يحيى محمد
يتصور الكثير خطأً أن باب علم الحديث لدى الشيعة مفتوح من دون شائبة..
والحال ان هذا العلم صادف مشاكل جعلته يقع في خندق الإنسداد، ويمكن اجمالها بحسب النقاط التالية:
1ـ مع أن إهتمام علماء الشيعة بعلم الرجال والجرح والتعديل يعود إلى زمن أئمة أهل البيت، لكن كتبهم التي شاعت في ذلك العصر وما بعده بقليل لم يعد لها أثر في الأزمان المتأخرة. فأبرز ما بقي من الكتب المعتمدة هي أربعة صغيرة متأخرة تعرف بالأصول الرجالية الأربعة. كذلك بعض مما بقي من الكتب التي سبقتها مثل رجال البرقي ورجال العقيقي. لكن هذه الكتب الأخيرة لا تعد من الأصول لعدم تضمنها التحقيق في توثيق الرجال، وإن كان حالها ليس بأفضل من بعض الأصول المعتبرة كرجال الشيخ الطوسي، فهو أيضاً لا يحمل صفة التعديل والتجريح. وهذا يعني ان هناك فجوة بين علم الرجال وبين أغلب الرواة الذين يتحدث عنهم هذا العلم. بل هناك انسداد في الطريق لوجود الفاصلة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين زمن الكتب المتبقية من علم الرجال وبين زمن الرواة الذين عاصروا الأئمة وعلى رأسهم الإمام الصادق الذي غلبت عنه الرواية.
والأصول الأربعة التي وصلتنا في علم الرجال، هي رجال النجاشي وثلاث كتب لأبي جعفر الطوسي، وهي: الرجال والفهرست واختيار رجال الكشي. يضاف اليها رجال ابن الغضائري المسمى (كتاب الضعفاء) وهو كتاب شكك العلماء فيه. فهذه هي الكتب الاساسية الوحيدة التي بقيت خلال القرن السابع الهجري والتي إعتمد عليها المتأخرون بدءاً من ابن طاوس (المتوفى سنة 673) وتلميذيه العلامة الحلي وابن داود حتى عصرنا الحاضر.
لذلك فإن ما ورثه المتأخرون عن معرفة المتقدمين هي تلك التي قدمها لهم الطوسي ومعاصره النجاشي رغم الفاصلة الكبيرة التي تفصل زمانهما عن عصر المتقدمين، وعادة ما تكون سلسلة السند في توثيقات هذين الرجلين للرواة طويلة تبعاً لتعدد الوسائط من خبر الواحد، وهي في النتيجة لا تعطي المادة الكافية. وإذا عرفنا أن أغلب نصوص الحديث رويت عن الإمام الصادق، فإن الفاصلة التي تفصل بين عصر هذا الإمام وعصر النجاشي والطوسي تقارب الثلاثمائة سنة، حيث توفي الصادق في منتصف القرن الثاني للهجرة (148هـ) وتوفي النجاشي في منتصف القرن الخامس للهجرة (450هـ) وكذا توفي الطوسي قريب هذه الفترة، وبين المدتين فاصلة كبيرة، فكيف يمكن الإطمئنان إلى توثيقهما للرواة الذين عاصروا الصادق ورووا عنه مع طول هذه المدة وقصر العبارات التي أورداها واقتضابها، إذ غالباً ما لا تفي بشيء مهم في التعرف على الراوي؟!
علماً بأن الشرط الزمني في التوثيق ليس غائباً عن أعين بعض المحققين. فهذا أبو القاسم الخوئي يرى ان من شروط التوثيق هو أن يكون من أخبر عن وثاقته معاصراً للمخبر أو قريب العصر منه، ولا عبرة بتوثيق من كان بعيداً عن عصره، لأنه يكون مبنياً على الحدس والاجتهاد فحسب. ولا شك ان هذا الحال ينطبق تماماً على توثيق الشيخين الطوسي والنجاشي ومن عاصرهما. وفيه يتبين انسداد علم التوثيق سواء أخذنا الأمر من حيث اجتهاد هؤلاء الموثقين، أو اعتبرنا انهم انما بنوا توثيقاتهم تبعاً للنقل والرواية، حيث الوسائط الكثيرة.
2ـ إذا غضضنا الطرف عن مشكلة التوثيق في علم الرجال، وتساءلنا عن الكيفية التي تعامل بها أصحاب الكتب الأربعة مع سند الروايات التي جمعوها، فهل بدا منهم حرص على الإهتمام بالسند لمن رووا عنه؟ أم كانوا مجرد نقلة جامعين من غير تحقيق؟
واقع الأمر أنه قد استقر عمل هؤلاء على ما شاع عندهم من الكتب المعروفة دون تحقيق وتدقيق في السند الذي يوصل إلى هذه الطرق، ولا إلى ما يتصف به أصحابها ومضامينها، وكأنها كتب صحاح بما تضمنته من الروايات. فمثلاً يصدّر الكليني سنده بذكر اسم الراوي عادة دون أن يعرّف اتصاله به إن كان قد عوّل في ذكره على ما في الكتب والأصول المشهورة آنذاك، أو أنه استند إلى طريق آخر، والأرجح هو الأول، لا سيما أنه روى حديثاً يفيد هذا المعنى.
لذلك ورد عن المفيد قوله وهو بصدد نقده للشيخ الصدوق: ‹‹لكن أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلة فطنة، يمرون على وجوههم في ما سمعوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في اثباتها ولا يحصلون معاني ما يطلقون منها››. كما ورد عن الشريف المرتضى قوله وهو بصدد نقد أصحاب الحديث من الشيعة: ‹‹ومن اشرنا اليه بهذه الغفلة يحتج بالخبر الذي ما رواه ولا حدّث به ولا سمعه من ناقله فيعرفه بعدالة أو غيرها، حتى لو قيل له في الأحكام: من أين اثبتّه وذهبت اليه؟ كان جوابه: اني وجدته في الكتاب الفلاني، ومنسوباً إلى رواية فلان بن فلان. ومعلوم عند كل من نفى العلم بأخبار الآحاد ومن اثبتها وعمل بها، ان هذا ليس بشيء يعتمد ولا طريق يقصد، وانما هو غرور وزور››. لا سيما وان الروايات التي يتعامل معها أصحابها لا تحمل صفة علو الإسناد في الوساطة الرجالية إلا في النادر، كالذي صرح به العلامة الحلي، ومعلوم أنه كلما قلت الواسطة كلما كان إحتمال الكذب أقل.
وقد شكّل هذا الحال معضلة لدى المتأخرين من الأصوليين، وذلك انهم صرحوا بإعتبار الواسطة والاعتناء بها، والتي منها الطرق إلى أصحاب الكتب والأصول التي ظلت مجهولة لدى المتأخرين. وزاد المتأخرون من التعويل على الكتب التي عثروا عليها مما ينسب إلى القدماء رغم الفاصلة الزمنية الطويلة وقوة إحتمال الوضع والدس والتزوير، فقد أدرج الحر العاملي في كتابه (وسائل الشيعة) ثمانين كتاباً ظفر بها من كتب المتقدمين، وكذا أدرج حسين النوري في كتابه (مستدرك الوسائل) أكثر من ستين كتاباً ظفر بها، وهناك من أضاف إلى ذلك كتباً عثر عليها للقدماء المعاصرين للأئمة؛ مثل بصائر الدرجات للصفار والمحاسن للبرقي، وجملة أخرى من الأصول قدرت بثلاثة عشر أصلاً، وقد اعترف الشيخ النوري أن جملة من تلك الكتب التي اعتمد عليها المتأخرون كالحر العاملي في (وسائل الشيعة) هي مما لم تثبت نسبتها إلى مؤلفيها، كفضل الشيعة للصدوق، وتحف العقول، وتفسير فرات، وإرشاد الديلمي، ونوادر أحمد بن محمد بن عيسى، والاختصاص للمفيد وما إليها.
بالإضافة إلى ذلك ما تقبله أصحاب الكتب الأربعة من الروايات الضعيفة، ومنهم من اعتبرها مقطوعة الصدور، كما أن منهم من تعبّد بالعمل بها ضمن شروط. وكان موقفهم من الرواة يستند إلى مبدأ المسامحة، فأكثرهم تشدداً هو الشيخ الطوسي الذي مارس مهمة الجرح والتعديل دون سابقيه، وهي المهمة التي ورثها عنه الفقهاء الأصوليون فيما بعد، لكنه مع ذلك لم يمانع من الأخذ بالروايات الضعيفة حين تسلم من المعارض الأقوى ولم يكن رواتها معروفين بالكذب. فهو يقبل كون الراوي ثقة من حيث تحرزه عن الكذب في الرواية وإن كان فاسقاً بجوارحه، وادعى أن الطائفة كانت تعمل بالأخبار التي يرويها من هكذا صفته وحاله. كما أنه يقبل الروايات المرسلة إذا ما كان الراوي معروفاً بأنه لا يروي إلا عن ثقة، وكذا يقبل الروايات المرسلة بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة، واحتج بأن الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما تعمل بالمسانيد من دون فرق. كذلك رغم إعترافه بأن الكثير من المصنفين القدماء كانوا ينتحلون المذاهب الفاسدة، إلا أنه اعتبر كتبهم وأصولهم معتمدة. ويؤيد هذا المعنى ما آل إليه المحقق الحلي حين انتقد الجماعة التي تعمل بمبدأ صحة السند، فاعتبر ذلك طعناً بعلماء الطائفة وقدحاً في المذهب، مؤكداً على أن ما من أحد فيهم إلا ويعمل بخبر المجروح.
هذا مع الشيخ الطوسي، أما الكليني والصدوق فلا شك أنهما لم يباليا بالجرح والتعديل، فقد كان الصدوق يعوّل في توثيقه على شيخه أبي الوليد، وجاء في كتابه الكثير من الروايات الضعيفة حسب إصطلاح المتأخرين. أما الكليني فمن الواضح أنه لم يشترط على نفسه ضابطاً في انتخابه للروايات التي جمعها، وإن اتخذ صورة المسامحة في العمل، بعد أن اعترف باللبس الذي يحيط بالروايات المتداولة آنذاك، كالذي أشار إليه في مقدمة الكافي، حيث كان عمله شبيهاً بعمل المتأخرين فيما اصطلحوا عليه بالأصول العملية، كما أنه لم يعوّل على الجرح والتعديل؛ فكان يروي عن الضعفاء من المنحرفين والغلاة وغيرهم.
3ـ يمكن أن نتساءل: هل كان القدماء المحققون من الفقهاء يثقّون بالروايات المشتهرة في زمانهم والمدونة في الأصول الأولية والجوامع الحديثية؟ وهل كانوا يرون فيها شيئاً من الحجية كما ذهب إليه المتأخرون من الأصوليين؟
لعل الجزء الرئيسي من الاجابة على هذا التساؤل يتحدد بموقف القدماء من خبر الآحاد وحجيته. فأغلب المحققين من القدماء لم يتقبلوا خبر الآحاد ما لم تكن معه قرائن دالة على القطع، خلافاً لما آل اليه المتأخرون. وقيل ان الذين منعوا الأخذ بخبر الآحاد هو كل من سبق الطوسي، بل والكثير ممن جاء بعده، مثل المفيد والمرتضى وابن ادريس وابن زهرة والطبرسي، كما نسب هذا المنع إلى المحقق الحلي وابن بابويه، وجاء في (الوافية) للفاضل التوني أنه لم يجد القول بحجية خبر الآحاد صريحاً ممن تقدم على العلامة الحلي، واعتبر الأنصاري هذا الأمر عجيباً. ويعد المفيد والمرتضى أبرز القدماء الذين منعوا العمل بهذا الخبر.
والأهم من ذلك أن المرتضى طعن بجميع روايات الفقه المشتهرة في عصره، متهماً ناقليها بانحرافهم عن الإعتقاد الحق وعدم العدالة.
على ذلك يمكن القول إن هناك نزعة تشكيكية سادت بين المحققين القدماء إزاء الروايات المدونة في الأصول الأولية وكتب الحديث القديمة، رغم تباين حجم هذا التشكيك بينهم. وهو موقف يختلف عما آل إليه المتأخرون؛ سواء الإخباريون منهم أو الأصوليون، بإستثناء أصحاب دليل الإنسداد.
4ـ تتصف الروايات الشيعية المعتمد عليها بكثرة التعارض في مختلف أبواب الفقه والعقيدة، وهي حقيقة اعترف بها العلماء وجعلت البعض يرتد عن مذهبه، كما أودت ببعض آخر إلى أن ينأى بنفسه عن الفتوى لتضارب الأحكام بعضها مع البعض الآخر.
وربما يكون الطوسي هو أول من شغل نفسه بهذا المشكل، فكتب كتابه (تهذيب الأحكام) بناء على ما علمه من أن عدداً من علماء الشيعة قد تركوا المذهب لأجل ما رأوه من إختلاف الرواية وتعارضها.
على أن كثرة التعارض بين الروايات جعلت الحقيقة الدينية ضائعة. وقد لمّح بعض العلماء إلى هذه النقطة، معترفاً بأنه لا يمكن التوصل إلى الحقيقة الدينية النابعة عن كلام الأئمة عبر الوسيلة العرفية المطلق عليها حجية الظهور. وكما ذكر المحقق الخوئي بأن كلام الأئمة لما كان يختلف من أحدهم لآخر للتقية أو لغيرها، فإنه على ذلك لا تجري فيه أصالة حجية الظهور التي هي أصل عقلائي. وقبله ذكر الأنصاري أن عمدة الإختلاف في الرواية يعود إلى كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار، إما بقرائن متصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار أو نقلها بالمعنى، أو منفصلة مختفية لكونها حالية معلومة للمخاطبين، أو مقالية اختفت بالإنطماس، وإما بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام من تقية وما إليها. بل وقبل ذلك اعترف الكليني بضياع الحقيقة، الأمر الذي عوّل فيه على صيغة العمل بما وسع له من إختيار.
وكان من نتائج الدس والكذب أن ظهرت أعداد كبيرة من الأحاديث المخالفة لظواهر الكتاب والسنة. وكما ذكر الأنصاري أن الأخبار المخالفة لظواهر الكتاب والسنة كثيرة جداً، معلقاً على ذلك بأنه لا يصدر من الكذابين ما هو مباين للكتاب كلية كي لا ينكشف الوضع. ومثل ذلك ما أشار إليه الآخوند الخراساني، وهو أن الأخبار المخالفة لعموم الكتاب كثيرة جداً. وعليه أن من الصعب الوثوق بمثل هذه الأخبار، ناهيك عن أن تكون حاكمة على نص الكتاب القطعي، سواء بالتخصيص أو التقييد أو النسخ، أو أي شكل من أشكال التغيير في المعنى والحكم كما يمارسها أصحاب الدائرة البيانية.
كما لم ينفع الإصطلاح المستحدث في تقسيم الحديث، فهناك روايات تعد من الصحاح رغم أنها متهافتة أو ظاهرة الوضع. ففي رواية في أصول الكافي عدّت صحيحة رغم ما تتضمنه من تناقض، إذ جاء أن معنى الذكر في قوله تعالى: ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)) هو رسول الله، وأن قومه هم أهل بيته. مع أن في هذا الحديث تناقضاً، إذ كيف يكون الذكر رسول الله وهو المخاطب الذي اضيف إليه الذكر؟! بل جاء بعده مباشرة حديث آخر عدّ صحيحاً أيضاً رغم أنه يخالف الأول، حيث ورد فيه أن الذكر هو القرآن.
وبهذا يتضح أن قضية إبعاد الروايات المختلقة ومعالجة التعارض بين الأحاديث هي أكبر من أن يطالها علم التوثيق كما تكفّل به التقسيم المستحدث والذي عمل به العلماء وما زالوا.