يعد نجم الدين الطوفي الحنبلي (المتوفى سنة 716هـ) أول من تجرأ على توسعة حجية المصلحة وبسطها إلى الحد الذي أجاز من خلالها تغيير حكم النص في رسالته المسماة (في رعاية المصلحة)، وذلك من خلال توظيف المنطلقات المعتمدة في إثبات المصلحة والإستحسان، وهي المنطلقات الكاشفة عن مراعاة الشرع للمصلحة؛ كتلك التي وظف لها الشاطبي - فيما بعد - الدليل الإستقرائي على ما مرّ معنا. لكن الملاحظة التي تسترعي الإنتباه هي أن نظرية الشاطبي رغم ما لها من أهمية وقيمة، لإعتمادها على المنطق الإستقرائي، لم تستطع ان تستكشف الجديد مثلما سبق اليه الطوفي في ترجيح المصلحة على حكم النص. إذ يفترض أن الوعي بالدليل الإستقرائي يدفع الباحث لإستكشاف ما يمكن أن تمتد اليه يده، خلافاً لما لو كانت ممارسة هذا الدليل من غير وعي كما هو حال الطريقة التلقائية التي اعتمدها الطوفي في استكشافه الجديد. مما يعني ان الطوفي قد توصل إلى ما لم يتوصل اليه الشاطبي فيما بعد. فرغم السبق الزماني وعدم الوعي بالدليل الإستقرائي كانت نظرية الطوفي أكمل مضموناً مما عليه نظرية الشاطبي، وأن هذه الأخيرة كانت مقطوعة الصلة بالأولى. بل يمكن القول ان المضمون المعرفي لنظرية الطوفي بلغ حداً لم يصل اليه تاريخ الفقه الإسلامي إلى يومنا هذا. والطوفي كان يعي ذلك حينما صرح بجدة نظريته وانها أبلغ من طريقة الإمام مالك في الإستصلاح، لأخذه بالمصلحة حتى ولو خالفت نصاً أو إجماعاً.
ويؤسف من ان البناء الذي اسسه الطوفي في هذا المجال لم يجد من يرعاه وسط الفقهاء، مما جعل ولادته يتيمة. فقد رفض الفقهاء مشروع الطوفي بنحو من الاجماع مع تشديد النكير عليه، حتى لقي في حياته الكثير من المتاعب بالاضطهاد والحبس والتعزير والتسفيه والتشنيع، سواء من قبل السلطة الحاكمة أو من الفقهاء انفسهم، بل واتهم على آرائه الجريئة في المصلحة ونقد بعض كبار الصحابة بالتشيع[1].
النتاج التراثي ونظرية الطوفي
يمكن اعتبار نظرية الطوفي نتاجاً طبيعياً للتطور الذي أفضى اليه الفقه الإسلامي عبر مراحله التاريخية، وذلك لعدد من المبررات التراثية التي سبقتها ووجدها الطوفي حاضرة أمامه، فضلاً عما لفت اليه النظر في العودة إلى تحليل القضية من زاوية ما امدته الشريعة الإسلامية من نصوص. فمن حيث المبررات التراثية التي تتسق ونظريته نلاحظ ما يلي:
1 ـ لعل من المدارك التراثية الهامة التي قد ساهمت في إلفات نظر الطوفي هو نظرية الإستحسان للمالكية القائمة على تخصيص النصوص بالمصلحة كما سبق ان بينا، وإن لم يوظف الطوفي ذلك في رسالته. حيث ان هذا التخصيص هو عبارة عن ترجيح المصلحة على عموم النص. فهو وإن لم يشمل النص بكامله الا ان المناط واحد.
2 ـ لقد سبق للغزالي ان أجاز ترجيح المصلحة على حكم النص والاجماع فيما لو تعارضا، معتبراً هذا الترجيح أو التخصيص لا يتم الا طبقاً لثلاثة شروط؛ هي ضرورية المصلحة وقطعيتها وكليتها. ونظرية الغزالي هذه وان لم تكن من حيث المضمون جديدة في الموضوع؛ لكن قبولها لجواز ترجيح المصلحة على حكم النص والاجماع - ولو ضمن شروط - يجعل نظرية ترجيح المصلحة على حكم النص مفتوحة وليست ممنوعة بالأصل، أو مرفوضة جملةً وتفصيلاً، إذ تصبح الاشكالية محددة بالشروط والقيود فحسب.
3 ـ لا شك ان قواعد فقهية من أمثال (الضرورات تبيح المحضورات) و(الحاجة تنزل منزلة الضرورة) و(المشقة تبعث على التيسير) وما اليها؛ يمكن ان تعد من الموجهات التي ساهمت في الفات نظر الطوفي إلى صحة حجية ترجيح المصلحة واعتبارها أقوى من حكم النص والاجماع. فهذه القواعد التي تُقدم فيها المصلحة على حكم النص؛ تسند النظرية الجديدة وتتسق معها، لكن مع ملاحظة ان لتلك القواعد خصوصية تتمثل بشرط الضرر البالغ، بينما في دليل المصلحة هناك نوع من التعميم الشامل للحالات التي لم تبلغ حد الضرورة والحاجة وإن حصل في ذلك نوع من الضرر، سيما وأن الطوفي يرى المصلحة نقيض الضرر بلا واسطة، فحيث تكون المصلحة ينتفي الضرر، وحيث تنتفي المصلحة يتحقق الضرر.
4 ـ كذلك ما توصل اليه الفقهاء من ان الشرع موضوع لتحقيق مصالح الإنسان كمقصد أساس تدل عليه مختلف الأحكام الشرعية في جميع أبواب الفقه، سواء كانت المصالح ضرورية أو حاجية أو تحسينية، وهي التي أخذت من الشاطبي جلّ اهتمامه في كتابه (الموافقات) والتي سخّر لها منهجه المميز في الإستقراء، كما مر معنا. والطوفي في هذه النقطة يتبع ذات السلوك من التركيز على المعنى الذي توصل اليه الفقهاء من ان مراعاة المصلحة هي المقصد الذي تلجأ اليه الشريعة في جميع أحكامها.
5 ـ هناك عدد من المواقف والمقالات التي أطلقها الفقهاء مما يتسق ونظرية الطوفي، منها مقالة تأثير الزمان والمكان على تغيير الأحكام، وتبنيهم أحياناً بعض الفتاوى التي تختلف كلياً عن أحكام النصوص بدعوى ان هذه الاخيرة كانت تعالج وضعاً خاصاً ضمن ظروف معينة لا يليق تمديدها عبر الزمان والمكان. كذلك مقالتهم في جواز تشريع ولي الأمر ما يناسب اعتبارات المصلحة حتى ولو اختلف في ذلك عن السياسة النبوية لتغير الظروف. والأهم من ذلك هو ان الفقهاء تقبلوا العديد من الأحكام الإجتهادية لبعض الصحابة وتوارثوها رغم أنها كانت تغييراً لأحكام بعض النصوص الصريحة بأعذار مختلفة.. فكل ذلك يتسق ونظرية الطوفي ويجعلها غير بعيدة عن العقل الفقهي ومنطقه الإسلامي[2].
هكذا نخلص إلى ان نظرية الطوفي لها ما يبررها بحسب المقالات والنتائج التي احدثها الفقه خلال مراحل تطوره عبر العصور. فمن جانب لا ينكر اغلب العلماء ترجيح المصلحة على النص والاجماع في بعض الحالات كتلك المقيدة بالمصلحة الضرورية. كما يتفقون على كون المصلحة هي المقصد الاساس الذي تبتغيه الشريعة من وراء احكامها، سواء على نحو المصلحة الضرورية أو الحاجية أو الكمالية. كما ان بعض المذاهب أجازت ترجيح المصلحة على عموم النص وتقديمها عليه، كالذي ذهبت اليه المالكية. ناهيك عن سائر القواعد والاعمال الفقهية التي أجازت تغيير العديد من أحكام النص. فبإضافة هذه الأمور بعضها إلى بعض تصبح النتيجة التي جاء بها الطوفي ليست جديدة كل الجدة، وانما نجد بذورها وجذورها عند تلك المنطلقات التراثية التي زخر بها العقل الفقهي. ولولاها لكان من الصعب تصور ان يكون لهذا الفقيه الحنبلي من القدرة والجرأة على ان يصل لمثل ما وصل اليه من نتيجة.
أدلة نظرية الطوفيأما الأدلة الفعلية التي لجأ اليها الطوفي فيمكن تقسيمها إلى ما يلي:
1 ـ إكثار الطوفي من الأمثلة الشرعية التي تكشف عن مراعاة الشرع للمصلحة واعتبارها من المقاصد في قبال أحكام الوسيلة. وهو بهذا يتبع الطريقة الإستقرائية في تتبع النصوص الوافرة التي تثبت مراعاة الشرع للمصلحة، كي يستخلص النتيجة المنطقية بوجوب تقديم المقاصد على الوسائل، وبالتالي تقديم المصلحة على سائر الأحكام والنصوص وكذا الاجماع عند التعارض. وبعبارة أخرى أنه لما كانت المصلحة هي المقصودة وان النص والإجماع وسائر الأدلة والامارات الشرعية هي وسائل لتحقيق هذه المصلحة؛ لذا وجب تقديم هذه الاخيرة عليها عند التعارض. فعنده ان الاجماع أقوى من النص، وان المصلحة أقوى من الاجماع، لذا فالأولى ان تكون المصلحة أقوى من النص.
2 ـ تقديم الطوفي لأمثلة عديدة حاول من خلالها أن يبين كيف أن الشرع من جانب، والصحابة من جانب آخر، رجحوا العديد من المصالح على أحكام النص، بل وعلى الاجماع ايضاً، مع أخذ اعتبار عدم تبلور هذا المصدر التشريعي عند الصحابة. كما ان الأمثلة التي ذكرها في رسالته ليست كلها دالة على ترجيح المصلحة، وهي كالتالي:
رغم ان الصحابة اجمعوا على جواز التيمم للمرض وعدم الماء، الا ان ابن مسعود خالف ذلك طبقاً لاعتبارات المصلحة، فقال: (لو رخصنا لهم في هذا، لأوشك ان يبرد على أحدهم الماء، فيتيمم وهو يرى الماء). ورغم ان ابا موسى احتج عليه بالآية وحديث عمّار؛ الا أنه لم يلتفت إلى ذلك، وهو ترك للنص والاجماع للمصلحة[3].
كذلك رغم قول النبي (ص) لأصحابه حين فرغ من الاحزاب: (لا يصلين أحدكم العصر الا في بني قريضة)؛ الا ان بعضهم صلاها قبل الوصول إلى بني قريضة[4]، وهو خلاف النص لبعض الاعتبارات المرجحة.
كما ان النبي (ص) قال لعائشة: (لولا قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد ابراهيم)[5]، مما يدل على ان هدمها وبناءها من جديد هو الواجب، لكن النبي (ص) تركه لمصلحة الناس.
ايضاً ان النبي (ص) لما أمر الناس بجعل الحج عمرة فانهم قالوا: كيف وقد سمينا الحج؟ وتوقفوا. وهو عبارة عن معارضة للنص بالعادة.
وكذا أنه لما أمرهم يوم الحديبية بالتحلل فإنهم توقفوا تمسكاً بالعادة، في أن لا حلّ قبل قضاء المناسك، حتى غضب النبي (ص) وقال: (ما لي آمر بالشيء فلا يفعل؟).
كما روى ابو يعلى الموصلي في مسنده ان النبي (ص) بعث ابا بكر ينادي: (من قال لا إله الا الله دخل الجنة) فوجده عمر فردّه، وقال: (إذاً يتكلوا).
كما روى الموصلي بأن رجلاً دخل يصلي فأعجب الصحابة سمْته، فقال النبي (ص) لأبي بكر: اذهب فاقتله، فذهب فوجده يصلي، فرجع عنه. ثم أمر عمر فرجع، حيث كلاهما يقول: (كيف اقتل رجلاً يصلي؟). ثم أمر علياً بقتله فلم يجده، فقال النبي (ص): (لو قُتل لم يختلف من امتي اثنان). وبه يعلم ان الشيخين ابا بكر وعمر تركا النص بالإستحسان في اقباله على العبادة، ومع ذلك لم ينكر عليهما النبي (ص) ترك أمره، ولا عاتبهما ولا ثرّب عليهما.
3 ـ ومن حيث الاستدلال بالنص فإن الطوفي بنى نظريته تعويلاً على فهم وتحليل الحديث النبوي (لا ضرر ولا ضرار)، ومن ثم توظيفه ضمن اطار اعتبار المصلحة مقصودة ومرجحة على غيرها. فهو يفهم النفي في الحديث النبوي المشار اليه بأنه (نفي عام إلا ما خصصه الدليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع، وتخصيصها به في نفي الضرر وتحصيل المصلحة. لأنا لو فرضنا بعض أدلة الشرع تضمن ضرراً، فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملاً بالدليلين، وان لم ننفه به كان تعطيلاً لأحدهما، وهو هذا الحديث، ولا شك ان الجمع بين النصوص في العمل بها أولى من تعطيل بعضها). لذا رأى أن تقديم المصلحة عليهما جاء (بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدم السنة على القرآن بطريق البيان)[6].
ورغم ذلك استدرك الطوفي حالة رأى أنه لا يصح فيها المعارضة بين النص والمصلحة، أو تقديم هذه الأخيرة على الأول، وذلك فيما لو كان النص قطعي الصدور وقطعي الدلالة من جميع الوجوه مطلقاً بحيث لا يتطرق اليه إحتمال بوجه[7]. يضاف إلى أنه اعتبر المصلحة تلزم في المعاملات ونحوها دون العبادات وما شاكلها من تقادير، وذلك باعتبار (ان العبادات حق للشرع خاص به ولا يمكن معرفة حقه كماً وكيفاً)[8].
هذه هي نظرية الطوفي التي تتسق مع قول بعض الأصوليين: (حيثما توجد المصلحة فثم شرع الله)[9]. أو كما قال العز بن عبد السلام: (الشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح)[10]. ومثله ما ذهب اليه الدواليبي في كتابه (المدخل إلى اصول الفقه) معتبراً قاعدة المصلحة مستقاة من روح الشريعة وبالتالي صحة بناء الحكم فيها وذلك لِما (في الشريعة من قواعد عامة برهنت ان كل مسألة خرجت عن المصلحة ليست من الشريعة بشيء)[11].
بل نجد دعماً لهذه النظرية من قبل بعض روّاد الإصلاح في عصرنا الحديث. فالملاحظ أن رشيد رضا قام بنشر رسالة الطوفي في أحد أعداد مجلته (المنار)، وأيد ما جاء فيها من نظرية. فهو يعد التعارض بين المصلحة العامة وبين العمل ببعض النصوص إنما يعود في الحقيقة إلى التعارض بين النصوص، لأن مراعاة المصلحة مؤيدة بها. وهذا هو أهم مبررات الطوفي في ترجيح المصلحة على حكم النص. مشيراً إلى أنه قلما يوجد في الكتب المتداولة بحث مشبع لهذه المسألة الهامة التي تتوقف عليها حياة الشريعة والعمل بها. لكنه مع هذا اشار في محل آخر إلى تقييد العمل بأصل المصلحة في قبال النصوص ضمن حدود لم ترد لدى الطوفي. وذلك أنه عدّ المصلحة أصلاً في الأحكام السياسية والمدنية يرجع اليه في غير تحليل المحرمات أو إبطال الواجبات[12]. وكأنه يريد أن يقول بأن تحليل المحرمات وإبطال الواجبات غير جائزين، لكن تحريم المباحات أو ايجابها جائز طبقاً للمصلحة، ولا شك أن مثل هذه الأحكام وتبريراتها هي على خلاف الموروث الفقهي.
الشبهات حول الترجيح بالمصلحة
يُثار عدد من الشبهات والردود على الموقف من المصلحة. فاذا تجاوزنا الآراء التي تمنع من العمل بالمصلحة المرسلة باعتبارها ليست موفقة كما سبق وأثبتنا ذلك، فإن هناك بعض الشبهات حول موقف الطوفي من المصلحة وما فهمه من قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، كما يلي:
1 ـ هناك إشكال فني حول اعتبار الطوفي للحديث النبوي مخصصاً لغيره من الأحكام أو النصوص والاجماع، مع ان المخصص بحسب الاصطلاح (أن يكون أخص مطلقاً من العام ليصح تقديمه عليه.. والنسبة هنا.. هي نسبة العموم من وجه، فوجوب الوضوء مثلاً، بمقتضى اطلاقه شامل لما كان ضررياً وغير ضرري، وادلة لا ضرر شاملة للوضوء الضرري وغير الوضوء. فالوضوء الضرري مجمع للحكمين معاً، ومقتضى القاعدة التعارض بينهما والتساقط، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر، لأن نسبة العامين إلى موضع الالتقاء من حيث الظهور نسبة واحدة. والظاهر ان الطوفي بحاسته الفقهية ادرك تقديم هذا الدليل على الأدلة الأولية وإن لم يدرك السر في ذلك، والسر فيه يرجع إلى حكومة هذا النوع من الأدلة على الأدلة الأولية لما فيه من شرح وبيان لها. فكأنه يقول بلسانه ان ما شرع لكم من الأحكام هو مرفوع عنكم اذا كان ضررياً، فهو ناظر اليها ومضيق لها)[13].
2 ـ ان قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) بحسب نظر البعض ومنه النظر الشيعي لا يستفاد منها ترجيح المصالح على حكم النص، بل أنها تقتصر فقط على مواضع الضرر والإضرار. لذلك فقد نقد البعض طريقة الطوفي من هذه الزاوية، أي من حيث ان حديث (لا ضرر ولا ضرار) رافع للتكليف لا أنه مشرع، فهو لا يتعرض إلى أكثر من ارتفاع الأحكام الضررية عن موضوعاتها[14]. بمعنى أنه لا يغير من الأحكام الا بحدود ما ينشأ عنها من ضرر.
مع هذا يمكن الاجابة على ما سبق بإعتبارين، أحدهما فيما يفهم من المصلحة من حيث أنها ضد الضرر، فانتفاء أحدهما يعني حضور الثاني، وعلى هذا الفهم يسقط الإشكال من أساسه، وهو ذاته ما عوّل عليه الطوفي من اعتبار الضرر نقيض المصلحة[15]. أما الاعتبار الثاني فبما تتضمنه المصلحة من الكمال المعتبر عقلائياً. وهي وإن كانت غير مستمدة من نفس الحديث الآنف الذكر وملابساته الخاصة؛ الا ان القرائن المختلفة التي تقصدها الشريعة بما فيها تطبيق قواعد النسخ والعمل بالاستثناءات أو عدم الالتزام بالتطبيق الكلي والحرفي؛ كل ذلك لا يفهم باتساق الا على نحو النظر إلى المصلحة كمقصد كلي أساس، سيما وأن تفويتها يستلزم النقص والضرر. الأمر الذي يبرر حاكمية المصلحة على الأحكام عند التعارض، مثلما كشف عنه الطوفي.
3 ـ يرى البعض ان التعويل على قاعدة المصالح كمبدأ رئيسي يفضي في حد ذاته إلى فتح المجال للعقل لأن يضع أحكامه على حساب النص، مما يعني نسخ النصوص ومن ثم نسخ الشريعة ذاتها أو تعطيلها. لهذا قيل أنها خطرة تفضي إلى نسخ الأحكام الشرعية، ومن ذلك ما صرح به الاستاذ عبد الوهاب خلاف في معرض رده على الطوفي معتبراً أن (تعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين)[16]. مع ان اصطلاح النسخ هنا هو غير ما استقر عليه رأي الفقهاء، فهم لا يعدون التخصيص بالرأي والإجتهاد من النسخ، وانما يشرطون فيه رفع الحكم كلية، والطوفي لا يقول بالرفع. ولا شك ان اتهامه بالنسخ يفضي إلى اتهام العديد من الصحابة والمجتهدين الذين قاموا برفع جملة من الأحكام ذات النصوص الصريحة القاطعة، فهم أولى بممارسة النسخ من الطوفي. كما ان اتهامه بذلك يجر إلى اتهام من سبقه من القائلين بجواز تخصيص عموم النص بأي دليل كان، ومن ذلك دليل العرف والمصلحة كما هو الحال مع ابي حنيفة ومالك، حتى كان هذا الأخير يستحسن تخصيص النص العام بالمصلحة[17]، وهو أمر يعود إلى الترجيح بالممارسة العقلية على حساب ظاهر النص، ولا يختلف ذلك كثيراً عما عليه طريقة الطوفي، فسواء كان التخصيص يلوح عموم النص من قبل العقل أو المصلحة، أو كان تخصيصاً على مستوى تعطيل حكم النص في الحالات التي يصادف معارضته للمصلحة ضمن شروط محددة؛ ففي جميع الأحوال أُجري التغيير على ما يفهم من النص، وليس في ذلك رفع للحكم بكليته. فما هي المشكلة إذاً، ولماذا التشنيع على الطوفي؟!
4 ـ هناك نقد على صعيد التطبيق، فالبعض اعتبر أنه بموجب نظرية الطوفي فإن المصلحة تقتضي الرخصة في العديد من الأحكام الثابتة الحرمة مثل الربا[18]. لكن يرد على هذا النقد امران: الأول هو ان الطوفي صريح في عدم تطبيق نظريته على ما يعلم قطعيته من الشرع، وربما يدخل الربا ضمن الأحكام القطعية الواضحة بلا أدنى إحتمال حسب هذه النظرية. والثاني هو أن منع الربا فيه مصلحة مقصودة كما ورد في العديد من النصوص، وبالتالي فليس فيه ما يستشكل على النظرية. يضاف إلى ذلك ان العقل الفقهي عموماً ونظرية الطوفي خصوصاً لا يقبلان الأخذ بمطلق المصالح، والا لما اوردوا القيود والشروط في ذلك، ومنها الاتساق مع مقاصد التشريع. إذ تتضمن العلاقة بين المصالح والمقاصد عموماً وخصوصاً من وجه، فرب مصالح تتنافى مع المقاصد ولا تدخل ضمنها كالربا. كذلك رب مقاصد تخلو من المصالح، أو بالأحرى هي مما لا تدرك بالعقل كالتعبديات التي تعبدنا بها الشرع.
الطوفي والفكر الإمامي
لقد عُدت قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) في الوسط الشيعي ثابتة للأخبار المتواترة معنىً ولظاهر الكتاب فضلاً عن الاجماع والعقل[19]. لكن فهم هذه القاعدة لم يتضمن اعتبارات المصلحة وعنوانها، كما لم يستفد منها الترجيح على حكم النص عند التعارض، بل انها تقتصر على مواضع الضرر والاضرار فحسب. وبالتالي فانها رافعة للتكليف وليست مشرعة. لكنها مع ذلك تواجه اشكالاً؛ إذ أنها معارضة للتكاليف الشرعية الثابتة التي تتضمن طبيعتها الضرر والإضرار؛ كالأضرار التي يسببها الجهاد بالنفس والاموال على المجاهدين، والصيام على الصائمين، والحج على الحجاج، والزكاة على المزكين، وضرر قطع اليد بالنسبة للسارق، والجلد بالنسبة لشارب الخمر، والقصاص وسائر الحدود والتعزيرات. فهل يلزم تخصيص هذه القاعدة بتلك الأحكام للتنافي الوارد بينهما؟
لقد ابدى المفكر الصدر رؤية رائدة لحل هذا الاشكال بعد نقده ما طرح من حلول لدى الفقهاء. اذ اعتبر ان تخصيص تلك الاحكام للقاعدة يصح فيما لو توقفنا عند اطلاق النص من غير الأخذ بمناسبات الحكم والموضوع والارتكازات العقلائية والاجتماعية لفهم النص. فبحسب هذه القرائن العقلية والحالية تُفهم القاعدة بغير المعنى الاطلاقي للفظ. اذ المركوز في الاذهان العقلائية ان المقومات الاساسية للشريعة الاسلامية تشتمل على قواعد وانظمة وتشريعات تحقق العدالة الاجتماعية للناس، بما تحدده لهم من حقوق ومسؤوليات، بحيث بدونها ينشأ الضرر البيّن، رغم ان تنفيذها يولّد بعض الأضرار، لكنها في قبال المصلحة الحقيقية والعامة للناس ليست بأضرار. وبالتالي فبحسب الفهم الاجتماعي للنص يكون الضرر المنهي عنه خارج اطار هذه الاضرار التي يراد منها الحفاظ على تلك المصالح. او أن الأحكام الشرعية الثابتة المتضمنة لبعض الاضرار ليست احكاماً لتخصيص عموم القاعدة، انما بحسب الفهم الاجتماعي للنص تكون القاعدة خارجة عن الحيز الذي تدور فيه تلك الاحكام[20].
وعموماً إن فهم قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) لدى الإمامية ظلّ يدور حول الضرر المنصوص عليه في القاعدة وضمن حدود خاصة كالضرر المعتد به؛ لا مطلقه ولا عمومه. لهذا قيل أنه لو بُني العمل بعموم هذه القاعدة لحصل منه فقه جديد[21].
فقد ذهب الشيخ الأنصاري وجمع من فقهاء الإمامية (الى ان المنفي - في قاعدة لا ضرر ولا ضرار - هو الحكم الذي يترتب على جعله ضرراً على العباد؛ سواء كان الضرر في نفس الحكم، كما لو حكمنا بلزوم العقد، فيما لو كان البائع مغبوناً، أو كان الضرر في متعلق الحكم، كما لو لزم من الوضوء ضرر مالي أو بدني على المكلفين.. بمعنى ان كل حكم يلزم منه ضرر على الإنسان لم يشرّعه الإسلام، سواء تعلق بالنفس أو الغير. ولازم ذلك ان هذه القاعدة مقدمة على أدلة الأحكام اذا لزم منها في مورد من الموارد ضرر على المكلفين، ونتيجة تقديمها على أدلة الأحكام؛ اختصاص تلك الأدلة في غير موارد الضرر، وقد جاء في كلامهم: ان قاعدة لا ضرر تحكم على أدلة التكاليف، ويعنون بذلك أنها تفسر المراد منها وتخصها بغير حالة الضرر. ومن مصاديقها ثبوت الخيار للمغبون، واعطاؤه الحق في فسخ العقد وارجاع ماله، وثبوت حق الشفعة للشريك، وكونه أولى من الأجنبي فيما لو باع الشريك سهامه في العين المشتركة لشخص آخر وعدم وجوب الوضوء أو الصوم أو الحج وغير ذلك من العبادات اذا لزم من الاتيان بها ضرر على المكلفين، ولا اشكال عندهم في نفي جميع الأحكام التكليفية والوضعية اذا لزم من بقائها ضرر على النفس أو المال)[22].
وبحسب هذا النص فإن الفكر الشيعي لا يعترف بحكومة المصلحة على سائر الأدلة الشرعية، بل يقتصر على ما فيه الضرر. لكن الخلاف الأساس بين الطوفي والفكر الشيعي يتحدد في علاقة المصلحة بالضرر. فالطوفي يرى ان المقابلة بينهما عبارة عن الضدية والتناقض بلا واسطة، فوجود المصلحة هو في حد ذاته يعد نافياً للضرر، والعكس صحيح. في حين ان الفكر الشيعي يكتفي بجعل العلاقة بين الطرفين علاقة مختلفة تتضمن العموم والخصوص، بحيث ان فوات المصلحة لا يعبر دائماً عن حضور الضرر، أو لكون المصالح الحقيقية هي تلك التي يقررها الشرع، وان ما يدركه العقل من مصالح مخالفة لا بد من أن تعبّر عن نوع من الأوهام العقلية. لذلك اقتصر فقهاء الشيعة على قبول ما نصّت عليه القاعدة في دفع الضرر المباشر، وكذا المصالح العقلية إن كانت قطعية ليس فيها مجال للإحتمال المقابل. وعليه فإن للفكر الشيعي ثلاثة اعتبارات لرفض نظرية الطوفي:
1 ـ إن الفكر الشيعي لا يرى الضدية بلا واسطة بين المصلحة والضرر كما هو الحال لدى نظرية الطوفي. لهذا فهو وإن مال إلى وجوب دفع الضرر؛ الا أنه في الوقت ذاته لا يجيز التعويل على مبدأ المصلحة الا ضمن شروط تتحدد بمنصوصيتها الشرعية أو بقطعيتها العقلية وعدم منافاتها لما ورد به الشرع، على ما سيأتي الآن.
2 ـ إن هذا الفكر يرفض المصلحة المرسلة كلياً حينما تكون ظنية لا قطعية. وكما يقول الشيخ المظفر بأن المصالح المرسلة وكذا الإستحسان وسد الذرائع (إن لم ترجع إلى ظواهر الأدلة السمعية أو الملازمات العقلية لا دليل على حجيتها، بل هي أظهر أفراد الظن المنهي عنه. وهي دون القياس من ناحية الاعتبار)[23].
وتجدر الاشارة إلى ان بعض المعاصرين اعتبر علماء الإمامية رغم نفيهم للمصالح المرسلة الا أنهم يقولون بها عملياً ويراعونها حق المراعاة بدلالة قولهم بفتح باب الإجتهاد واستمراره، وعملهم بإستنباط الأحكام لوقائع لا يدل على أحكامها نصوص ظاهرة من الكتاب والسنة، بناء على رعاية المصالح، تحت عنوان العقل وليس المصلحة وعنوانها. وقد استشهد بقول السيد هاشم معروف الحسني في (توضيح المراد على شرح التجريد): (رعاية المصلحة هي اتيان الفعل على ما يراه الحق صالحاً بدلالة الشرع أو العقل)[24].
لكن فات هذا البعض ما أدرجه علماء الإمامية من شروط لقبول المصلحة. كما فاته أن مبرر انفتاح الإمامية على الإجتهاد مستمد – مبدئياً - من الأدلة الشرعية والعقلية القطعية.
3 ـ إن المصلحة العقلية لدى هذا الفكر لا تخصص عاماً ولا تقيد مطلقاً ولا تغير حكماً، وكل ما يبدو فيه من منافاة لحكم النص يأول بكونه من أوهام العقل، وان المصلحة الحقيقية هي تلك التي تكون مستبطنة في حكم النص على اطلاق. وكما يقول السيد عبد الحسين شرف الدين: (نحن الإمامية اجماعاً وقولاً واحداً لا نعتبر المصلحة في تخصيص عام ولا في تقييد مطلق الا اذا كان لها في الشريعة نص خاص يشهد لها بالاعتبار، فاذا لم يكن لها في الشريعة أصل شاهد باعتبارها ايجاباً أو سلباً كانت عندنا مما لا اثر له، فوجود المصالح المرسلة وعدمها عندنا على حد سواء)[25].
هكذا يتبين رفض الفكر الشيعي لنظرية الطوفي جملة وتفصيلاً. إذ يمنع هذا الإتجاه الأخذ بالمصلحة ما لم تكن قطعية، فكيف اذا ما كانت على حساب النص؟!
بين الطوفي والامام الخميني
لكن مع كل ما سبق نشهد اليوم تطوراً كبيراً جرى على يد الإمام الخميني في تعديل الإتجاه لدى الفكر الشيعي وضوابطه الفقهية، نتيجة للإحتكاك بالواقع وضغط الحاجات الزمنية بعد تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة. فقد أعاد الإمام الخميني ما سبق ان انفرد به الطوفي في التعويل على المصلحة وترجيحها على حكم النص عند التعارض. وجسّد هذا المبدأ ضمن القرارات التي اتخذتها الدولة الإسلامية، حتى اعتبره بعض التابعين من الفقهاء بأنه صاحب طريقة جديدة في الإجتهاد لم يسبق لها غيره من علماء المذهب، سيما وأنه أقرّ بتأثير الزمان على عملية الإجتهاد وتقرير الاحكام[26]. فمن المعلوم أن فقهاء الشيعة ينكرون العمل بالمصلحة (الظنية) ولا يقرون مرجعيتها حتى بحدود ما لا نص فيه، لكن الحال لدى الإمام الخميني شيء مختلف تماماً، إذ أخذ على عاتقه مبدأ العمل باعتبارات المصلحة الخاصة بحفظ النظام مقدماً اياها على غيرها من الأحكام والأدلة الشرعية، وعلى رأسها أحكام النص.
وقبل ان نبين دعوة هذا الإمام لا بد من التذكير بأن فكرة المصلحة عند الشيعة اخذت تعيد نفسها في العصر الحديث بصيغة أخرى مقيدة بولاية الامر، أي بالتشريع الذي يقيمه ولي الأمر لتنظيم الحياة السياسية والادارية والاجتماعية، فهي من هذه الناحية تكون ذات صبغة ولائية تخص النظام السياسي، مثلما سبق إلى ذلك الإتجاه السني في اقرار الأحكام الولائية، فأطلق الإمام الصدر على هذه العملية (سد منطقة الفراغ)، وهي تشمل الأحكام التي يصيغها ولي الأمر مما لم يرد فيها نص تشريعي عام. أما فيما عدا هذه المصلحة المناطة بالأحكام الولائية؛ فما زال الفقه الشيعي لا يعترف بها. وبالتالي فهو يقيد المصالح الإجتهادية بالحاكمية السياسية.
وشبيه بهذا الحال نجد الإمام الخميني يحدد مجال الأخذ بالمصلحة وترجيحها. فهو يقيد المصلحة بحدود نظام الحكم السياسي فحسب ويرجحها على النص عند التعارض. فقد دعا إلى تكوين مجلس فقهي لتشخيص مصلحة النظام، أو استنطاق (الواقع) بعيداً عن فضاء النص وسائر اعتبارات الأدلة التقليدية الموروثة. ومن ذلك أنه أصدر فتوى عام (1988م) أعرب فيها عن أن الحكومة الإسلامية تمثل (سلطة السيادة المطلقة التي وكلها الله سبحانه وتعالى إلى الرسول (ص).. وان هذا أهم حكم من الأحكام الإلهية، وله اسبقية على كل الأحكام الإلهية الثانوية). وأضاف قائلاً: (لو حددت سلطات الدولة الإسلامية داخل اطار الأحكام الإلهية الثانوية فإن شكل الحكم الإلهي والسيادة المطلقة التي انيبت إلى الرسول (ص) سيكون ظاهرة جوفاء لا معنى لها)[27]. فهذا هو مبرر التعويل على المصلحة الواقعية التي أكدها بقوله: تستطيع الحكومة ان تلغي من جانب واحد عقودها الشرعية مع الناس حينما تخالف تلك العقود مصالح الدولة والإسلام، وتستطيع ان تمنع كل أمر عبادي أو غير عبادي اذا كان مخالفاً لمصالح الإسلام ما دام كذلك، وتستطيع الحكومة ان تعطل الحج وهو من الفرائض الإلهية المهمة مؤقتاً في الحالات التي تعتبره مخالفاً لصلاح الدولة الإسلامية.
ومن الأمثلة التي ساقها على ذلك: وضع يد الدولة على املاك خاصة لمشاريع عمومية ورئيسية: مثل بناء الطرق الجديدة وفرض الخدمة العسكرية الاجبارية والتجارة الخارجية وجباية الرسوم الجمركية والضرائب على المصنوعات وعلى الأفراد وفرض التسعير المناسب للمنتجات والبضائع والخدمات، ومنع الغلاء والاحتكار وبيع المخدرات وتداولها وتخزين المواد وحمل الاسلحة النارية وتهريب العملة الصعبة والسلع الممنوعة، وجواز تخطيط الشوارع والتصرف بمنازل الاخرين وحريمها، وكذا جواز تحديد النسل ومنع تكاثر السكان عشوائياً ووضع شروط الزامية من قبل الحكومة في التعامل بين الأفراد والمؤسسات؛ مثل علاقة العامل برب العمل، ووضع شروط ملزمة اثناء الزواج، وكذا جواز قضاء غير المجتهد العارف بالاحكام، ومنع استخدام الانفال دون قيد وشرط تبعاً لتحليل الانفال للشيعة؛ كمنع قطع اشجار الغابات، وجواز بيع السلاح لاعداء الدين لو كان فيه تقوية للبنية المالية والمصلحة العامة للمسلمين.
بهذا يتبين مدى الاتفاق الذي يجمع بين الطوفي والخميني، مع أن الأول لاقى في حياته الكثير من المتاعب على آرائه وأفكاره، خلافاً للثاني الذي مازالت آراؤه مورد توسعة واعتماد وتنفيذ. وبالتالي فإن سرّ العلاقة التي جعلتنا نجمع بين هذين الفقيهين هو ما انفردا به من إجتهاد خاص رجحا فيه المصلحة العقلية على النص عند تعارضه معها. أي انهما أجازا تغيير حكم النص بهذه المصلحة. ومعلوم أنه لم يقل بذلك احد قبل الطوفي ولا بعده من الفقهاء سوى روح الله الموسوي الخميني. فتلك هي العلاقة التي تربط بين فقيهين ينتميان إلى مذهبين وزمانين مختلفين، أحدهما معاصر ومؤسس لدولة اسلامية، والآخر عاش قبل سبعة قرون مضت.
ايران وتجديد الإجتهادشهد الفقه الشيعي بعد الثورة الإسلامية في ايران تحولاً جديداً جعله يختلف عما كان عليه من قبل. فلأول مرة في تاريخ هذا الفقه يصرح عالم لامع بضرورة أخذ اعتبار المصلحة وشروط الزمان والمكان في تشريع الأحكام، معتبراً إجتهادات القدماء إنما جاءت طبقاً لشروط ظروفهم من الزمان والمكان. فهذا ما صرح به الإمام الخميني مشيراً إلى أنه لا يبغي من ذلك ايجاد فقه جديد يختلف عن الفقه التقليدي مثلما هو الحال لدى النجفي صاحب الموسوعة الفقهية الشهيرة (جواهر الكلام). لكن واقع الحال أنه تجاوز طريقة النجفي وغيره ممن رسموا الصورة التقليدية للفقه، خصوصاً وأنه اعتبر الحكم الفقهي قد يكون له موضوع هو غير الظاهر من المسألة، وأنه أدخل في الحساب الشروط الزمانية والمكانية في التشريع الإجتهادي، كما أنه أجاز التعارض بين المصلحة في نظام الدولة الإسلامية والأحكام الجزئية ورجح الأولى على الثانية عند التعارض، فكل ذلك يعد تجاوزاً لما كان، وهو بداية الثورة على الفهم التقليدي.
وتبرير ما حدث مستمد من التحولات التي مرت بها الأحكام والفتاوى عبر التاريخ دون ان يغطيها شيء من التنظير والتبرير. فقد تهيء للخميني أن يضع النقاط على الحروف، إذ كان كل من يَقْدِم على رأي جديد يتجاوز اعتبارات السلف يواجه حشداً من الاعتراضات، وبعد عملية الجدل والصراع بين الرفض والقبول ينتهي الأمر - عادة - لصالح الاخير تبعاً للحاجة الزمنية. فالكثير من القضايا المستجدة التي لها مساس بالحياة الاجتماعية الحديثة واجهت في البدء رفضاً قوياً، ثم تحول الأمر شيئاً فشيئاً إلى قبولها وامتثالها، واصبحت تقبع كجزء من النظام المعرفي المسلم به، وذلك بعد اضفاء التبرير الشرعي عليها بفعل ضغط الواقع. هذا ما حصل مع التلفزة والموسيقى والتصوير والنحت والفنون وبعض أنواع الغناء وغيرها، يضاف إلى القضايا والاشكاليات الثقافية التي زرعها المثقفون الدينيون والعلمانيون على السواء، مثل قضايا حقوق الإنسان والمرأة وحرية الرأي والديمقراطية والدستور والمواطنة والمساواة وغيرها من القضايا والاشكاليات[28].
فقد واجه الفقه السني مثل هذه الأمور وذلك بفعل احتكاكه بالواقع والانفتاح على حاجات الدولة وما واجهته من مستجدات غربية فرضت نفسها على العالم ككل. أما الفقه الشيعي فقد مر بعزلة شديدة بفعل موقفه السلبي من الدولة وسلطتها السياسية، لكنه لا يختلف عن نظيره السني في موقفه الرافض للجديد من الافكار والمواقف الفقهية. وقد خطا الخميني خطوة جريئة لإنهاء لعبة الجدل بين الرفض والقبول لكل مستحدث جديد. ويعد هذا المسلك فريداً بمقاييس الإجتهاد الشيعي، حيث التعويل على اعتبارات الزمان والمكان وطرح ما يقابلها من اعتبارات السلف وإجتهاداتهم، كذلك ترجيح المصلحة على حكم النص. فهو يعول على منهجين كلاهما يعودان إلى فاعلية الواقع ويرجحهما على كل من اعتبارات السلف والنص. ففي مطالبته لأخذ اعتبارات الزمان والمكان في تأسيس الأحكام؛ تجاوز ما عليه طريقة السلف في فهمهم لقضايا الإجتهاد والاستنباط. أما ترجيحه للمصلحة العامة على النص عند التعارض؛ فقد تجاوز فيه الاطلاق الذي يبديه النص وما اتفق عليه العلماء من حجية.
مع هذا فإن بعض الفقهاء الجدد لا يعتبر ما جاء به السيد الخميني في مورد تأثير الزمان والمكان على الأحكام جديداً، معتبراً ان هذا المبدأ قد عمل به الفقهاء ضمن حدود، لكن ما فعله الخميني هو توسيع دائرة هذا المطلب مما كان يطبق في بعض المجالات إلى نطاق يشمل مختلف الابواب الفقهية. والشاهد المذكور بهذا الصدد يعبّر عن قضية جزئية تتعلق بالغصب كما اوردها الفقهاء، ومفاده أنه لو غصب شخص ثلجاً في الصيف وأراد ان يعيده إلى صاحبه في الشتاء، فإن الحكم في ذلك هو عدم الصحة، بل لا بد ان يعطي المالك قيمة ما تم غصبه وليس المادة المغصوبة حيث تفقد قيمتها في الشتاء. وكذا لو ان الشخص غصب ماءً في الصحراء، ثم أراد ان يعيده إلى صاحبه وهو بقرب نهر، فإن هذا التعويض لا يصح، بل لا بد من تغريمه قيمة ما غصبه وهو في الصحراء[29].
وواضح ان الشاهد جزئي وقد لا يتعدى حدود الغصب، بدلالة أنه في حالة القرض تختلف النتيجة تماماً، إذ لا تجد الفقهاء يأخذون اعتبارات الظرف من المكان والزمان بالاعتبار. أي اننا لو استبدلنا الغصب بالقرض في المثالين الانفي الذكر لكانت النتيجة عكسية، وهي جواز رد مثل الشيء أو عينه دون قيمته. فكل ما هنالك ان الفقهاء في حالة الغصب اعتبروا سبب الضمان هو للأضرار الذي الحقه الغاصب بالمالك، والحيلولة دون الانتفاع بملكه.
ويظل ان المبدأ العام الذي يتحكم بطريقة الفقهاء التقليديين هو بطلان الإجتهاد عند وجود النص، الا ما كان له علاقة بفهمه بحسب الصور اللفظية، لكنهم تسامحوا - ضمن حدود - عند عدمه، وهو الأمر الذي يفسر لماذا كان الفقهاء يقبلون الرد بالمثل في حالات القرض ولم يقبلوا ذلك في حالات الغصب. وبعبارة أخرى، ان الفقهاء سلكوا هذا السلوك المزدوج بسبب ورود نصوص (المثلية) حول القرض دون الغصب.
في حين ان ما جاء به الخميني هو غير تلك الصورة، حيث أنه تقبل الإجتهاد حتى مع وجود النص، الأمر الذي يرفضه فقهاء الطريقة التقليدية؛ معتبرين هكذا إجتهاداً هو في قبال النص، وانهم على ذلك عدوا الأحكام مؤبدة غير قابلة للتغيير، وهو ما يفسر عدم اهتمامهم بمبدأ تأثير الزمان والمكان على الأحكام، خصوصاً وأنه متداول لدى فقهاء السنة منذ زمن بعيد. فمع ذلك لا توجد اشارة توحي بقبول هذا المبدأ ولو بحدود الفتاوى الإجتهادية غير المنصوص فيها كالذي يعمل به فقهاء السنة، فكيف الحال مع الأحكام التي تعود إلى النص ذاته؟!
وقد يوحي ما ذكره المقدس الأردبيلي (المتوفى سنة 993هـ) أنه استثناء يقترب معناه من المعنى الذي آل اليه الإتجاه السني، وهو قوله: (.. واحتط مهما أمكن، فإن الأمر صعب، ولا يمكن القول بكلية شيء، بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات والأحوال والازمان والأمكنة والاشخاص، وهو ظاهر، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف، امتياز أهل العلم والفقهاء شكر الله سعيهم ورفع درجاتهم)[30]. لكن على ما يبدو أن ما قصده الأردبيلي من الأحكام في كلامه المجمل السابق هي الأحكام المنصوصة، بمعنى أن الشرع في أحكامه قد راعى هذه النواحي من خصوصيات الأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص، فجاءت الأحكام مختلفة تبعاً لذلك، وهو بهذا المعنى لا يدعو إلى العمل بأحكام جديدة غير منصوصة، سيما وأن هذا الكلام قد أورده صاحبه بمناسبة اختلاف حالات الصلاة في السفر والإقامة والجهل لبعض المواضع والإشتباه فيها، وكلها مما لها علاقة بما هو منصوص، ولا علاقة لذلك بالمصالح والمضار عادة.
هكذا تعد طريقة الإمام الخميني جديدة بما تتضمنه من القاعدة الكلية التي تطبق على مختلف أنواع الأحكام.
ومن الفقهاء المعاصرين من ادلى بنماذج مفيدة تختلف عما هو متداول لدى الطريقة التقليدية، وذلك أنه أخذ باعتبار المصالح والمقاصد، وطبّق مبدأ تأثير الزمان والمكان على الأحكام، كما هو الحال مع الشيخ مرتضى مطهري. ومن الشواهد التي اوردها بهذا الخصوص رأيه حول الرهان في السبق، وحول بيع وشراء النجاسات؛ مثل دم وغائط الإنسان، إذ رأى ان المنع في بيعهما وشراءهما جاء لعدم وجود استعمال مفيد يجعلهما ذا قيمة وجزءاً من ثروة الإنسان، وذلك استناداً إلى مبدأ قوله تعالى: ((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)) البقرة/188. فالمنع على هذا ليس له اصالة، إنما تتحدد الاصالة بالتبادل القائم بين شيئين نافعين للانسان. فبقدر ما ان هذا الأمر ثابت باعتباره ينبع من حاجة اجتماعية ثابتة؛ بقدر ما أمكن فهم صور التغير في أحكام النجاسات وغيرها، طبقاً لذلك المبدأ. أي ان نفي المالية والتبادل عن تلك النجاسات هو أمر مرهون بالعصر والزمان، فحيث ان الظروف تغيرت وأنه امكن الاستفادة من هذه الأشياء فإن الحكم ينقلب إلى الحلية[31].
ويلاحظ ونحن بهذا الصدد ان الشيخ الانصاري طرح قضية تتعلق بمسألة الاستفادة من النجاسات رغم وجود النصوص التي تنهى عن بيعها واكلها أو شربها، فقد يلاحظ ان ما طرحه السيد الخميني وتلميذه مطهري لا يختلف عن طرح الانصاري. لكن حقيقة الأمر هو ان مورد الاختلاف بينهما يتعلق بمسألة النص. فقد استند الأنصاري في طرحه على حلية الاستفادة من النجاسات إلى النصوص، وليس لحاظ المصلحة الواقعية أو العقلية ومن ثم ترجيحها على النصوص الناهية أو تقييدها ضمن بعض القيود، فهو لم يعول على استكشاف مقصد الحكم، وكما قال: (إذا قام الدليل الخاص على جواز الانتفاع منفعة مقصودة بشيء من النجاسات فلا مانع من صحة بيعه، لأن ما دل على المنع عن بيع النجس من النص والإجماع ظاهر في كون المانع حرمة الانتفاع، فإن رواية تحف العقول المتقدمة قد علل فيها المنع عن بيع شيء من وجوه النجس بكونه منهياً عن أكله وشربه..)[32]. الأمر الذي يختلف مع ما آل اليه جملة من المعاصرين الشيعة، ابرزهم الخميني باعتباره صاحب طريقة لم يسبقه فيها من الفقهاء الاعلام غير الطوفي.
هكذا فبحسب الطريقة الجديدة للخميني أصبح الإجتهاد مستنداً إلى مبدأ الواقع خارج نطاق النص، ومن ذلك أنه جدد بعض الفتاوى والأحكام بخلاف ما هو السائد وسط الفقهاء، مثل رأيه حول موارد الزكاة والرهان في السبق والانفال والشطرنج والالات الموسيقية، خصوصاً وان بعض هذه القضايا عُدّت من المحرمات في ذاتها كما اشار إلى ذلك المحقق الحلي، وسبقه في تأكيد حرمتها شيخ الطائفة الطوسي[33]. لذلك أثارت هذه الطريقة حفيظة التيار التقليدي من الفقهاء، فاستشكل عليه عديدون، بعضهم من تلامذته مثل الشيخ محمد حسن القديري، مما جعل الخميني يذكّره في رسالة خطية بما مضمونه: أنه بغير الفهم الجديد لمثل تلك القضايا فإن الفقه الإسلامي سوف ينفصل عن الحياة ولا يصلح تطبيقه بأكثر من حياة الكهوف والصحارى المعزولة.
أما الآثار التي أحدثها الإمام الخميني على القضايا التي واجهتها الجمهورية الإسلامية فهي كثيرة، منها ان هذه الدولة سمحت بتعطيل حكم الجزية الوارد ذكره في القرآن الكريم، حيث لم يرد في الدستور الايراني شيء حول الجزية وقوانين الذمة، بل صرح الدستور بانه على الحكومة وعلى المسلمين أن يعاملوا الاشخاص غير المسلمين بالاخلاق الحسنة والقسط والعدل الإسلامي، وأن يراعوا حقوقهم الإنسانية[34].
كما الزمت الدولة التسجيل الرسمي للزواج، وذلك في قانون (1310) كي تحول دون سوء الافادة، وحددت عقوبة للمتخلف عن ذلك. والذي حصل ابتداءاً ما حَكَم به مجلس حماية الدستور من ان هذا القانون هو خلاف الشرع. لكن بعد ذلك أصبح القانون ساري المفعول، ووفرت له ضمانة تنفيذية. وكذا هو الحال مع القانون الخاص بالغرامة التي يحددها البنك على المقترض فيما لو أخّر تأديته للقرض، حيث لم يقر بها مجلس حماية الدستور وعدّها رباً، وكان البنك المركزي كثيراً ما يستلم رسائل اعتراضية على ما يقوم به. لكن عندما طرحت القضية على مجلس تشخيص المصلحة فإنه أقرّ تلك الغرامة. ومثل ذلك ما حدث مع قضية حق الكسب والحرفة، فلو ان مؤجراً أجّر محلاً لمستأجر ثم أخرجه بعد مدة، فعليه أن يدفع له تعويضاً يُطلق عليه حق الكسب والحرفة، وهو ما يسمى بـ (السرقفليه). وقد كان فقهاء حماية الدستور يعدون العمل بها حراماً طبقاً للفتاوى السائدة، معتبرين المادة المرقمة (190) والتي تعترف بذلك الحق بأنها مادة مخالفة للشرع. لكن حين طُرحت القضية على مجلس تشخيص المصلحة فإنه أقرها[35].
وبخصوص القضاء لم تجد الدولة الإسلامية مجالاً للأخذ بفكرة شرط الإجتهاد في القاضي، وهو الرأي الذي ذهب اليه جمهور الفقهاء. كما أنها اضطرت - كما فعل مجلس تشخيص المصلحة - إلى اقرار مسألة الاستئناف وتجديد النظر للأحكام القضائية بعد أن وجدت امامها الكثير من المشاكل القضائية العالقة، وهو أمر خلاف المسلّم به سابقاً والذي يعتبر حكم القاضي حكماً قاطعاً لا يصح اسئنافه الا في موارد محدودة جداً[36] . كذلك أنها لم تجد بداً من ان توحّد القضاء لتتخلص من مشاكل اختلاف الرؤية المسلّم به سابقاً، اعتماداً على قوة القانون في حسم القضايا وتحديد العقوبات اللازمة تحديداً مسبقاً أو موحداً. وسبق لمثل هذه الظاهرة ان أُثيرت خلال القرون الأولى من التاريخ الإسلامي، فقد شكى الكاتب عبد الله بن المقفع إلى الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور ما أفضت به الأحكام القضائية من فوضى وفساد بسبب تضاربها، فاقترح عليه توحيد الأحكام وإلزامه على الناس وافشائه[37].
بل هناك دعوة لصياغة الأحكام بالتقنين دون الإعتماد على فتاوى المراجع، لإختلاف فتاواهم ، وبإختلافها تفضي أمور الدولة إلى الفوضى، سيما في المسائل السياسية والقضائية. وقد وجّه البعض ما جاء في الحديث (الراد عليهم - الأئمة - كالراد على الله وهو في حد الشرك) بأنه مقيد بزمان النص، إذ كانت الحكومة بيد السلاطين الظالمة، لذلك دعا الأئمة الناس إلى اتباع الفقهاء ورواة الحديث ومن ثم المجتهدين فيما بعد[38].
على ان الانطلاقة التي فجرها السيد الخميني جعلت الفقهاء الجدد ينفتحون على أبواب ما كان لهم أن يجرأوا على طرقها لولا تلك الإثارة مع وجود الحاجة وضغط الواقع. وأصبح الحديث عن المقاصد الخاصة غير المنصوص فيها وارداً، وقد كانت محظورة لدى الفهم التقليدي الذي اكتفى بقاعدة كشف الملاك من النص دون غيره. واخذ الفقهاء الجدد يتحدثون عن قضايا مثل اباحة التشريح وبيع الدم وشرائه... الخ، بعد أن كانت هذه المسائل من المحرمات، وبعضها ورد النص في حرمته صراحة كبيع الدم. كما أخذ البحث يدور في اطار الزكاة لايجاد مخرج عما حدده النص من ضيق في الموارد. كذلك أعاد البعض النظر في حكم العاقلة التي ورد حولها عدد من النصوص، وهي تعني دفع الدية للقتل الخطأ، حيث جاء أن دية القتل الخطأ على عصبة القاتل أو قرابته من أبيه، وهو يوافق ما كان عليه الوضع في زمن النبي، بحكم سيادة النظام القبلي آنذاك، إذ من المعقول أن يكون هناك ضمان اجتماعي مشترك وسط الجماعة أو القبيلة لحل المشاكل التي تعترضهم. أما اليوم فحيث السائد ليس هو النظام القبلي، بل القوانين المدنية العامة، لذا اعتبر البجنوردي من الفقهاء الجدد ان موضوع العاقلة أصبح غير قابل للطرح، سيما وقد يكون المرء لم يرَ قريبه القاتل مرة في حياته؛ فكيف يجزّى ويضمن من أمواله مع أنه لم تعد بينه وبين القاتل صلة تذكر[39] ؟! وهو اقصاء لقضية العاقلة مع ما لها من مقاصد. نعم ان ما ذكر من تحول النظام القبلي إلى غيره يدعو إلى تغيير الحكم الخاص بالنظام القبلي، لكن ذلك لا يلغي اعتبار مبدأ العاقلة من الاساس، فلكونه مبدأً تضامنياً يكفل مصلحة الجماعة فإن من الممكن توظيفه ليس في نطاق العشيرة أو القبيلة التي ذهب ريحها أو فقدت قدرتها على التضامن، وانما في نطاق الوظيفة التي يندرج الشخص في العمل تحتها، فتكون الجماعة التي ترتبط بوظيفة معينة ملزمة بدفع بعض الضرائب لمثل هذه الطوارئ، وهي حالة سبق ان جرى العمل بها - حسب ما روي - في عصر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.
كما عمد بعض آخر إلى معالجة حكم الأضحية انطلاقاً من المقصد، معتبراً ان وجوبها متوقف على شرط ان تؤكل، وهو قوله تعالى: ((فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر)) الحج/36، فحيث أنه اليوم يجرى ذبح الأضاحي دون ان تؤكل، فلا بد ان يتبدل الحكم تبعاً لذلك[40].
كذلك حاول البعض ان يتنصّل من الإشكالات العالقة بالتعامل مع البنوك؛ معولاً في ذلك على وجود علاقات مستحدثة لا يصح اقحامها ضمن اعتبارات الربا الوارد ذكرها في النص. ذلك ان الممارسة البنكية هي ممارسة استثمارية تتحول فيها الأموال السائبة إلى عمل، وبها تدور عجلة اقتصاد العالم، فهي بالتالي ضرورة حياتية تتوقف عليها كافة انظمة الحياة الاجتماعية، كذلك أنه لا وجود للشخص في هذه الممارسة، بل أنها منّا والينا، مما يجعلها مختلفة عن الممارسة الربوية التي حرمها الشرع الإسلامي[41].
وكذا دعا بعض آخر إلى اتخاذ موقف رافض للجمود العالق بعدد من فتاوى الطريقة التقليدية، وهي الفتاوى التي أصبحت لا تتناسب مع ما عليه الواقع، ومن ذلك: حصر حكم الاحتكار في الغلات الأربع، وجواز التصرف في الانفال التي أُحلت للشيعة حتى في الموارد التي يتمكن البعض فيها من تدمير آلاف الهكتارات من الغابات، وجواز التملك اللامحدود للأراضي الموات لمن له القدرة على احيائها، ومنع تحديد النسل، ومنع هدم المساجد والموقوفات في حالة ترتب أضرار اجتماعية عليها، وحصر مشروعية الرهان في السبق والرماية بالخيل والقوس والسهم، ولزوم تعطيل الحدود والقصاص في الغيبة الكبرى، وانحصار ثبوت خيار المجلس في المعاملات التي يكون البائع والمشتري حاضرين في مجلس المعاملة فقط، وخروج المعاملات التي تتم عبر الهاتف - مثلاً - من دائرة هذا الحكم، وتحليل الربا عن طريق تغيير كيفية المعاملة الربوية، وعدم مشروعية التعزيرات الا بالجلد، وضرورة استعمال السيف في اجراء الحدود، ولزوم دفع الدية بشكل مائة بعير أو مائتي بقرة أو حلة يمانية لأولياء المقتول عمداً من دون اكتفاء بالنقد أو ما له قيمة مالية [42].
هكذا تجري اليوم في ايران حركة جديدة من الذوق الفقهي لم تكن مألوفة من قبل، رغم أنها ما زالت تفتقر إلى التنظير العلمي المطلوب. وقد نشأت بفعل تطورات الواقع وما أفرزه من حاجات جديدة. الأمر الذي جعل بعض الفقهاء الجدد يشكك في صحة ما كانت عليه الطريقة التقليدية للفهم الفقهي، حيث ظهر عجزها وعدم قدرتها على مواكبة الحياة وحل المشاكل الحديثة، كالذي أفاده الشيخ أحمد جنتي.
[2] لاحظ بهذا الصدد الفصول الثلاثة الاخيرة من: جدلية الخطاب والواقع.
[6] لاحظ: رسالة الطوفي، مصدر سابق، ص109 و138 و141 و123 و143.
[7] المصدر السابق، ص 123.
[8] المصدر، ص143.
[9] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص27.
[12] المنار، ج5، ص9.
[13] الأصول العامة للفقه المقارن، ص391-392.
[14] الأصول العامة للفقه المقارن، ص391-392.
[15] رسالة في رعاية المصلحة، مصدر سابق، ص110.
[17] الموافقات، ج4، ص209.
[20] محمد باقر الصدر: لا ضرر ولا ضرار، تقرير كمال الحيدري، دار الصادقين، قم، ص345 وما بعدها.
[21] فرائد الاصول، ج2، ص537.
[23] اصول الفقه، ج2، ص178.
[29] حوار مع ناصر مكارم الشيرازي، قضايا اسلامية، عدد4، ص22 و24.
[30] المقدس الأردبيلي: مجمع الفائدة والبرهان في شرح ارشاد الأذهان، مصدر سابق، ج3، ص436.
[35] حوار مع الدكتور حسين مهربور، قضايا اسلامية، عدد4، ص59 و61.
[38] حوار مع السيد حسن المرعشي، قضايا اسلامية، عدد4، ص68ـ69.
[39] حوار مع السيد محمد الموسوي البجنوردي، المصدر السابق، ص52ـ53.
[40] حوار مع ناصر مكارم الشيرازي، المصدر السابق، ص26.
[41] حوار مع الشيخ محمد هادي معرفة، المصدر السابق، ص38ـ39.