ولِمَ وجب الإختيار؟
م: لأنك في سفر والرحلة قصيرة، والموت قريب، وربما كان عاجلاً مفاجئاً. وإن أرجأت الإختيار لحظة أو دقيقة، ربما فوّتّ عليك الفرص.
ح: هذا صحيح، ولكن كيف أختار، ولا نور يهديني في الإختيار؟
م: لا عجب في إلا يدلك العقل على شيء، فالمسألة ليست مسألة معرفة وبرهان، بل مسألة مكسب أو خسارة، مكسب هائل، أو خسارة عظمى، مسألة حياة أو موت. ففي أي الناحيتين مصلحتك ومنفعتك؟ (الله موجود، أو غير موجود). لنضع الفرض الأول: (الله موجود). لو قبلت هذا الفرض واعترفت بوجود الله واتبعت وصايا الدين؛ كسبت الحياة الأبدية والسعادة اللامتناهية، أما إذا أنكرت وجود الله، وعصيت أوامر الدين، فقد خسرت كل شيء واوقعت نفسك في العذاب الأبدي. لنضع الآن الفرض الثاني: (الله غير موجود). أقول: سواء قبلت الفرض أو رفضته، ما كسبته ولا خسرت شيئاً. وعلى ذلك فإن راهنت على أن الله موجود، كسبت كل شيء في الفرض الأول، ولم تخسر شيئاً في الفرض الثاني.
ح: هذا صحيح، وجميل. ويحق لي أن اختار هذا الفرض، ولكني لو فعلت ذلك ضحيت بلذتي وسعادتي في هذه الدنيا.
م: لا تنسَ انك مراهن يضحي بشيء لنوال شيء أعظم.
ح: نعم، ولكني أجازف بكسب مؤكد في سبيل كسب غير مؤكد.
م: انك تجازف بكسب محدود في سبيل كسب لا محدود.
ح: ولكن الكسب المحدود مرغوب لي. إنه كل شيء عندي، أما الكسب اللامحدود فهو لا شيء.
م: ربما قررت ذلك لأنك فقدت بعض حريتك وأصبحت عاجزاً عن التطلع إلى شيء اسمى من ذلك الكسب المحدود.
ح: نعم، إني غارق في اللذات وحريتي ضائعة في الشهوات.
م: والرهان طريق يحررك منها. راهن إذاً وترقب نتيجة الرهان.
ح: إنك محق وكلامك يملأ قلبي حماسة وقوة.
م: إن كان ذلك صحيحاً، وكان كلامي يبعث الحماسة في نفسك، فاعلم إني ركعت قبله، وسأركع بعده للموجود اللامتناهي، متوسلاً إليه متضرعاً أن يضمك إلى أحضان الدين، كما ضمني إليه من قبل. والدليل على انك لن تخسر شيئاً أن الدين سيجعلك صبوراً، أميناً، صادقاً، مخلصاً، محباً. نعم إنك تفقد اللذات الموبوءة، ولكنك تكسب أخرى محلها، وأعظم منها[1].
***
والحقيقة أنه جاء في بعض الأحاديث ما يطابق المعنى الوارد في (حجة الرهان)، إذ جاء في مخاطبة الإمام الرضا لأحد الزنادقة أنه قال: أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا واياكم شرعاً سواء، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟... وإن كان القول قولنا - وهو كما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا[2].
كما نُقل عن أبي العلاء المعري أنه الآخر عبّر عن المعنى السابق في بيتين من الشعر:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت اليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي فالخسار عليكما
وعرض الغزالي في (احياء علوم الدين) هذه الحجة ونقل بيتي المعري، ثم أعقبهما بنقل عن الإمام علي وهو يردّ على بعض النافين للمعاد: «إن صحّ ما قلتَ فقد تخلصنا جميعاً وإلا فقد تخلصتُ وهلكتَ»[3]. وقيل أن باسكال قد تأثر في حجته للرهان بالغزالي، كالذي يقوله عبد الرحمن بدوي[4].
وحديثاً تعرضت حجة باسكال لعدد من النقود. فالبعض يراها لا تقوّي الإيمان والدين، ولا تؤدي إلى حب الله الذي يسمو على المقامرة والرهان، بل تشجع على الأنانية، لأن ما يهم المقامر هو عدم الخسارة لا البحث عن الحقيقة[5]. وكما يرى وليم جيمس بأن التدين الذي يأتي بالمراهنة لا فائدة فيه[6]. كما أن باسكال لم يوضح أيّ إله يريده في حجته؟ فإذا كانت هناك آلهة مختلفة بحسب تعدد الأديان والمذاهب، فكيف يمكن المراهنة على إله معين؟ فكل رهان خاسر، لأنه يعطي قيمة إحتمالية تقترب إلى الصفر إزاء الفوز بالإصابة[7].
وعلى هذه الشاكلة رأى البعض بأن حجة الرهان قد تكون مقنعة في عصر باسكال، إذ لا يعرف الناس سوى دين الكنيسة، أما وقد تبين لهم اليوم وجود أديان كثيرة؛ فإن الحجة وإن أقنعت بالتمسك بالدين؛ لكنها لا تقول شيئاً عن أيّ دين مخصوص تريد[8].
مع ذلك نقول بأن فائدة هذه الحجة تختص بالناس الذين لا يفكرون سوى بالربح والخسارة. فمن الناس من يعبد الله خوفاً من ناره، وهم الغالبية، ومنهم من يعبده طمعاً في جنته، ومنهم من يعبده لأهلّيته للعبادة، وهم الأقلية[9]. فمهما كان التدين ضعيفاً فإنه أفضل حالاً من عدم التدين، عند الأخذ بنظر الإعتبار آثاره النفعية في الواقع، لا من حيث الأخلاق وحسن التعامل - نسبياً - فحسب، بل حتى من جهة كون المراهن قد ينسى نفسه مراهناً ويتصرف كتصرف ذلك الواثق من دينه، في المعتقد والسلوك، سيما عندما يكون التدين بسيطاً وغير مؤدلج.
أما بالنسبة لكثرة الأديان، فقد يكون للحجة نفع مجمل على نحو العموم لا الخصوص، إذ يكفي منطقياً أن المراهن يراهن على إله لا يعرف عنه شيئاً سوى أنه قد يعاقبه على الأعمال التي يدرك العقل أنها قبيحة، كالقتل المتعمد وشهادة الزور والخيانة والإضرار وغيرها.
[1] نجيب بلدي: باسكال، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، ص147ـ149.
[2] الكليني: أصول الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الثالثة، 1388هـ، ج1، ص87. ومسند الإمام الرضا، مكتبة الصدوق، طهران، الطبعة الأولى، 1392هـ، ج1، ص10ـ11.
[3] الغزالي: احياء علوم الدين، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج4، باب: بيان أقسام العباد في دوام التوبة (لم تذكر ارقام صفحاته).
[4] في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم عرض عليّ الاستاذ محمد حسين ساكت مقالاً لعبد الرحمن بدوي ترجمه من اللغة الانجليزية إلى الفارسية، وهو بعنوان: نظرية علي وفرضية باسكال (جابخانه زوار، مشهد، 1352هـ.ش، ص27ـ35). أنظر دراستنا: منطق الإحتمال ومبدأ التكليف في التفكير الكلامي، دراسات شرقية، باريس، العدد المزدوج، 9ـ10، 1991هـ ـ 1411م، ص26.
[5] أنظر:
Schlesinger, George. (1994) A Central Theistic Argument, in Philosophy of Religion: a reader and guide, ed. Craig, William Lane. (2002). Edinburgh University Press. Edinburgh. p. 26-27
[6] أنظر:
Hacking, Ian. (1972) The Logic of Pascal's Wager, in Philosophy of Religion: a reader and guide. p. 21
[7] أنظر:
Schlesinger, George. (1994), p. 28-29
[8] أنظر:
Hacking, Ian, p. 21
[9] جاء عن الإمام علي (ع) قوله: «إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» (نهج البلاغة، لضابطه صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة، قم، الطبعة الخامسة، 1412هـ، ضمن حِكم امير المؤمنين، فقرة 510، ص237).