يحيى محمد
للدائرة العقلية ثلاثة أنماط من التأسيس العقلي:
الأول: إن لهذه الدائرة تأسيساً للنظر القبلي يجعلها قادرة على إنتاج تشريعات معيارية تنافس بها تشريع نص الخطاب.
الثاني: إن لهذه الدائرة تأسيساً خارجياً للخطاب الديني يجعلها تعمل على إثبات المسألة الدينية وإضفاء الحجة والمشروعية عليها.
الثالث: إن لهذه الدائرة تأسيساً داخلياً يتمثل في فهمها للخطاب الديني. فهي في هذا التأسيس تضع قوانينها الخاصة، ومن ذلك أنها تفرغ النص من محتواه البياني وتحول دلالاته إلى «متشابه».
ويعتمد تبرير هذه التأسيسات الثلاثة بعضها على البعض الآخر. فأولها هو التأسيس القبلي للنظر، واليه يستند التأسيس الخارجي للخطاب، إذ يتوقف إثبات المسألة الدينية لدى الدائرة العقلية على ما يقوم به التأسيس القبلي للنظر من تشريع. ولولا هذا التأسيس لتعذّر إثبات تلك المسألة، كالذي تحدثنا عنه في (العقل والبيان والإشكاليات الدينية). وكذا هو الحال فيما يتعلق بالتأسيس الداخلي للخطاب، إذ يعتمد أساساً على التأسيس القبلي للنظر، كما أن مبرر قيامه لدى هذه الدائرة عائد إلى التأسيس الخارجي. فمثلما يدين الخطاب إلى العقل في إثباته وجعله حجة قاطعة، فكذلك يكون الفهم مرتكزاً على العقل ومعاييره بما فيها تلك التي تعمل على تحويل بيان النص إلى «متشابه». فبرأي هذه الدائرة أن التفكيك بين العمليتين يفضي إلى التناقض، بمعنى أنه لا يمكن إنكار حجة العقل في التأسيس الداخلي رغم الإعتراف بحجته القاطعة في التأسيس الخارجي. وبالتالي فإما أن يكون العقل حجة على الدوام في الحالين، أو أنه غير حجة بالمرة، لكن الفرض الأخير يفضي إلى عدم إمكان تأسيس الخطاب من الخارج وبالتالي تبطل المسألة الدينية. فلم يبق إلا الفرض القائل بأن العقل حجة قاطعة يُعتمد عليه، سواء في التأسيس الخارجي أو الداخلي، وهو ما يبرر ممارسات التأويل المألوفة لدى هذه الدائرة. وقد وجد هذا التبرير نقداً منطقياً من قبل الدائرة البيانية، كالذي أبداه إبن تيمية.
العقل وتأسيس الخطاب الديني
تتبنى الدائرة العقلية قاعدة عامة مفادها أن الاستدلالات في القضايا المعرفية مردها إلى الأدلة العقلية. فكل استدلال لا يخلو - من قريب أو بعيد - من تدخل الدليل العقلي. وينطبق هذا الحال على علاقة العقل بالخطاب الديني. فبحسب هذه الدائرة أن من المستحيل تركيب الأدلة من النقل المحض، لتوقف الأخير على دليل العقل المتمثل بقضية «ضرورة صدق المبلّغ». وبالتالي فليس بالإمكان معالجة أي مسألة دينية أو غيرها دون أن يكون لها علاقة بالدليل العقلي.
فمقدمات الدليل لأي قضية إما أن تكون عقلية خالصة، كالمقدمات المستعملة في بيان حدوث العالم ووجود الصانع وقدرته وعلمه وإرادته وكذلك صدق الرسول وما إليها، أو هي مركبة من العقل والسمع، لاحتوائها على مقدمة نقلية مسندة إلى النبي المرسل من قبل الله تعالى[1]، وهي مقدمة تقتضي تقدم المقدمة العقلية عليها. فكما قال الإمام الجويني: «.. إن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلاً، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعاً، والى ما يدرك سمعاً ولا يقتدر إدراكه عقلاً، والى ما يجوز إدراكه سمعاً وعقلاً. فأما ما لا يدرك إلا عقلاً فكل قاعدة في الدين تتقدم على العلم بكلام الله تعالى ووجوب اتصافه بكونه صدقاً، إذ السمعيات تستند إلى كلام الله تعالى، وما يسبق ثبوته في الترتيب ثبوت الكلام وجوباً، فيستحيل أن يكون مدركه السمع»[2].
وقال تلميذه الغزالي: إن «المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدوث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وإرادته، فإن كل ذلك ما لم يثبت لم يثبت الشرع، فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل إثباته بكلام النفس وما يستند إليه، ونفس الكلام أيضاً في ما اخترنا لا يمكن إثباته بالشرع..»[3].
وقال الفخر الرازي: إن «المقدمات التي كلها نقلية محال»[4].
إذاً لا يمكن تأسيس الخطاب الديني من دون الإعتماد على دليل العقل. ومع أن هناك إختلافاً لدى أتباع الدائرة العقلية حول طبيعة القضايا العقلية التي تعتمد عليها المسألة الدينية في التأسيس الخارجي، إلا أنهم يتفقون جميعاً على أن من المحال تأسيس ذلك من دون العقل.
أما فيما يتعلق بتأسيس العقل للخطاب من الداخل، فكما قلنا بأن له مبررين؛ أحدهما يرتبط بتأسيس العقل للخطاب من الخارج، والآخر له علاقة بالتأسيس القبلي للنظر، وهو ما يسمح للعقل بالتشريع ومن ثم التحكم في فهم الخطاب أو تأسيسه من الداخل.
وهناك دوران مختلفان لتأسيس العقل للخطاب من الداخل، أحدهما بعنوان التأييد والمساندة وعدم الممانعة، والآخر بعنوان الممانعة والإنكار.
وبخصوص الدور الأول اعتبرت الدائرة العقلية أن الخطاب الديني قد يؤكد مضامين ما في العقل من قضايا معرفية، كما قد يفصّل ما فيه من مجملات، وعلى الأقل أن فيه قضايا تفصيلية قد لا يطولها العقل بشيء من الإثبات أو النفي، لذا أنه لا يمانع منها وتكون رهن الخطاب وتفصيله.
ومن الأمثلة على ذلك تصريح أبي هاشم المعتزلي كما نقله القاضي عبد الجبار الهمداني، وهو أن «كل ما على المكلّف فعله أو تركه قد ركّب الله جُمله في العقول، وإنما لا يكون في قوة العقول التنبيه على تفاصيلها، سواء كان في أمور الدين أو في أمور المعاش ومنافع الناس، وسواء كان الديني من باب العقليات أو الشرعيات. وهذا الفصل إذا عرفته تبينت أن كل التكاليف مطابقة للعقول وكذلك أحوال المعاملات وما يتصل بالضرر والنفع..»[5]. كما جاء في (فضل الإعتزال وطبقات المعتزلة) للقاضي الهمداني أنه رتّب الأدلة فبدأ بتقديم العقل، حيث به يُعرف أن الكتاب حجة، وكذا السنة والإجماع، ثم قال: «.. وإن كنّا نقول أن الكتاب هو الأصل من حيث أن فيه التنبيه على ما في العقول، كما فيه الأدلة على الأحكام..»[6].
فالهمداني هو أحد الرجال العقليين الذين يبرزون حالات ضرب التأييد والمساندة التي ذكرناها، فهو يعتبر أن في الشرع ما يؤكد أحكام العقل، كتأكيده لوجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى، كما أنه يعمل على تفصيل مجملات الأحكام العقلية. فمثلاً أن وجوب المصلحة وقبح المضرة حكمان مقرران في العقل على الجملة، إلا أن تعيين ما هو مصلحة أو مفسدة قد لا يسع العقل إدراكه إلا بالشرع. يضاف إلى أن الهمداني يعترف بوجود أمور شرعية غير مستحيلة عقلاً، فهي لا تتضارب مع أحكامه رغم عجزه عن إدراك غاياتها، وعلى حد قوله: «قد ثبت أن هناك أفعالاً يكون المرء عندها أقرب إلى فعل الواجبات وتجنب القبائح، فالعلم بأنها ألطاف ومصالح لا يتأتى فيه الدليل العقلي، وذلك لإختلاف أحوال المكلفين وإختلاف الأزمان والأماكن وشروط الأفعال، ولأن ما هو واجب على مكلف قد يحْظر على آخر، وما يحسن من أحدهم قد يقبح من الآخر، ومعرفة ذلك كلّه لا يكون إلا بالشرع، وإلا فكيف تدل العقول على أن الصلاة بلا طهارة لا تكون داعية إلى فعل الواجبات بل تدعو إلى القبيح، وإذا وقعت على طهارة دعت إلى فعل الواجب..»[7].
ومن الأشاعرة من يؤكد هذا الضرب من التأييد والمساندة لعلاقة العقل بالشرع، كما هو الحال مع الإمام الجويني، فهو بعد أن بيّن ما سبق ذكره عما يستقل به العقل دون الشرع من قرارات وأحكام لها طابعها التأسيسي للشرع، يعلن بوجود نوعين من القضايا، أحدهما يُدرك سمعاً لا عقلاً، والآخر هو موضع إدراك الطرفين. فـ «أما ما لا يدرك إلا سمعاً فهو القضاء بوقوع ما يجوز في العقل وقوعه.. ويتصل بهذا القسم عندنا جملة من أحكام التكليف وقضاياها من التقبيح والتحسين والإيجاب والحظر والندب والإباحة. وأما ما يجوز إدراكه عقلاً وسمعاً، فهو الذي تدل عليه شواهد العقول ويتصور ثبوت العلم بكلام الله تعالى متقدماً عليه. فهذا القسم يتوصل إلى دركه بالسمع والعقل. ونظير هذا القسم إثبات جواز الرؤية - لله تعالى - وإثبات استبداد الباري تعالى بالخلق والاختراع وما ضاهاهما مما يندرج تحت الضبط الذي ذكرناه..»[8].
وواضح أنه ليست هناك مشكلة تتعلق بهذا الدور من علاقة العقل بالخطاب، فأحدهما يعمل على تأييد الآخر. والعلاقة بينهما هي علاقة قطع ببيان، فمثلما يتصف العقل بالقطع واليقين، فكذلك يتصف النص بالبيان والإحكام. وبالتالي فإن أحدهما يؤكد الآخر ويسانده.
أما بخصوص الدور الثاني لعلاقة العقل بالخطاب فهو أمر مختلف. إذ يعتمد هذا الدور على الممانعة والإنكار، فهو لا يتقبل بيان النص كما هو ظاهر، تعويلاً على أحكام العقل وتشريعاته القبلية، أي تلك المناطة بالتأسيس القبلي للنظر. فقد اعتبرت الدائرة العقلية أن أحكام العقل وتشريعاته القبلية واضحة ومحكمة وقطعية، وهي من هذه الناحية تختلف عن الأحكام الخاصة بنص الخطاب، فالأحكام الأخيرة ليس بوسعها أن تصل إلى ذات الدرجة التي عليها الأحكام العقلية من الوضوح والإحكام والقطع، وأحياناً فإن ظواهرها تخالف ما يحكم به العقل فيستدعي ذلك تأويلها.
فقد جاء على لسان الشريف المرتضى قوله وهو بصدد تأويل الآية ((ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء))[9]: «إنه إذا ثبت بأدلة العقول التي لا يدخلها الإحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أن المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام، صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها كما يُفعل مثل ذلك في ما يرد بظاهره مخالفاً تدل عليه العقول من صفاته تعالى وما يجوز عليه أو لا يجوز»[10].
كما جاء عن هذا المتكلم الإمامي قوله وهو بصدد بحث عصمة الأنبياء: «إعلم أن الأدلة العقلية إذا كانت دالة على أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز أن يواقعوا شيئاً من الذنوب صغيراً وكبيراً، فالواجب القطع على ذلك، ولا يرجع عنه بظواهر الكتاب، لأنها إما أن تكون محتملة مشتركة، أو تكون ظاهراً خالصاً، لما دلت العقول على خلافه، لأنها إذا كانت محتملة حملناها على الوجه المطابق للحق الذي هو أحد محتملاتها، وإن كانت غير محتملة عدلنا عن ظواهرها وقطعنا على أنه تعالى أراد غير ما يقتضيه الظاهر مما يوافق الحق»[11].
وجاء عنه أيضاً تأكيده بأن للعقول «دلالة على جميع الأحوال غير محتملة، فرددنا كل مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل..»[12].
وهو نفس ما قرره تلميذه الشيخ الطوسي، إذ أكد هذا المعنى وهو بصدد بحث مسألة عصمة الأنبياء فقال: «الظواهر تبنى على أدلة العقول ولا تبنى أدلة العقول على الظواهر، وإذا علمنا بدليل العقل أن القبيح لا يجوز عليهم - الأنبياء - تأولنا الآيات إن كانت لها ظواهر»[13].
فتلك النصوص لا تكشف عن تقرير ما يتصف به العقل من حقيقة وقطع وإحكام، بل وتكشف أيضاً عما يتصف به النص ذاته من مجاز وإحتمال وتشابه، أو عدم بيان.
[1] انظر: جمال الدين الحلي: أنوار الملكوت، انتشارات الرضي ـ بيدار، الطبعة الثانية، ص10ـ11 و14. والغزالي: الإقتصاد في الإعتقاد، دار الأمانة ببيروت، 1388هـ ـ1969م، ص198. وفخر الدين الرازي: الأربعين، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، ص424. وحسن چلبي: شرح المواقف، ج1، ص208.
[2] الجويني: الارشاد، مكتبة الخانجي في مصر، ص358ـ360.
[3] الإقتصاد للغزالي، ص198.
[4] فخر الدين الرازي: أصول الدين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 1404هـ ـ1984م، ص25.
[5] عبد الجبار الهمداني: المجموع في المحيط بالتكليف، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، نشر وتصحيح الأب جين يوسف اليسوعي، ج1، ص22.
[6] مقدمة المحقق عدنان محمد زرزور لكتاب متشابه القرآن للهمداني، ج1، حاشية ص41.
[7] عبد الجبار الهمداني: المغني في أبواب التوحيد والعدل، الدار المصرية للتأليف والترجمة، تحقيق أبي العلا عفيفي، مراجعة ابراهيم مدكور، اشراف طه حسين، ج15، ص27.
[8] الارشاد، ص359 ـ360.
[9] يوسف/ 24.
[10] أمالي الشريف المرتضى، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي في قم، 1403هـ، ج2، ص125ـ126.
[11] رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص121. وتنزيه الأنبياء، منشورات الشريف الرضي في قم، ص14 و24 و93.
[12] رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص56.
[13] أبو جعفر الطوسي: الإقتصاد في الإعتقاد، منشورات مكتبة جامع چهلستون، طهران، ص162. وابو جعفر الطوسي: الرسائل العشر، تقديم محمد واعظ زادة الخراساني، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم، تقديم واعظ زادة الخراساني، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم، ص325.