-
ع
+

الطائفية: التشرذم والسقوط الاخلاقي

يحيى محمد

تستند الطائفية الى مسلّمة تفترض ان المذاهب الدينية ماهيات ثابتة، وان أتباعها كيانات لا تتقبل تغير المعتقدات. وهي مسلمة خاطئة تكذّبها الاختلافات الواسعة والمتحولة بفعل حركة الواقع لدى كل مذهب على مر العصور. بل وتكذّبها ظاهرة التنافس بين قبول الآخر واقصائه لدى كل مذهب.

وكتجربة خيالية، من الممكن تصور نتيجة ما سيحدث حين نجمع من المتطرفين الاقصائيين واحداً لكل مذهب من المذاهب الدينية في العالم ونضع بيده سلاحاً قاتلاً في صالة مقفلة، ونفس الشيء نفعل مع المعتدلين.. حيث النتيجة واضحة، ففي صالة الاقصائيين سيعمل الكل على قتل الكل بخلاف صالة المعتدلين. وهي تجربة إن دلت على شيء؛ فإنها تدل على ان نزعة الطائفية غير صالحة للحياة، سواء من حيث المسلّمة الخاطئة التي تستند إليها، أو من حيث النتيجة التي تسفر عنها.

ويدرك المثقفون أن هذه النزعة تُعد واحدة من أخطر الظواهر الإنسانية التي تدمر بناء الفرد وتفكك النسيج الاجتماعي. فهي عامل هدم يقوّض القيم الروحية والأسس الأخلاقية، ويُضعف الروابط الإنسانية من خلال اشاعة الكراهية والانقسام بين أبناء المجتمع الواحد، الامر الذي يهدد سلامة البلدان واستقرارها. كما تُسهم في تأجيج الصراعات الدموية والانقسامات المتتالية، ومن ثم تفسح المجال أمام العدو المشترك للتغلغل والسيطرة على مصائر الشعوب وثرواتها.

ومع ذلك فقد اصبحت هذه النزعة ثقافة عامة متداولة لدى عدد من المجتمعات رغم خطورتها القاتلة، وان اغلب خطباء الدين ودعاته فضلاً عن العديد من علمائه يعملون على اشعال فتيلها في البلدان ذات الاطياف المذهبية المتنوعة؛ مستحضرين مقالة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال والشرك.

ورغم ان المثقفين يدركون خطورة هذه الفتنة تماماً؛ فالكثير منهم – مع ذلك - يساهم في تأجيجها، سواء بالتصريح او بشتى اشارات التلويح والايحاء والغمز واللمز وغيرها. فحتى الاعلان الشخصي والجماعي عن الانتماء المذهبي كثيراً ما يراد به الطعن في الاخر تلويحاً وايحاءاً.

ومن المثقفين من لا يعد نفسه حاملاً للروح الطائفية، رغم مقالاته التي تشيء بهذه الروح حتى وان كان ذلك من دون وعي، لا سيما عندما يتصيد عيوب الاخر مع اغفال عيوب الفئة التي ينتمي اليها. ويظهر اثر ذلك في المعترك السياسي بعد سقوط نظام صدام بالامس، وسقوط نظام بشار اليوم، والذي تحوّل الى معترك طائفي تصريحاً وتلويحاً.

وما نشهده اليوم من تحريض مستعر على الكراهية والفتنة الطائفية، لا سيما من النخب الدينية العلمية والثقافية، يشكّل تهديداً خطيراً لنسيج مجتمعاتنا الواهية. يكفي أن ترى الماكنة الاعلامية وتتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لتصدم من الكم الهائل من المنشورات والتعليقات التي تروج للكراهية والرغبة في قتل الاخ لأخيه الاخر، سواء من حيث المبادرة، أو من خلال الردود التي تكرس نفس المنطق الخطير. وجميعها تصب في افساد الفطرة واغتيال القيم الروحية والأخلاقية التي تشكل أساس الحضارات.

حتى الادانات اصبحت تُغلف طائفياً ودينياً دون ان توجَّه الى المتهمين والمجرمين باسمائهم الشخصية بلا مزيد، رغم ان كل مجتمع لا يخلو من الصالح والطالح، والبرّ والفاجر، والطيب والخبيث، والبريء والمجرم. فكل سيئة حاضرة هنا فهي حاضرة هناك، وكل حسنة نجدها هناك فهي موجودة هنا ايضاً. بل هذه سجية البشر جميعاً، ولا توجد ثوابت وماهيات لنحكم بها على هؤلاء او اولئك.

فالتعميم الذي يدين فئة بأكملها بجرائم قلة من أفرادها هو تعميم مضلل وانتهاك فادح ينافي العدالة ويناقض القيم الأخلاقية. ويستثنى من هذا الحال فيما لو تبنت الفئة نهجاً معلناً او واضحاً للقتل والبطش مدفوعةً بتعصب الهوية، على غرار ما تقوم به التنظيمات الإرهابية التي تروج للكراهية والقتل والتكفير تحت ستار الدين، وعلى رأسها تنظيم داعش.

إن مواجهة هذه الآفة تتطلب سنّ قوانين صارمة تجرّم العنصرية بجميع أشكالها، وعلى رأسها العنصرية الطائفية، ومحاسبة كل من يثبت تورطه في في تأجيج هذه النعرات المدمرة، لا سيما عند النيل من الرموز المقدسة لدى اصحابها. كما ينبغي تعزيز قيم التسامح والتعايش، وإصلاح كل من النظام السياسي والخطاب الديني بما يدعم وحدة المجتمع في كافة مكوناته واطيافه، وتوجيه التعليم والإعلام لخدمة هذا الهدف. وهو ما يتطلب وعياً جماعياً وإرادة صادقة لبث روح المحبة والتسامح بين أفراد المجتمع بمختلف طوائفهم وأعراقهم.

وتقع على عاتق الشباب الواعي مسؤولية التحرر من قيود التعصب والانحياز المذهبي، والعمل على فضح هذه الفتنة القاتلة وردم الهوة التي يحاول العدو اغراقنا فيها. فالجميع في هذه المعركة خاسر، باستثناء العدو المشترك، فهو الرابح الوحيد وراء تمزيق مجتمعاتنا الهشة.

وإذا كان الاستبداد الديني أعظم صنوف الطغيان والاستبداد كما يرى الكواكبي، فإن التعصب الطائفي هو أبشع ألوان الخراب الاجتماعي، وأشدها خطراً على أمة أثقلتها الأزمات من كل جانب.

***

قد يقال ان فتنة الطائفية لازمة من لوازم الوجود الديني، فمصدرها عائد الى الدين لا غير، فما من دين الا ويخلّف هذه الظاهرة المقيتة، وبالتالي فان ازالتها مرهون بازالة الدين ذاته حيث هو الاساس في توليدها.

ويجاب على هذه الدعوى من جانبين:

الاول، هو ان الكثير من مظاهر الطائفية يعود الى جماعات ليس لها علاقة بالتدين والالتزام، فارتباطهم بالدين والمذهب لا يتجاوز الانتساب فحسب. وهم اشبه بقطاع الطرق الذين لا ذمة تحكمهم ولا ضمير يردعهم.

أما الجانب الثاني والاهم، فيتمثل في ان الطائفية هي وليدة التمذهب المغلق والمتحول الى ما يماهي الدين في نظر المتلقي. فقد اصبح من الصعب على المتلقي العادي ان يميز بين ما هو دين الهي منزّل، وما هو مذهبي من صنع البشر.

وفي الذِكر الحكيم جاءت تسمية أتباع الدين المحمدي بالمسلمين كما في قوله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ (الانبياء\ 78)، في حين لم ترد حولهم اي تسمية اخرى من قبيل: (هو سماكم سين او شين، او صاد، او عين، او دال، او زاء، او اس، او اش، او سل)، او اي حرف بعدد حروف العربية واكثر.. فجميعها على اختلاف هوياتها لم تكن محل تنزيل سماوي، وقد تعرضت الى الكثير من الاضافات البشرية من حيث الاعتقاد ومظاهر السلوك. لذلك فالطائفية ليست وليدة الدين ذاته، بل وليدة التمذهب المنغلق والفهم الخاطئ للدين. كما ليس بالضرورة ان تكون جميع الافهام خاطئة او سقيمة، فتنوع الافهام يجعل وجود مساحة تسمح بالفهم المعتدل الذي يتجاوز هذه الظاهرة المقيتة. بدلالة ان الممارسات التي يسلكها الطائفيون بعيدة تماماً عن التعاليم الدينية بأبعادها الاخلاقية. لذلك لا بد من توجيه الفهم اعتماداً على تنمية الضمير الاخلاقي الذي لم يراعه الفقهاء وسائر علماء الدين المؤثرين.

وتعود اهمية هذا الضمير الى انه مكوَّن فطري نابت في اعماق كل انسان من دون تمايز ولا اختلاف. فهو بهذا المعنى مصدر توجيه انساني ودين فطري له من الوضوح ما ليس للدين المكتسب من وضوح.

إن اهم ما يتأسس على الضمير الاخلاقي هو (التدين الانساني) القائم على المحبة والقيم الانسانية المشتركة، ويقابله (التدين العدواني) القائم على القتل والتضليل والتكفير، وللاسف انه مستشرٍ في مختلف المذاهب الدينية. ولولا ان الفقهاء وعلماء العقيدة لم يعيروا الضمير الاخلاقي اهمية؛ لكان له دور بارز في تضييق اثر الطائفية الى ادنى حد ممكن.

comments powered by Disqus